دراسة لديوان وهج الحنين للشَّاعر نيقولا مسعد

تاريخ النشر: 06/02/15 | 13:57

مقدِّمة ٌ:الشَّاعرُ القديرُ الأستاذ “نيقولا مسعد ” من سكَّان “يافة الناصرة “، أصدرَ عدَّة َ دواوين شعريَّة، وهي:
1) أحلام الربيع (طبعة أولى سنة 1972).
2) أجنحة الفراش – سنة 1977.
3) قلعة الياسمين. 4) الشَّوق الكبير.
5) عبير الورود. 6) إحتراق في عينيكِ.
7) ديوان “وهج الحنين ” الذي بين أيدينا الآن.
يُعتبرُ الأستاذ ” نيقولا مسعد ” من أوائل الشُّعراء المحلِّيِّين المُبدعين (داخل الخط الاخضر) وقد اطلقَ عليهِ البعضُ لقبَ ” نزار قبَّاني الثاني”.. أو نزار قبَّاني عرب ال 48 (فلسطينيِّي الداخل).
عملَ نيقولا مسعد في البدايةِ في سلك التدريس وتبوَّأ بعد ذلك عدَّة َ وظائف هامَّة… ويعملُ الآن رئيسا لمجلس عُمَّال يافة الناصرة.. ويُصدرُ أيضًا مجلة ” الشُّعاع ” الشَّهريَّة – وهي مجلَّة ٌ أدبيَّة ثقافيَّة فنيَّة إجتماعيَّة جامعة.
مدخل: يكتبُ نيقولا الشِّعرَ على جميع الأنماط والأساليب: الكلاسيكي التقليدي وشعر التفعيلة والشِّعر الحديث الحُرّ (المتحرِّر من قيود الوزن والقافية)… وقد أبدعَ في جميع هذه الأنماطِ أيُّمَا إبداع.
يمتازُ شعرُهُ بالجمال ِ اللفظي والسَّلاسةِ والإنسيابِ والعذوبةِ والرُّومانسيَّةِ وبالتكثيفِ من الصُّور الشِّعريَّةِ الخلابةِ والتعابير البلاغيَّةِ والإستعاراتِ المُستحدثةِ وبالعُمق في المعاني والجزالةِ في اللغةِ وبالفلسفةِ العميقةِ الشُّموليَّةِ وبالنظرةِ الإنسانيَّةِ التقدُّميَّةِ الشَّاملةِ. وديوانهُ هذا “وهج الحنين” يقعُ في (109 صفحات) من الحجم المتوسِّط طُبعَ على نفقةِ الشَّاعر…يضُمُّ العديدَ من القصائد بعضها على نمط شعر التفعيلةِ بَيْدَ أنَّهُ لا يلتزمُ بوزن (بحر) واحد أحيانا فيستعملُ عدَّة َ بحور وتفاعيل في نفس القصيدة وبشكل ذكيِّ فنيٍّ مُتقن يبقى الإيقاعُ والجَرسُ الموسيقي في القصيدةِ مُتوهِّجًا متألِّقا يُطربُ الأذنَ والعقل والقلبَ والوجدان..والبعضُ من القصائدعلى نمطِ الشِّعر الحُرِّ… وفي آخر الديوان عدََّة قصائد كلاسيكيَّة (تقليديَّة) موزونة ومقفاة ولكنَّ طابعها وجوُّهَا ولونها حديثٌ فلا يشعرُ القارىءُ بالرُّوتين والرَّتابةِ وبالجوِّ الكلاسيكي التقليدي.
وسأختارُ من هذا الديوان بعضَ القصائد للدراسةِ والتحليل..وسأبدأ بقصيدةِ: (إقتربي يا مواسم الأفراح – صفحة 8 – 11)
إنَّ هذهِ القصيدة َ عميقة ٌ في معانيها وأهدافِها ويشوبُهَا ويكتنفها الغموضُ والضَّبابُ في بعض جملِها..والمعاني المُبطَّنة…وقد تُفهَمُ بعضُ الغباراتِ والجمل فيها على عدَّةِ أشكال ومعاني..ولكنَّ مفادَ وهدفَ وفحوى القصيدة هو موضوعُ السَّلام والمحبَّة بين الناس واخوَّة الشُّعوب وفيها نستشفُّ النبرة َ الإنسانيّة َ والحِسَّ الأممي الشَّامل. والشَّاعرُ في هذهِ القصيدةِ يكيلُ اللومَ والإنتقادَ والتوبيخَ والإدانةَ َ لجميع قوى الشَّرِّ ولكلِّ مصدر وجهةٍ شيطانيَّةٍ مهما كانت لا تريدُ السلام والهدوء والرَّاحة َ والإستقرار للغير بغضِّ النظر ما نوع ومصدرهذه الجهة الشرِّيرة..فيقولُ مثلا في القصيدة:
(” أيُّهَا النزفُ السَّائرُ فينا //
توقفْ كما الطوفان // منذ آلافِ السِّنين //
سِرْ مع النَّجم ِ // إلى هلاكِ الهاوية // بلا رجعهْ //
أيُّهَا الخُبثُ الزَّاحف // كأفعى البَرّ //
تتلوَّى كسهام البطش // لتقذفَ السُّمَّ فينا //
ما عادت أيَّامنُنا تحتملُ // الشَّرَّ والخُبثَ والغثيان // “).
ثمَّ تتغيَّرُ النبرة ُ والتوجُّهُ في هذه القصيدةِ بشكل مفاجىء إلى مسار آخر… إلى جوِّ التفاؤُل والأمل فتتراقصُ الأضواءُ ويشعُّ النور ويتلاشَى الظلامُ ويختفي الشِّرُّ ويمَّحي اليأسُ والإحباطُ. فيرى الشَّاعرُ مواسِمَ الأفراح تقتربُ وليالي المرح وطيورالسَّعد والمحبَّة تملأ الشُّطآن..والشَّرق والغرب جميعه يهزجُ ويغنِّي ويترنّمُ بموسيقى المحبَّة التي هي أجمل من كلّ ترّهاتِ وسخافات البغض وترسانات الحروب. ويطالبُ الشَّاعرُ في نهايةِ القصيدةِ بحلول وتحقيق السَّلام الأبدي والحُبِّ والوئام في هذا العالم لأنّ الحُبَّ واحدٌ والكونُ واحدٌ وكلَّ البشر سواسية ٌ ولهم إلهٌ واحدٌ خالق الجميع… فيقولُ الشَّاعرُ:
(” إقتربي يا مواسمَ الأفراح // وعودي يا ليالي المَرَح //
مُشَعشَعة َ الأنوار //
وابعثي في جنباتِنا بشائر الأمانْ //
وَهلِّلي يا طيورُ السَّعدْ // لتملئي شُطآننا //
بكائناتِ الأرضِ في كلّ مكان //
ويهزجُ في كلِّ الشَّرق // ويهزجُ في كلِّ الغربْ //
فموسيقانا أجملُ من ترَّهاتِ البَعضْ // وترسانات الحرُوبْ //
فليحلَّ الحُبُّ والوئامُ فينا // فالحُبُّ واحدٌ // والكونُ واحدٌ //
وكلُّنا سواسية ٌ أحبَّاءْ // لأنَّ اللهَ واحدٌ للجميع… // “).
وهنالكَ قصيدة ٌ أخرى في هذا الديوان تأتي بعدَ هذه القصيدة بالترتيب يتناولُ الشَّاعرُ فيها نفسَ الموضوعَ وبنفس التوجُّه، وفيها يُوظِّفُ عناصرَ الطبيعة: كالغيوم وزهور الروض وأعشاب الحقول والمراعي والقطيع والحَرّ والهجير للوصول إلى الهدفِ والرِّسالةِ التي يريدُها.. وهي المحبَّة والسَّلام ونبذ ودحرالظلم والفساد والضغينة والكراهية من المحتمع والكون، فيقولُ: (صفحة 12 – 13):
(” أمطري أيَّتُهَا الغيومُ // واروي ظماءَنا //
وَبَدِّدِي موجات الحَرِّ القاتل عن ربوعنا //
قد أعيانا الضَّجَرُ // وَحَلَّ الذهولُ بنا //
ذبلتْ زهورُ الرَّوض ِ // يبسَتْ أعشابُ الحقل //
وامتنعَ القطيعُ عن المَراعي //
وَبدَا كلُّ شيىءٍ // في غايةِ الخمولْ //
هكذا الطبيعة ُ تقسو علينا // ولا نحتملُ شُذوذهَا // “).
وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان: (ويتفجَّرُ الضُّوءُ – صفحة 15 – 17)…وهي قصيدة ٌ غزليَّة ٌ وإنسانيَّة ٌ يُوظِّفُ فيها الشَّاعرُ بعضَ الأسماء والرُّموز التاريخيَّة لتحقيق هدفهُ وإيصال فكرتِهِ التي يريدُها، مثل: مزامير داود..ونيرون وفرعون…إلخ…والقصيدة ُجميلة ٌوعذبة ٌ وَمُشِعَّة ٌ بمعانيها الفلسفيَّة، والقارىءُ العادي والبسيط قد يفهمها على أنها قصيدة غزليَّة بحتة حيث يخاطبُ الشَّاعرُ فيها حبيبتهُ التي يعشقها وهو يراها أجملَ وأسمى وأقوى من كلِّ شيىءٍ بالنسبةِ لهُ…فعندما يكونُ معهَا يُحسُِّ كانَّهُ أقوى من جميع حُكَّام وطغاة الأرض على مرِّ العصور، مثل نيرون وفرعون..إلخ….وكأنّهُ يمتلكُ العالمَ بأجمعِهِ. ونجدُ في هذه القصيدةِ عنصرَ الإيمان القويّ المترع بالتفاؤُل والحبّ…ونجدُ بوضوح تأثُّرَ الشاعر بالكتبِ المقدَّسةِ وبالذات بمزامير داود وأسلوبها الغنائي الشاعري والطابع الفلسفي والحكمي الذي يشوبُهَا..وبجوّ السلام والعذوبة والجمال اللفظي والرُّومانسيَّة…ووصفِ مفاتن وجمال وروعة الطبيعة والتغنِّي بسحرها والتصوُّف في محرابها والتي هي انعكاسٌ لعظمةِ وبهاء وجلال الخالق، فبالإيمان نحسُّ أنَّ كلَّ شيىءٍ في الطبيعةِ السَّاحرةِ ينطقُ باسمهِ ويشهدُ لقدرتِهِ وعظمتِهِ وإبداعِهِ الخالد وخلقهِ للطبيعةِ والكون. وحبيبة الشَّاعر هي جزءٌ وعنصرٌ من هذا الوجود ومن هذه الطبيعةِ بسحرها وروعتها…ولكن هذه الفتاة ليست مجرَّدَ فتاةٍ عاديَّةٍ عند شاعرنا جميلةٍ وأنيقة..بل هي الحريَّة والعدالة المُطلقة والفجر المُشِعّ..وهي قاتلة ُ الشيطان وهازمة الشِّرّ وطاردة الظلام وناشرة ُ النور والظلال والأجواء الجميلة…وبكلماتٍ أخرى مقتضبةٍ إنَّ شاعرَنا يتحدَّثُ عن الحُريَّة والعدالةِ المُطلقةِ فيُشبِّهُها بفتاةٍ رائعةِ الجمال… أو بالأحرى فتاته التي يعشقها وهي بالنسبةِ لهُ كلّ شيىء: النور والهواء والعدالة والوجود بأسرهِ مثلما الحريَّة والعدالة وانطلاق النفس والرّوح واستقلاليَّتها وعدم تقيُّدِها وتبعيَّتِها لأيََّةِ جهةٍ – فيقولُ في القصيدة:
(” يتفجَّرُ الضوءُ في عينيكِ // ينبعثُ إلى مسافاتِ البُعد //
يا قاتلة َ الشيطان // يتبعثرُ النور كغزلان البَرّ //
بينَ سنابل القمح وفي قوافل الدخان // “).
… وربما هذه التشبيهات وهذه الإستعارات البلاغيَّة لم يستعملها شاعرٌ آخر قبل شاعرنا… وإنها لتشبيهات رائعة ٌ ومبتكرة مثل جملة:
(يتبعثرُ النورُ كغزلان البرّ وفي قوافل الدخان).
ويقولُ الشاعرُ أيضا:
(” أيَّتها الساحرة ُ // كيف يهدأ بحرُ عينيك //
من غير فيض أو هَيَجان //
ويسقطُ جدارُ الوهم // وتمتلىءُ نفسي العطشى ؟!! //
إيمانا بمزامير داود //
وأروحُ احَلِّلُ نيرونَ وفرعون // وأدرسُ التاريخ //
فأجدُ أنَّ معادلاتِ الحبِّ لديكِ //
أقوى من جميع الطغاةِ في كلِّ العصورْ //
وأسدلُ الستارَ ثانية ً وارجعُ إليكِ // لأمتلكَ العالمَ من جديدْ “).
وأمَّا قصيدة (درب الهدى – صفحة 18 – 20) فيتحدَّثُ فيها الشاعرُ عن الخطيئةِ وأضرارها وانعكاساتها الوخيمةٍ على الإنسان والمجتمع بشكل عام. فيشبِّهُ الخطيئة َ بفتاةٍ عابسةٍ مكفهرَّة الوجه ولهَا يكفهرُّ الأفق وتصفرُّ الحشائشُ..ويطبُ الشاعرُ من الخطيئةِ أن تبتعدَ عنهُ وعن دربهِ. ويخاطبُ نفسَهُ العطشى المتشوقة لكلِّ متعةٍ ولذةٍ عابرة أن تهدأ وتستكينَ ولا تلتفت وتجري وتهرع وراءَ الخطيئة ِ وإغرائها الشديد. ويطلبُ الشاعرُ من إلههِ أن يقوِّيهِ ويمدَّهُ بالصبر والإيمان ليجتازَ كلّ شركٍ ومصيدةٍ وأن يمنحهُ القناعة َ ولا يقعُ في الخطيئة.. فليسدِّد الرَّبُّ خطاهُ ليسبِّحَ اسمَهَُ كلَّ حين. ويتمنى الشاعرُ، بدورهِ، من الكفار وقساة القلوب ومن كلِّ ملحدٍ أن يهدؤُوا جميعا ويسيروا في درب الإيمان وطريق الخلاص. ولا شكَّ أنَّ شاعرنا تأثرَ بالكتاب المقدَّس، وخاصَّة بسفر الأمثال لسليمان الحكيم عندما يتحدَّثُ عن الخطيئة فيشبِّهُهَا الملكُ سليمان”للخطيئة ” بامرأةٍ فاتنة جذابة رائعة الجمال وساحرة ولكنها زانية تخونُ زوجها مع الغير وتحاولُ أن توقعَ كلَّ شاب في حبِّها (عشقها الجسدي) وارتكاب الخطيئة معها…فكلُّ من يقعُ في شركها وبراثنِهَا يكون مصيرُهُ الألمَ والندم وسوءَ العاقبة…أي الإنفصال الروحي…الإنفصال عن الخالق جلَّ جلالهُ والدينونة الأبديَّة والعقاب المستحقّ والخلود في الجحيم…بيدَ أنَّ شاعرنا شبَّهَ الخطيئة َ بقتاةٍ يكفهرُّ الأفقُ من ثنايا وجهها العابس. وأمَّا سليمان الحكيم في سفرهِ (كما ذكر أعلاه) فقد شبَّهَ الخطيئة َ بامرأةٍ جميلةٍ لعوبٍ ضاحكةٍ ومغناج وليست بعابسةٍ ومكفهرَّة… فيقولُ شاعرنا مثلا:
(” يكفهرُّ الأفق من ثنايا وجهكِ العابس // في ليل الصفاءْ // تصفرُّ حشائشُ البرِّ // كلون ثوبكِ المشدود // اعن جسدِكِ الصارخ // من هضاب صدركِ // إلى أعالي السماءٍ // إبتعدي أيَّتها الخطيئة ُ عنِّي // إهدئي يا نفسي العطشى // لإغرائِها المُنبعث // من وراء الثوب //”).
ولشاعرنا بعضُ القصائد كانَ من المفروض أن تدخلَ ضمنَ المناهج الدراسيَّة (في المدارس) ولجيل الأطفال لقيمتها التعليميَّة والتثقيفيَّة ولأنها تدخلُ في نفس وفكر ووجدان الطفل المحبَّة والخير والسلوك الحسن والقيم والأخلاق…وأهمّ شيىء هو الإيمان الكبير بالخالق – جلَّ جلالهُ – خالق الوجود والذي وضعَ فينا نسمة َ الحياة. وكلُّ شيىءٍ في هذا الكون يتمُّ ويكونُ بمشيئتِهِ…وهو الذي ينقذنا ويخرجنا من الشدَّاتِ والمآزق والصِّعاب ويمَهِّدُ لنا سبلَ وطرقَ العيش والنجاح في كلِّ شيىء..ويجبُ علينا أن نضعَ ثقتنا كليًّا بهِ في كلِّ أمر وموضوع..وهوَ لا يتخلَّى عنَّا بل يضعُ لمسَتهُ علينا ويساعدُنا دائما عندما نتعرَّضُ لأيِّ ضيق. يقولُ شاعرُنا من قصيدةٍ (إمنحنا سلامَكَ – صفحة 29) والتي يظهرُ فيها جليًّا تأثرُهُ الكبيرُ بالأناجيل:
(” ويكبرُ الإيمانُ فينا // كحبَّاتٍ القمح في الحقولْ //
إلهي نعبدُكَ فأنتَ القديرُ // ونسجدُ لكَ فأنتَ الرَّحيم //
أتنتَ رجاؤُنا // ونتكلُ عليكَ في كلِّ حين //
فإن كثرَ البخلُ // فأنتَ الكريم //
وإن حلَّ الضَّعفُ / فأنتَ القويُّ //
وإن جارَ الحُكمُ // فأنتَ الصَّديق //
وإن زادَ الشِّر ُّ // فأنتَ الخيرُ //
وإن سادَ الظلمُ // فأنتَ العدلُ // وإن شحَّ المالُ فأنتَ الخير ُ //
إلهي تحتَ ستركَ نحيا // والأرضُ تحتاجُ لرأفتِكَ //
وخيركَ ورحمتكَ وعدلك //
يا صانعَ السلام، // لا تبخل علينا بالسلامْ //
من لدنكَ // قوِّنا بنعمتِكَ // إمنحنا سلامَكَ
فأنتَ رجاؤُنا // ونتكلُ عليكَ في كلِّ حين // وإلى أبدِ الآبدينْ // “).
وإلى قصيدةٍ أخرى صفحة (31 – 39) حيث نجدُ فيها بالإضافةِ إلى المعاني العذبة والكلمات الرقيقة نبرة َ الألم فيخاطبُ فتاتهُ ويسألها هل سيعودُ السلام وينبعثُ الضوءُ وهل ستهدأ الأيامُ من لجَّةِ الأحزان ويعودُ ضوءُ النجم يسطعُ من جديد… إلخ. والقصيدةُ رقيقة ٌ وجميلة ٌ ويقولُ فيها:
(” يا جارتي الحسناءْ //
هل لفَّكِ الصَّمتُ وأضناكِ الحَياءْ //
من أينَ أبتاعُ السُّكونَ // وكيفَ أوليكِ الأمَانْ
هل تهدأ الأيَّامُ // من لجَّةِ الأحزانْ ؟ //
هل تصفو السَّاعاتُ // من ظلم الطغاةِ ؟ //
ويعودُ النجمُ يسطعُ من جديدْ //
وتعودُ أيامُ الهناءْ // لسابق عهدِها //
وترتدي الحسناءُ // زيَّهَا الفضفاضَ باللون القشيبْ // “).
وهذا المشهد وهذا السيناريو يتكرَّرُ في عدَّةِ قصائد من هذا الديوان.
وأمَّا قصيدة (“إنقشغي أيتها الغيمة “- صفحة 36 – 40) فتُجَسِّدُ وتلخِّصُ جميعَ الامورَ والأشياء التي ذكرها الشاعرُ في جميع القصائد السابقة – التي إستعرضتها مع للتحليل. وهذه القصيدة ُ مستواها عال وراق ٍ وقد يخالها القارىءُ لأول وهلةٍ انها لشاعر عالميٍّ ترجمت إلى العربيَّة، وذلك لمعانيها العميقة وأفكارها الفلسفيَّة المنسابة بتلقائيَّةٍ وعفويَّةٍ وللحسِّ الإنساني المُترع بالمحبَّةِ والتسامح والفكر الأمميّ الشامل – ويقولُ في القصيدة:
(” أيَّتُهَا الغيمة ُ السَّوداء // فوقَ رؤُوسِنا زولي // تبدَّدِي //
إنقشعي تبعثري بين مسالكِ المغيبْ //
أيَّتها السَّماءُ المُكفهرَّة ُ إصفي // وطالعينا ببسمةِ النقاءْ //
بينَ ثناياكِ المُمتدَّه // في الآفاق المُضَمَّخةِ عطرا وسلاما //
ويقول: (” أيَّتها الفضيلة ُ خَيِّمِي بوشاحِكِ الورديِّ //
وأحيطينا بنعمتِكِ الوافرةِ جودًا // وإبمانا ومَحَبَّهْ //
وطهِّرينا من الزِّفِ المتأصِّل في أحشائِنا //
وأبعدي عنا الرَّذائل // وظلمَ الظالمينْ //
أيَّتها الزلازلُ // إهدئي // فالأرضُ ما زالت تغصُّ خيرا //
يعتلي المنابرَ كلَّ حينْ // // يُشرِّدُ التيهَ والتائهينْ //
أيَّتها الغيمة ُ السَّوداءُ // فوقَ سمائِنا زولي //
إنقشعي تبدَّدِي بعيدًا عن أجوائنا، //
فالحقلُ ما زالَ يعجُّ بالقمح // واللوز والفراش وعطر الياسمينْ //
فما أنا بفارس الضوءِ // وما انا بصانع البرق… //
فإذ ينجلي السَّحابُ فجأة ً // وتصفو السَّماءْ، //
ويبدأ الخريفُ رحلة َ الوداع، // وتنطلقُ أسرابُ الطيور من جديد//
وينطلقُ جماحُ الألم // في رحاب الغيبِ //
وتنتهي أسطورة ُ الضَّياع… // “).
وللشَّاعر عدَّة ُ قصائد غزليَّة في هذا الديوان قصيرة ٌ جدا مكوَّنة ٌ من بضع جمل وهذا النمط والشكل من الشعر يسمَّى اليوم بشعر البطاقة… والشَّاعر الكبير نزار قبَّاني وأدونيس وغيرهما من الشعراء المحدثين والرُّوَّاد في العصر الحديث كتبوا الكثيرَ من هذه القصائد على هذا النمط… وقد تكونُ القصيدة ُ جملة ً واحدة ً أو إثنتين أو ثلاثة فقط وفيها يضعُ الشَّاعرُ فكرتهُ وموضوعهُ وفحوى ما يريدُهُ ولا يلجأ إلى التكرار أو الإطالة تفاديا لمشاعر القراء ووقتهم الضيِّق في عصرنا هذا عصر السرعة والبيزنس حيث لا يوجدُ لكلِّ شخص الوقت الكافي ليقرأ القصيدة المطولة والمعلقة.. فخيرُ الكلام كما يُقالُ: (ما قلَّ ودلَّ)…وهكذا شاعرُنا هنا فيوجزُ ويختصرُ كلَّ ما يريدُهُ وما يحسُّهُ وما يعتريهِ من مشاعر جيَّاشة ولواعج ذاتيَّة متوهِّجةٍ بجمل وعباراتٍ مقتضبةٍ وقصيرة فيوصلُ فكرتهُ من خلالها، إلى جماهير القرَّاء وإلى من يُوجِّهُ إليهِ أو إليها القصيدة َ بشكل مباشر.. فلا يتعبُ نفسَهُ او قرَّاءَهُ معهُ..ومثال على ذلك قصيدة (” حلم ” – صفحة 66) وهي:
(” يحلمُ الغيرُ بكلِّ أمور الدُّنيا // وأمَّا أنا حبيبتي //
فأحلمُ بكِ وحدكِ فقطْ // “).
ومثالٌ ونموذجٌ آخر: قصيدتهُ (” شهدٌ والم – صفحة 52) وهي:
(” يقودُنا الألمُ إلى هلاكِ الجسدْ // فيفتكُ بنا كما تفتكُ النساءْ //
في عقولنا كلّ يوم //
أيَّتها المرأة ُ // جميلة ٌ أنتِ // لذيذة ٌ أنت بهيَّهْ //
شهيَّة ٌ كطعم الشَّهد والترياق //
لكنَّ طباعَكِ صعبة ٌ // كألم الجسد لا تطاقْ “).
وقصيدة ٌ أخرى أيضا بعنوان: (” كرويَّه ” – صفحة 56):
(” وعندما أبلغُ دقائق النشوة // أشعرُ بكرويّّةِ الأرض //
وبروعةِ أشيائها الجميلة //
لأنكِ انتِ جميلتي // كرويَّة ُ المفاتن والمواقع…// “).
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى في الديوان بعنوان: (أيُّهَا القادمون ” -صفحة 48 – 50) فنجدُ فيها طابعَ للحزن والمرارة والالم حيث يتذمَّرُ الشَّاعرُ من الواقع الذي يحياهُ… محيطه وواقعه الشخصي وواقع العالم والكون ككل بشك عام – فهو ينظرُ بألم شديد إلى المشاكل والخطوب التي تعصفُ في كلِّ مكان على المستوى الشَّخصي والإجتماعي والمحلي والعالمي.. وفي الكون بأسرهِ.. فيقولُ مثلا:
(” أيُّها القادمون من براري التيهِ //
لا تضعُوا أحزانكم في أرضِنا //
أيُّها القادمون من جَنباتِ البُعد //
لا تجيئوا والريح // تعاكسُ الأشحارَ في حيِّنا //
ما عادجَ وهجُ النور يكفينا // ولا شدوُ الكنار يكفينا //
فالأرضُ تشققت والحقولُ يبستْ // والمياهُ تعكَّرتْ //
وبدا كلُّ شيىءٍ مُتجهِّمًا حزينا // “).
وفي الصَّفحات الأخيرة من هذا الديوان نجدُ بعض القصائد الغزليَّة للشاعر وهي كلاسيكيّة تقليديَّة (موزونة ومقفاة) وفي غاية الرَّوعةِ والعذوبة والجمال والإنسياب الموسيقي والرقة والشفافيَّة ومترعة بأطياف ونسائم التنجديد والحداثة..فيُذكرنا بروائع نزار قبَّاني الغزليَّة..ولم يخطىء الذين أطلقوا على شاعرنا نيقولا مسعد لقبَ: نزار قبَّاني الثاني أو نزار قباني فلسطينيِّي الداخل – عرب ال 48.
فيقول قصيدةٍ بعنوان: (” مدرسة العشق ” – صفحة 98 – 99):
(” أحببتُ كثيرًا سيِّدتي // لكنّي مثلك ما أحببتْ //
وعشقتُ كثيرًا سيدتي // والعشقُ مدارسهُ أنهيتْْ
لكنَّكِ مدرستي الكبرى // في كلِّ مراحلِهَا أخفقتْ
هلْ أنجح يومًا سيِّدتي // وأحققُ ما كنتُ نويتْ “).
والقصيدة ُ على بحر المتدارك أو الخبب ورائعة جدًّا ونبرتها عالية يلخصُ الشاعرُ فيها تجاربهُ العاطفيَّة والغراميَّة، وهو يذكرنا بروائع نزار قباني الغزليَّة.
ويقولُ في قصيدةٍ أخرى على نفس الوزن وعلى نفس النمط وبنفس الروح والأسلوب – (صفحة 100 – 101):
(” سافرتُ كثيرًا سيِّدتي // وعبرتُ ملايينَ الشطآنْ
قد جُبتُ الأرضَ بكاملها وجمعتُ اللؤلؤَ والمرجانْ
لكنَّ لآلىءَ عينيكِ سحرٌ يحتارُ بهِ الإنسانْ // “).
وهنا نحسُّ ونستشفُّ ونلمسُ طابعَ وروحَ وأجواءَ وأنسامَ وأطيافَ نزار قبَّاني شاعر الحبّ الأول وشاعر المرأة في العصر الحديث… فكأنَّ شاعرنا قد تجسَّدَهُ وتقمَّصَهُ وأصبحَ صورة ً ونسخة ً عنهُ.
وسأنهي هذه المقالة بإستعراض آخر قصيدتين من الديوان.. والقصيدة التي قبل الأخيرة صفحة 102 – 104 بعنوان: ثورة ” وهي جميلة جدا وعذبة ورومانسيَّة على وزن (بحر) مجزوء الكامل (متفاعلن متفاعلن) وفي غاية الروعة ومعانيها عميقة جدا وغنيَّة بالتشبيهات والصور الشعريَّة الشفافة والخلابة…وربَّما لا نجدُ شاعرًا عربيًّا محليًّا (في الداخل) يستطيعُ أن يكتبُ قصيدة ً غزليَّة أفضلَ منها – في مستواها وجمالها وعذوبتها وروعتها… فيقولُ فيها:
(“نهداكِ سرٌّ غامضٌ ما كنتُ أفهمُهُ أنا
نهداكِ كنزٌ عامرٌ فيهِ ملذاتُ الدُّنى
الشَّهد يقطرُ منهما والطيبُ موفورُ الجنى
نهداكِ ثغرٌ باسمٌ يحكي حكاياتِ المُنى
نهداكِ روضٌ مزهرٌ للصَّبِّ أروعُ مسكنا
فهما مَعِينُ العاشقينَ هما مقاديرُ الهنا
وهما ينابيعُ الحنانِ وفيضُ أنوار السَّنا
وهما ربيعٌ دائمٌ ريَّانُ يملؤُهُ الغِنا
نهداكِ في الصَّدر الحنونِ تمايَلا وتناغما
جناتهُ الفوَّاحة ُ الأنسام ما أحلاهما
رحماكَ ربِّي قد جمعتَ الحسنَ كلهُ فيهما
يا لوعة َ المشتاق عندَ الوصل حين يراهُما
يا فرحة َ الولهان ما هذا الجمال بها سَما
سحرًا ووشوشة ً وإبداعا ووحيًا مُلهمَا
الثوبُ شفافٌ وزهرٌ ناعمٌ قد برعما
فترفقي في ثورتي لمَّا أذوبُ عليهما
وتفاعلي فالحبُّ بركانٌ ونارٌ من ظما
هيَّا احضنيني ثمًّ ذوبي في العناق تنعُّمَا… “).
والقصيدة ُ ليست بحاجةٍ لشرح وتحليل مطوًَّل فكلُّ جملةٍ وكلُّ كلمةٍ فيها عبارة ٌ عن عالم بأكملهِ رومانسيٍّ رائع خلاب.
وكما كان يُقالُ ويُروَى عن نزار… وكما كان يقولهُ هو أيضا في لقاءاتهِ الصحفيَّة وكما يرويه آلافُ العشَّاق: إنَّ قصائدَهُ كانت دائما تقرِّبُ يبين العالشقين وتجمعهم بعدَ جَفاءٍ وتوطِّدُ وتوثقُ العلاقة َالمشتركة َ بينهم… فهذه القصيدة ُ وغيرها من قصائد نيقولا مسعد الغزليَّة لها نفسُ الإكسير والدواء ونفس السّحر والروعة والتأثير على المُحِبِّين والعاشقين والعاشقات، بل تضاهي قصائد وروائع نزار قباني وهي عبارة ٌ عن سيمفونيَّةٍ وترنيمةٍ لكلِّ محبٍّ وعاشق وعاشقةٍ في كلِّ مكان وظرفٍ وزمان.
وإلى آخر قصيدةٍ من الديوان (مسك الختام)- بعنوان: (“داء العاشقين ” – صفحة 105 – 106) – للإستعراض والتحليل – وفيها يُخاطبُ الشاعرُ فتاتهُ وحبيبتهُ السمراء، ويقولُ في القصيدة:
(” لمَّا أتاني الشَّوقُ وانبعثَ الحنين أيقنتُ أنَّكِ في سمائي تشرقينْ
وسمعتُ صوتا داخلي مُتعاليًا للحبِّ يهتفُ صارخًا يشكو الأنينْ
سمراء ُ يقتلني الهَوى فهواكِ مزمارٌ وترياقٌ وداءُ العاشقينْ
… أي أنَّ فتاتهُ رائعة الجمال وساحرة وفاتنة وغرامها وحبّها يقتلهُ فهو القتيل في هواها وفي نفس الوقت حبها الشفاء والقوّة والفرح والطرب إلى القلب والنفس.. فهي المزمار والموسيقى والعزف (الطرب) وهي الترياق والدواء الشافي الذي يُعَالجُ بهِ المسموم… وهي المرضُ والداءُ الذي سيصابُ بهِ كلُّ مَن يرَاهَا (داء العشق والهيام) لجمالِها الخلاب… ويتابعُ في القصيدة فيقول:
(” سمراءُ يا أنشودة َ الأيَّام وال آمال والأحلامِ يا فيضَ المَعِينْ
وهذا البيتُ يذكِّرنا ببيت شعر من قصيدةِ بعنوان: ” إلى راعية ” التي تغنيها المطربة ُ الكبيرة فيروز ومطلعها:
(” سُوقِي القطيعَ إلى المراعي وامضي إلى خُضر البقاع ِ)
فبيتُ الشعر من الأغنية قريبٌ في معانيه وسبكِهِ إلى بيت نيقولا وهو:
(” سمراءُ يا أنشودة َ ال غاباتِ يا حُلمَ المَراعي)
بيْدَ أنَّ بيت نيقولا عميقٌ وكثيفٌ أكثر بمعانيهِ وتموُّجاتهِ…وأمَّا البيت الشعري من قصيدة ” إلى راعية ” فربَّما يكون رومانسيًّا أكثر من بيت نيقولا.
ولنتابع باقي الأبيات من قصيدة نيقولا مسعد:
(” إنِّي بقربِكِ أستمدُّ مشاعري وَمَناهلَ الشَّوق الدَّفينْ
سمراءُ يبتهجُ الفؤادُ بقربِها ويطيبُ من وجع السِّنينْ
فتقرَّبي يا حلوتي ودِّي فؤادي في هواكِ يذوبُ حينا بعدَ حينْ
والقصيدة ُ جميلة ٌجدًّا وعذبة ٌ ورومانسيَّة (على بحر الكامل) وفيها طابعُ التجديد والحداثة وكلُّ أسس وعناصر الإبداع.
وأخيرا وليسَ آخرًا – سأكتنفي بهذا القدر من إستعراض وتحليل قصائد هذا الديوان ونتمنى لشاعرنا القدير والمبدع الأستاذ نيقولا مسعد العمرَ المديد والمزيدَ من العطاء الشعري والأدبي المتواصل..وهو بحقٍّ وحقيقةٍ شاعرٌ كبيرٌ رائدٌ عملاقٌ ويعتبرُهُ كلُّ إنسان متعلم ومثقف ودارس وكلُّ مَن يفهمُ في الأدبِ والشعر من أوائل الشعراء… ليسَ على المستوى المحلي فقط.. بل على امتداد العالم العربي وعلى المستوى العالمي أيضا، ولكنهُ لم يأخذ حقهُ بعد من شهرةٍ واسعة خارج البلاد وعالميًّا كالعديد غيره من الشعراءِ المحليِّين المبدعين والجهابذة العمالقةِ لأسباب عديدة وهي معروفة للجميع.

بقلم: حاتم جوعيه

HATEMJ022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة