العظماء (22) لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ

تاريخ النشر: 14/04/21 | 19:10

قبل كلّ شيء:عندما تكتب عن شخصيّة سياسيّة بعظمة المنظّر الماركسيّ والمناضل الثّوريّ “لينين” قائد ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى، وعن مكانته الفكريّة ودوره السّياسيّ ومسيرته الثّوريّة والكفاحيّة، تنفتح أمامك ميادين رحيبة من النّشاطات وارفة الآثار والمضامين والأبعاد، فمن الميدان النّظريّ الفلسفيّ والفكريّ إلى الميدان العمليّ الثّوري والكفاحيّ. ستأخذك الكتابة عنه إلى اتّجاهات كثيرة وعديدة بعدد تلك الميادين الرّحيبة التي خاض في مجالاتها هذا المفكّر الكبير، بعدد أبعاد شخصيّته العابرة لكلّ حدود الزّمن والتّاريخ والمكان والجغرافية والطّبيعة والمجتمعات الإنسانيّة والعقل البشريّ. ستأخذك إلى الفكر الماركسيّ وصاحبيْه: “كارل ماركس” (1818 – 1870) وصديقه “فريدريك إنجلز”(1820 – 1895) والبيان الشّيوعيّ الّذي صدر من تأليفهما سنة (1848) وقد ترجمه “لينين” إلى الرّوسيّة سنة (1889) ستأخذك الكتابة إلى ميدان الثّورة البلشفيّة، ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى وإرهاصاتها وانتصارها سنة (1917) في روسيا، وستأخذك إلى ما سبقها من أوضاع وأحداث وثورات، أبرزها ثورة سنة (1905) وفشلها في إسقاط النّظام القيصريّ وحكم القياصرة ونظام الإقطاع وإسقاطاتها على الثّورة الكبرى، وستأخذك إلى تاريخ الإمبراطوريّة الرّوسيّة وحكم سلالة “رومانوف” لثلاثة قرون (1612 – 1913) ستأخذك إلى الحرب العالميّة الأولى الّتي اندلعت سنة (1914) أي قبل انتصار ثورة أكتوبر، والّتي انتهت سنة (1919) أي بعد انتصارها، وما طرأ إثر انتصارها من تغيّرات في الحسابات السّياسيّة والموازين الدّوليّة والأخطار المحدقة بالجانبيْن الدّوليّيْن: الجانب الاستعماري الرّأسماليّ الّذي يسعى لتخليد الوضع الدّوليّ الرّاهن من أجل ضمان مصالحه، والجانب الشّيوعيّ الاشتراكيّ الّذي يسعى للثّورة على الوضع القائم ومن أجل تغييره للمصالح الحقيقيّة للطّبقة العاملة والشّعوب المقهورة والفقيرة، ستأخذك الكتابة عن “لينين” إلى تغيّر أسس الدّولة والمجتمع الدّوليّ، بعد وجود الاستعمار الّذي سيستولي على الشّعوب والأقطار الفقيرة ونهب ثرواتها واستعبادها لمصالحه وأطماعه بعد التّقسيم الاستعماريّ في معاهدة “سايكس بيكو” سنة (1916) لتركة الاستعمار العثمانيّ في الشّرق العربيّ الأدنى والشّرق الأوروبيّ – ذلك الرّجل المريض الّذي مرض في آخر سنواته مرضًا لم يمهله طويلًا فمات – وتركات استعمارات أخرى في الشّرق الآسيويّ الأقصى والجنوب الأفريقيّ والجنوب الأميركيّ اللّاتينيّ، هذه المعاهدة بين فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدّول الاستعماريّة الّتي كشف مخاطرها “لينين” على الشّعوب في الشّرق وبيّن أطماعها وفضح أطرافها، وبالمقابل وجود قوّة عالميّة صاعدة هي الاتّحاد السّوفييتيّ والعالم الاشتراكيّ، الّتي ستساعد تلك الشّعوب والأقطار على التّحرّر من ذلك الاستعباد والاستعماريّ لنيل حرّيّاتها واستقلالها وكرامتها وإرساء قيم من العدالة والمساواة.

بعد لينين:
بعد “لينين” قائد الثّورة أيّ رياح هبّت على هذا العالم لم تترك شيئًا في مكانه، تفاقم الصّراع التّاريخيّ السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، تخلخلت القيم والمفاهيم القديمة، وقامت قيم ومفاهيم ومصطلحات جديدة، تزعزعت الدّول واضمحلّت الإمبراطوريّات ولاح في الأفق شيء من الحقّ والحرّيّة والعدالة، وزهق كثير من الباطل والظّلم والاضطهاد والاستعباد. دول تذهب عن مسرح الأحداث والتّاريخ بملامحها القديمة الكالحة ودول تولد وتنمو مع الأحداث بملامح جديدة ومشرقة. بعد “لينين” لم تعد الأشياء كما كانت قبله، صارت النّظريّة الماركسيّة الّتي كانت تعيش وتجول في الفكر الإنسانيّ حقيقة ملموسة ومادّيّة جدليّة تتطبّق في الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والمجتمع الإنسانيّ، لم تعد المصالح المتبادلة بين الطّبقات الاجتماعيّة هي الّتي تتحكّم بالعلاقات السّياسيّة والاقتصاديّة كما تعتقد البرجوازيّة، بل صار الصّراع الطّبقيّ حتميّ الانتصار لصالح طبقة البروليتاريا هو الفيصل بينها كما ترى الشّيوعيّة، صارت الرّأسماليّة الّتي تقتل الشّعوب بالقهر والإذلال والاستعباد والاضطهاد والاستغلال وتنهب ثرواتها وتعبث بمقدّراتها تحفر قبرها بيدها، وأصبح من كان عاملًا مستغَلًّا ومسلوب الإرادة حدًّا هامًّا في معادلة الصّراع الّذي تعدّى حصره في حدود جغرافيّة وتجاوز وجوده في ضيق الصّراعات القوميّة، بل هو صراع أمميّ أكثر حدّة وأقوى تأثيرًا على تركيبة بُنى المجتمع الطّبقي، إنّه الصّراع الطبقيّ بين المستغَلّين الأكثريّة السّاحقة من مسحوقي العمّال والفلّاحين الّذين لا يملكون إلّا قوّة أذرعتهم وبين المستغِلّين الأقليّة الانتهازيّة المالكة والمهيمنة على سلطات الحكم والأمن وأجهزة الدّولة والجيش والاقتصاد وإدارة المؤسّسات وامتلاك وسائل الإنتاج. بعد “لينين” صار الاحتمال الحالم حقيقة ملموسة وغدت الإمكانيّة المرجوّة واقعًا معيشًا. صار للاشتراكيّة الشّيوعيّة دولة قادرة على الصّمود أمام القوى الرّأسماليّة العالميّة وقادرة على إمداد الشّعوب الفقيرة بالفكر الثّوريّ وبالسّلاح للقتال من أجل الحرّيّة والاستقلال والكرامة في كثير من بقاع العالم وقادرة على التّصدّي للوحش النّازيّ ودحره بالعزيمة الثّوريّة وردّ كيده إلى نحره في “برلين” وفرض مفاهيم جديدة وموازين مختلفة.
بعد “لينين” صارت الدّولة السّوفييتيّة الجديدة تملك العلم وتغزو الفضاء بأوّل رائد في العالم يقوم برحلة إلى الفضاء الخارجيّ لمدّة 12 يومًا سنة (1961) “يوري غاغارين” (1934 – 1968) وتصنع الصّناعات الثّقيلة وتربك الاستعمار الجديد وتواجهه فيحسب لها الحساب. لقد دوّت صرخة “لينين” وما زالت تدوّي في أرجاء العالم حيث وجد الظّلم والاستعمار واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان واستغلال أرباب العمل وملّاك الأرض للعمّال والفلّاحين، “يا عمّال العالم ويا أيّتها الشّعوب الفقيرة والمقهورة اتّحدوا”!
كيف سأكتب عن كلّ ذلك؟ سأسير على منهج التّبئير الّذي عرّبه أو ترجمه إلى العربيّة البروفيسور “إبراهيم طه” واستخدمها كأحد المقاييس في تحليلاته النّقديّة للأعمال الأدبيّة، بمعنى سأكتب جاعلًا شخصيّة “لينين” بؤرة لكلّ تلك الجوانب الفكريّة والنّظريّة والعمليّة وأبعادها السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة في ميادين الثّورة والكفاح، كي نشدّ الخيوط كلّها إلى بؤرة محوريّة في النّسيج الواحد.

البدايات:
انضممت إلى صفوف الحزب الشّيوعيّ في آب سنة (1986) بعد عودتي من أوّل رحلة لي إلى خارج الوطن، إلى رومانيا وهنغاريا الجمهوريّتيْن الاشتراكيّتين آنذاك في شهر تمّوز، لم تكن الزّيارة والتّعرّف على معالم الدّولتيْن السّياحيّة هي المحفّز لانضمامي التّنظيميّ ذاك، وفي رومانيا بالذّات نظام حكم شيوعيّ لا يشجّعك على ذلك، نظام لا يضطهد النّاس يوميًّا بل يصل لحظيًّا بالظّلم والدّكتاتوريّة حدّ كم الأفواه من الخارج وملاحقة الأفكار في الدّاخل، “وويل للمارق”، نظام يقوم على دكتاتور باذخ وَ “السّيكوريتاتي” وهي قوى الأمن الدّاخليّ تعيث فسادًا وقمعًا بالشّعب، وعلى بؤس يحيق من كلّ جانب، يحرمه من اللّقمة الكريمة فيلجأ إلى التّسوّل وقبول الرّشى من الخارج والسّرقة من الدّولة في الدّاخل، وكلّ ما في حياته سلاسل غليظة من الممنوعات السّياسيّة والاجتماعيّة والحرمان من منتوجات ينتجها العامل الرّوماني بنفسه، ورومانيا دولة غنيّة بالموارد، غنيّة بالماء والكهرباء والمزروعات المختلفة ذات الجودة العالية للسّوق الخارجيّة فتدرّ عليها الأموال والعملات الأجنبيّة، ولكن على جيوب رجال النّظام من رأسه حتّى قدمه، ويحرم الفلّاح الزّارع والحاصد لتلك الخيرات منها، فللسّوق الدّاخليّ بضاعة داخليّة هزيلة وشبه فاسدة.
لماذا يحرم نظام اشتراكيّ شعبه من التّغذية الجيّدة والحرّيّة والدّيمقراطيّة والعيش الكريم؟ ولماذا يشكو بسطاء هذا الشّعب من الجوع والبؤس والقهر وقمع الحرّيّات، لا أعرف! ولكنّي قد أخمّن أنّ هذا النّظام ليس نظامًا تحكمه دكتاتوريّة البروليتاريا بل نظامًا يحكمه دكتاتور واحد أوحد وله عصابة، كلّ حكمه وموبقاته تقوم على ظلم البروليتاريا وحرمانها من أسس الحياة الكريمة وأسس الفكر الإنسانيّ الحرّ، باختصار يحرمه من الحرّيّة والتّعبير والتّفكير ومن العيش بكرامة. لماذا انتسبت إذن؟! لأنّ واقعًا في حياة شعبي الفلسطينيّ يرين في وجودي ووجداني! لقد سرقوا فلسطين منه فسرقوا روحه وجسده وأرضه ومدنه وقراه وسلبوا منه خيراته وثرواته ولغته، صرت في وطني “غريب الوجه واليد واللّسان” كما قال جدّي العريق الشّاعر “المتنبي”، وما زالت إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة – وهي صديقة لِ “نيقولاي شاوشيسكو” (1918 – 1989) قائد النّظام “الاشتراكيّ” في رومانيا – ما زالت تحتلّ وتستوطن وتقمع وتهدم وتصادر، وكان لا بدّ أن أتصدّى لذلك، وكان لا بدّ من الانتساب لتنظيم ما، لا بدّ من خليّة حزبيّة كما قال “لينين” من أجل تحقيق الأهداف القوميّة واليوميّة، ولم أجد أفضل آنئذٍ من الحزب الشّيوعيّ كحزب مناضل من أجل حقوق شعبي الوطنيّة، وأبرزها الاستقلال والحرّيّة وحقّ العودة والدّولة، ومن أجل حقوق مجتمعي العربيّ هنا في بلادي في المساواة، وهو الحزب الّذي وقف ضدّ كلّ السّياسات والموبقات الإسرائيليّة من سلب للأرض ومصادرة وهدم للبيوت وحرمان من التّعليم والعمل وملاحقة الوطنيّين والشّيوعيّين. وهذا بعض ما تعلّمته في مدرسة الحزب النّضاليّة، ومن خلال النّشاط الميداني. كان “لينين” مفكّرًا ماركسيًّا وقائدًا شيوعيًّا ومناضلًا أمميًّا وثوريًّا يشكّل نموذجًا لحركات التّحرّر الثّوريّة في العالم وعند كلّ الثّوّار، ولذلك انضممت وانضويت تحت لواء الحزب الشّيوعيّ الماركسيّ اللّينينيّ الأمميّ، وهناك تعلّمت وتثقّفت وانصقلت شخصيّتي من خلال القراءة والثّقافة والفكر الاشتراكيّ والكفاح الميدانيّ.
لينين من أين وإلى أين:
ولد “فلاديمير إيليتش أوليانوف” الّذي اشتهر باسْم “لينين” فيما بعد في 22 نيسان سنة (1870) في مدينة “سيمبيرسك” الّتي تحوّل اسمها إلى “أوليانوفيسك” تكريمًا له ولأسرته. كان النّظام القيصريّ يهيمن ويجثم على مقدّرات الشّعب الرّوسيّ في مساحة جغرافيّة مترامية الأطراف. لكلّ عظيم من العظماء بدايات قد تكون عاديّة أحيانًا، ولكنّ الظّروف الّتي نشأ فيها “لينين” كانت تتميّز ببعض الأحداث الّتي جعلت منه ثائرًا منذ بدايات نشأته. يقال أنّ أباه “إيليّا نيكولايفيتش أوليانوف” كان ابن أحد العبيد في قرية “أندروسوفو”، ولكنّه أصبح فيما بعد مدرّسًا وسرعان ما ارتقى إلى وظيفة مفتّش المدارس العامّة في المدينة. أمّا أمّه فهي “ماريا ألكسندروفنا أولينافا”، يعود انتماؤها إلى جذور سويديّة وألمانيّة، وكانت هي الأخرى تعمل في التّربية والتّعليم وتوفّيت سنة (1916) فالأسرة عمومًا كانت متوسطة الحال، متماسكة ومحبّة للعلم، وكون الأبويْن عامليْن في التّربية والتّعليم فقد شجّعا الأبناء على حبّ العلم والمعرفة واهتمّا بأبنائهما، وخاصّة بالابن الثّالث “لينين” فمنذ الخامسة من عمره أحضر له أبواه مدرّسًا يعلّمه في البيت، وظلّ على تلك الحال حتّى سنّ التّاسعة، إذ أُدخل المدرسة مُبديًا ذكاء واجتهادًا نال إعجاب الجميع، ومن ثمّ التحق بالمدرسة الثّانويّة وأنهى تعليمه فيها بامتياز وتفوّق، وذلك يعود لميله الجارف إلى القراءة، وقد أتقن اللّغتيْن: الإغريقيّة واللّاتينيّة وهو في السّادسة عشرة من عمره.

لم تكتمل أجواء العيش الرّغيد في حياة الأسرة، فقد أحيل أبوه إلى المعاش المبكّر بغير رغبته، لأنّ أحد المسؤولين في المدينة كان رجعيًّا ويرى بالمدارس والعلم تأثيرًا سلبيًّا على المجتمع الرّوسيّ المحافظ والمتخلّف، فتحوّلت الأجواء إلى الحزن، وتوفّي أبوه بعد نزيف حادّ سنة (1886) فحزن عليه كثيرًا، وكان له خمسة أخوة، لهم جميعًا وبشكل متفاوت نشاطات سياسيّة واجتماعيّة، لكنّ أشهرهم وأبرزهم وأكثرهم تأثيرًا عليه كان شقيقه الأكبر “ألكسندر”. وكان الحدث الأبرز والأشدّ تأثيرًا على شخصيّة الشّابّ اليافع “لينين” والأقوى إيلامًا في أعماق وجدانه، وهو في مقتبل شبابه وبداية شقّ دربه نحو العلم والحياة بعد حادثة موت الأب هو إعدام أخيه “ألكسندر” الّذي كان يكبره بعاميْن وهو في سنّ الحادية والعشرين سنة (1887) أعدم شنقًا بعد سنة واحدة من موت أبيه، فكان لهذه الحادثة أشدّ الوقع على نفسه الّتي كانت تميل إلى الثّورة بحكم نشأتها الأولى، لقد وجّهت إلى أخيه وكان طالبًا في جامعة “سان بطرسبورغ” يميل إلى الفكر الماركسيّ تهمة التّآمر على القيصر “ألكسندر الثّالث” (1845 – 1894) والمشاركة في محاولة اغتياله واختير هو لتنفيذها ولكن ألقي القبض عليه قبل زرع القنبلة وحوكم بالإعدام، وقد تأثّر “لينين” ممّا قاله أخوه أثناء محاكمته، ورغم أنّه اعترف بالتّهمة المنسوبة إليه فقد أبدى شجاعة نادرة حين قال: “أردت قتل القيصر لأنّها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرّيّة السّياسيّة للشّعب الرّوسيّ”. كان لإعدام أخيه دور كبير في تغيير أفكاره الكفاحيّة، إذ فشل بنظره الرّهان على الممارسة الفرديّة النّضاليّة رغم ما فيها من شجاعة، وصار يؤمن بالعمل الجماهيريّ الجماعيّ الكفاحيّ لتحقيق الأهداف العظيمة، لقد آمن بأنّ “صوت رجل بمفرده لا يبلغ مسامع الشّعب كلّه بل يضيع ويختنق في أقبية البوليس”. جعلت هاتان الحادثتان “لينين” المعيل الأساسيّ للأسرة، وقام بذلك على أتمّ وجه وظلّت الأسرة متماسكة حتّى النّهاية. وباعتقادي كانت هذه الحادثة وأثرها على نفسه وفكره الشّرارةَ الأولى في تكوّن لهيب الفكر الثّوريّ السّياسيّ والاجتماعيّ في وجدانه وعقله. ولقد تزوّج “لينين” من “ناديا أليزافيتا فاسيليفنا” سنة (1898) ولكنّهما لم ينجبا، وقد تعرّف عليها من خلال النّشاط السّياسيّ والنّضاليّ.
قُبل “لينين” في هذه الأثناء للتّعلّم في جامعة مدينة “قازان”، ولكن سرعان ما فصل من التّعليم فيها بسبب مشاركته في المظاهرات، فقد تزعّم مجموعة للاحتجاج على انعدام الحرّيّة في الجامعة، وطرد على إثرها ولم تفده الطّلبات المتكرّرة للعودة إلى متابعة التّعليم فيها، ومن ثمّ أبعد عن المدينة، لكنّ أمّه استطاعت ومن خلال علاقاتها من أعادته إلى “قازان”، ولكن ليس لمتابعة التّعليم بل لمحاولة إبعاده عن النّشاط السّياسيّ، فاشترت له مزرعة في قرية بعيدة، ولكن هيهات لمن عشّشت السّياسة والإحساس بالظّلم والاضطهاد في وجدانه، لم تجذب الزّراعة “لينين” فاضطرّت أمّه لبيع الأرض. في هذه الآونة سنة (1893) انتقل إلى العاصمة “سان بطرسبورغ” وبدأ تعلّمه الجامعيّ فيها وانضمّ إلى إحدى الجمعيّات الماركسيّة وسرعان ما ترأّس هذه الجمعيّة. في هذه الفترة تعرّف “لينين” على “رأس المال” كتاب الفيلسوف “كارل ماركس” الّذي صدر سنة (1867) وانضمّ للدّائرة الثّوريّة “نيكولاي فيدوسيف”، ومن هناك بدأ اهتمامه بالفكر الماركسيّ الّذي يقول كما وصفه باختصار: “إنّ المجتمع الإنسانيّ يتطوّر على مراحل، وهو ناتج عن الصّراع الطّبقيّ، ونتيجة لهذا الصّراع الدّائم سيفسح المجتمع الرّأسماليّ في نهاية المطاف المجال للمجتمع الاشتراكيّ ومن ثمّ للمجتمع الشّيوعيّ”.

الأدب أيضًا شكّل شخصيّة لينين:
عندما كتبت عن بيئته الأسريّة أشرت إلى أنّه عاش بين أسرة على درجة عالية من الثّقافة والاهتمام بالمعرفة وحبّ القراءة، وكان الاهتمام بِ “لينين” زائدًا عن الأبناء الآخرين، ولذلك مال إلى الأدب والأعمال الأدبيّة منذ وقت مبكّر، وكان من عادة أفراد الأسرة الاجتماع في أيّام الآحاد وقضاء الوقت بقراءة أعمال “وليم شكسبير” (1564 – 1616) وَ “غوته” (1749 – 1832) وأشعار “ألكسندر بوشكين” (1799 – 1837) وقد برع “لينين” في اللّغة اللّاتينيّة منذ كان طالبًا في المرحلة الثّانويّة، فقرأ “فرجيليوس” (70 ق.م – 19 ق.م) وَ “أوفيد” (43 ق.م – 17م) وَ “هوراس” (65 ق.م – 8 ق.م) وَ “جوفينال” (من أواخر القرن الميلاديّ الأوّل – القرن الميلاديّ الثّاني)، لقد تأثّر “لينين” بمسرحيّة “فاوست” لِ “غوته” وكان يردّد جملة وردت على لسان أحدى شخصيّاتها “النّظريّة يا صديقي رماديّة لكنّ شجرة الحياة خضراء إلى الأبد”، لقد أدرك منذ البداية أنّ الأدب الرّوسيّ الكلاسيكيّ ملغّم بالسّياسة، في رواية “أبلوموف” للكاتب “إيفان غونتشاروف” (1812 – 1891) يصف الكاتب طبقة النّبلاء بالتّبلّد والكسل، ودعا الشّاعر “بوشكين” الملقّب بِ “قيثارة روسيا” إلى إسقاط القيصر سنة (1825) وأيّد “انتفاضة الدّيسمبريّين”. ولا شكّ في أنّ “لينين” قد قرأ أعمال الكاتب الرّوسيّ “نيقولاي غوغول” (1809 – 1852) صاحب رواية “نفوس ميّتة” الّتي كانت تقرأ على الأمّيّين بصوت عالٍ ونالت شهرة شعبيّة واسعة، مع أنّ النّاقد الشّهير “فيلساريون بيلينسكي” (1811 – 1848) شكّك بقيمتها الفنّيّة رغم تلك الشّهرة، ومن هنا وقع أقدم خلاف أدبيّ في الأدب الرّوسيّ بينهما: الكاتب والنّاقد. وقد قرأ “لينين” رواية “غوغول” الشّهيرة الثّانية “المعطف” الّتي أثّرت على كلّ الرّوائيّين الرّوس فيما بعد، وقد قال الكاتب الرّوسيّ “دوستويفسكي” (1821 – 1881) عنها “كلّنا (ويقصد الكتّاب الرّوس) خرجنا من معطف “غوغول”، وينسب القول كذلك إلى الكاتب الرّوسيّ “إيفان تورغينيف” (1818 – 1883) ممّا يدلّل على أهمّيّة الرّواية ومكانتها الفنّيّة، فقد أحدثت منعطفًا في الأدب الرّوسيّ الكلاسيكيّ، وفيها البطل موظّف بسيط، مسحوق لم يستطع لبساطته وقلّة حيلته أن يستعيد حقّه في الواقع البائس، فانتقم من اللّصوص الّذين سرقوا معطفه يوم حصل على راتبه الشّهريّ ومات غمًّا فانتقم شبحه واستعاد المال في الخيال. لقد تأثّر “لينين” أيضًا من تناقضات الكاتب الرّوسيّ الكبير “ليو تولستوي” (1828 – 1910) صاحب الرّواية الملحميّة الرّائعة “الحرب والسّلم” وأعجب بمناصرته للفلّاحين الفقراء رغم انتمائه لطبقة النّبلاء الأرستقراطيّة ذات الثّراء والبذخ الفاحش، وضحّى بزواجه من زوجته الجميلة الّتي رفضت مواقفه الاجتماعيّة وسلوكه الرّفيق والرّقيق مع “العبيد والأقنان”، لقد أدرك “لينين” عمق تلك التّناقضات، لأنّه رأى فيها تصويرًا صحيحًا ساعده على التّحليل السّياسيّ والاجتماعيّ للأوضاع الّتي كانت تعيشها روسيا القيصريّة، ورأى في “تولستوي” مرآة الثّورة الرّوسيّة” في كتاباته عنه.
وقد يكون للكاتب “نيقولاي تشيرنيشيفسكي” (1828 – 1889) أكبر التّأثير على “لينين” – وعلى جيل كامل من “المتطرّفين” والثوريّين فقد كان “تشيرنيشيفسكي” فيلسوفًا مادّيًّا واشتراكيًّا ولكنّه كان من عامّة النّاس ونال شعبيّة كبيرة بين الشّباب رغم معاداة الأدباء الكبار له ولكتابه مثل “تورغينيف”، ألّف روايته الطّوباويّة “ما العمل” في قلعة “بيتر وبول” في “سان بطرسبورغ”، وقد سُجن بسبب معتقداته السّياسيّة. أصبحت روايته هذه كتابًا مقدّسًا للجيل الجديد. وقد تمّ تهريبه من السّجن فأعطاه ذلك هالة إضافيّة. هذا الكتاب هو الّذي جعل “لينين” يعتنق أفكارًا “متطرّفة”، قبل أن يتعرّف على أفكار “كارل ماركس”. وكنوع من الاحترام لهذا الفيلسوف والكاتب الجريء والشّجاع، كان أوّل كتاب سياسيّ ألّفه “لينين” ونشره سنة (1902) بعنوان “ما العمل”. كان “لينين” لا يتّفق مع آراء البلاشفة الشّباب الّذين كانوا يزورونه في المنفى خلال السّنوات الثّوريّة بين (1905 – 1917) حول الرّواية، وقد غضب عندما أخبروه أنّ كتاب “تشيرنيشيفسكي” لا يستحقّ القراءة. وقد ردّ على ذلك بالقول إنّهم أصغر من أن يقدّروا عمق رؤيته، ويجب أن ينتظروا حتّى يبلغوا سنّ الأربعين. حتّى يفهموا أنّ فلسفة “تشيرنيشيفسكي” كانت مبنيّة على حقيقة بسيطة هي: “إنّ الحياة قصيرة، ومن هنا يتحتّم تحقيق السّعادة لكلّ فرد. ولم يكن هذا ممكنًا في عالم يهيمن عليه الجشع والكراهية والحرب والأنانيّة والصّراع الطّبقيّ، ولذلك ثمّة ضرورة لوجود ثورة اجتماعيّة.

لقد تأثّر “لينين” بهذه الأعمال الأدبيّة، وكما ذكر من قبل فإنّها شكّلت جزءًا هامًّا من شخصيّته السّياسيّة ومن إدراكه للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ في المجتمع الرّوسيّ قبل الثّورة، ولا شكّ أنّ لتلك المؤثّرات الأدبيّة دورًا كبيرًا في تأجيج الصّراع الاجتماعيّ الّذي أدّى إلى اندلاع الثّورات على أساس طبقيّ وكانت اندلاع ثورة “أكتوبر” الاشتراكيّة الّتي قادها “لينين” وانتصارها تتويجًا لكلّ ذلك المسار الكفاحيّ منذ (1905 – 1917) وسقوط العهد القيصريّ الفاسد والبائد. في كتابه “مآزق لينين” يذكر المؤلّف الباكستانيّ “طارق علي” (1943) أنّ الأدب الرّوسيّ كان ذا تأثير كبير فشكّل كثيرًا من الاتّجاهات السّياسيّة في الفترة الّتي ولد فيها “لينين”، وكان من الصّعب على الكتّاب نشر نصوصهم السّياسيّة في عهد القيصريّة خوفًا من السّجن أو العقوبات المختلفة ومنها تحريم النّشر والتّوزيع ودفع الغرامات الماليّة الباهظة، فمثلًا كان القياصرة بأنفسهم يقومون بمصادرة الكتب، فالقيصر “نيقولا الأوّل” (1796 – 1855) حظر نشر بعض أشعار “بوشكين”. ورواية “ما العمل” الّتي سُجن صاحبها.
من هذا الواقع الأدبيّ الّذي عاش “لينين” في أجوائه استطاع تنمية علاقات تقدير واحترام مع الأدباء الرّوس فيما بعد، وقد يكون أشهرهم الكاتب “مكسيم غوركي” (1868 – 1936) صاحب أشهر رواية سوفييتيّة آنذاك “الأمّ” وإليه يعزى أنّه أوّل من استخدم مصطلح “الواقعيّة الاشتراكيّة” كتيّار أدبيّ مختلف عن تيّار “الواقعيّة” البرجوازيّة أو تيّار “الواقعيّة التّشاؤميّة”. “الواقعيّة الاشتراكيّة” هي تطبيق للفكر الشّيوعيّ المادّي على الاتّجاه الأدبيّ الّذي سلك فيه الكتّاب والشّعراء الّذين تبنّوا الشّيوعيّة منهجًا حياتيًّا وفكريًّا وأدبيًّا في سائر الأقطار في العالم.

لينين . . أسفار وأفكار وسجون:
في هذه الفترة ونقصد أواخر القرن التّاسع عشر سادت في روسيا القيصريّة وبعد بداية دخول الصّناعة إليها حالة من الفقر والجوع عانى النّاس البسطاء منها زيادة على القهر والظّلم وظروف العمل المتدنّية، فقد انعدمت شروط العمل الإنسانيّة وغابت العدالة الاجتماعيّة والحرّيّات. وقد تكون هذه الفترة هي بداية مسيرة “لينين” الكفاحيّة الّتي تتّسم ببدايات ميله إلى الفكر الماركسيّ والّذي من أبرز مبادئه رفض الظّلم الاجتماعيّ والمبنى الطّبقي واستعادة حقوق العمّال والفلّاحين وضرورة التّخلّص من حكم الاستبداد والاستعباد وتغيير نظام الحكم القيصريّ بنظام يقوم على العدالة والحرّيّة وسيطرة الدّولة على وسائل الإنتاج وضرورة إنهاء هذا التّفاوت الاجتماعيّ وحتميّة انتهاء الصّراع الطّبقيّ إلى حكم البروليتاريا (الشّغيلة) حكم الطّبقة العاملة.
“لينين” منذ سنة (1893) بدأ يدرس الحقوق في جامعة العاصمة حينذاك “سان بطرسبورغ” وتخرّج منها، صارت تحمل اسْم “لينينغراد” بعد انتصار الثّورة الاشتراكيّة سنة (1917) ثمّ عادت إلى اسمها الأصليّ بعد الانهيار السّوفييتيّ سنة (1991) ولعلّ الكتابة عن “لينين” كمكافح ثوريّ ضدّ نظام الحكم القيصريّ يأخذنا إلى بداية حكم سلالة “رومانوف” الّتي حكمت الإمبراطوريّة الرّوسيّة لمدّة ثلاثة قرون، كان أوّل قياصرتها “ميخائيل رومانوف” (1596 – 1645) وبدأ حكمه سنة (1612) وآخرهم “نيقولا الثّاني” (1868 – 1918) الّذي أقيل بعيد ثورة شباط سنة (1917) أو قبيل انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى سنة (1917) والّتي قادها الزّعيم البلشفيّ العظيم “فلاديمير إيليتش لينين”.

بدأ “لينين” منذ بداية العقد الأخير للقرن التّاسع عشر بقراءة الأعمال الأدبيّة الثّوريّة مثل مؤلّفات الكاتب “نيقولاي تشيرنيشفسكي” وأشهرها روايته “ما العمل” وقرأ الأعمال الفكريّة للماركسيّ الرّوسيّ “جورجي بليخانوف” (1856 – 1918) وكان “بليخانوف” أوّل من أدخل الفكر الماركسيّ إلى روسيا، ولكنّ نشاطه اقتصر على التّنظير ولم يسعَ ربّما للظّروف الموضوعيّة للممارسة والتّطبيق في أرض الواقع، ولم يتصرّف كقائد وهو الأمر الّذي تميّز به “لينين” لأنّ الظّروف كانت مواتية أكثر، وكان في “لينين” كلّ صفات المفكّر النّظريّ والقائد الميدانيّ كما سنرى فيما بعد. وقرأ أعمال “كارل ماركس” الفلسفيّة، ومن خلال تأثّره بها آمن بأنّ الطّبقة العاملة هي القادرة بكفاحها الدّؤوب أن تنقل المجتمع الإقطاعيّ إلى الرّأسماليّة ومن ثمّ إلى الاشتراكيّة، وليس الفلّاحون هم القادرين على فعل ذلك. في هذه الأثناء وبعد عدّة سنوات من تخرّجه بدأ عمله كمساعد قانونيّ في مدينة “سمارا”، ولكنّه سرعان ما عاد إلى العاصمة ليعمل محاميًا وفي هذه الفترة انضمّ إلى خليّة ثوريّة ماركسيّة، هي خليّة “الدّيمقراطيّين الاجتماعيّين”، وفي سنة (1989) أعلن عن نفسه ماركسيًّا، ومن هذه الحقيقة انطلق بالعمل الثّوريّ المنظّم على أساس الفكر الماركسيّ في تأسيس خلايا ثوريّة في المراكز الصّناعيّة، حتّى أصبح قائدًا لدائرة العمّال الماركسيّين في العاصمة “سان بطرسبورغ”، وفي هذه الأثناء وقبلها تكوّن حزب العمّال الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ الرّوسيّ وتمّ اختيار “لينين” رئيسًا له ما بين السّنوات (1900 – 1905) وأطلق القائد نداءه المعبّر عن المطالب النّضاليّة الثّوريّة في هذه الفترة نظريًّا وعمليًّا “قدّموا لنا تنظيمًا من الثّوريّين وسنقلب لكم روسيا رأسًا على عقب”. وقلب “لينين” روسيا من القيصريّة الإقطاعيّة والرّأسماليّة إلى الاشتراكيّة الأمميّة.
وبما أنّ النّضال الثّوريّ الماركسيّ لا ينحصر في قوميّة دون قوميّة، بل هو كفاح أمميّ يقوم على الصّراع الطّبقيّ فقد كان لا بدّ من أن ينسّق القائد “لينين” مع الماركسيّين الأوروبيّين، ولذلك كان كثير السّفر إلى خارج روسيا، فإلى سويسرا سافر سنة (1894) لتنظيم العلاقات مع الماركسيّين الرّوس المنفيّين بسبب نشاطهم الكفاحيّ، وفي فرنسا التقى بصهر “كارل ماركس” وزوج ابنته “لورا ماركس” (1845 – 1911) المدعو “بول لافارج” (1842 – 1911) وقد اتّفقا على موت انتحاريّ في الوقت نفسه. وفي “برلين” قابل النّاشط الماركسيّ الألمانيّ “فيلهلم ليبكنشت” (1871 – 1919) ولم يقتصر نشاطه على العمل الميدانيّ بل آمن بضرورة التّثقيف الثّوريّ للبسطاء عن طريق إدخال منشورات ثوريّة حملها معه من الخارج وعن طريق إصدار الجرائد، فقد أصدر جريدة “رابوتشي ديلو” الّتي كانت تدعو وتحرّض ضدّ السّلطة الحاكمة ممّا أدّى إلى اعتقاله بتهمة إثارة الفتن سنة (1896) ومن أروع مواقفه العظيمة وعناده عندما رفض التّهمة الموجّهة إليه ورفض الإفراج عنه بكفالة ماليّة، فمكث في السّجن عامًا كاملًا. “لينين” لا يهدأ عن التّفكير والثّورة فقضى عامه ذاك بالكتابة الّتي عبّر بها عن أفكاره في العمل والنّشاط الثّوريّ والميدانيّ.

في سنة (1897) حوكم مرّة أخرى وكان الحكم أشدّ قسوة، إذ نفي إلى “سيبيريا” لمدّة ثلاث سنوات، استغلّ “لينين” الفترة القصيرة قبل تنفيذ النّفي بلقاءات مع الاشتراكيّين الدّيمقراطيّين الّذين أطلقوا على أنفسهم “عصبة الكفاح من أجل تحرير الطّبقة العاملة” ورغم أنّ النّفي كان بقصد إبعاده كي لا يتمكّن من التّواصل مع الماركسيّين والثّوريّين إلّا أنّه بحنكته وحسن درايته الكفاحيّة استطاع أن يتواصل مع أهله ورفاقه. أنهى مدّة نفيه سنة (1900) وبعدها سافر إلى عدد من دول أوروبا الغربيّة، ومن سويسرا وبعد اجتماع مع الماركسيّين الرّوس تقرّر إطلاق “ورقة ميونيخ” لنشر الماركسيّة في روسيا، ولأوّل مرّة يتمّ تهريب الورقة وهو يحمل اسمه المستعار “لينين” سنة (1901) وفي هذه الأثناء طوّر أفكاره الّتـي كتبها في السّجن في كتابه الشّهير “ما العمل” سنة (1902) وفيه أبرز فكرة الحاجة إلى حزب سياسيّ من نوع جديد يقود الطّبقة العاملة. وفي منفاه في “سيبيريا” أنجز “لينين” مؤلّفه “تطوّر الرّأسماليّة في روسيا”. الّذي صدر سنة (1889) وكان الكتاب بحثًا عمليًّا يتناول تطوّر روسيا الاقتصاديّ، وقد برهن “لينين” في هذا الكتاب استنادًا على المعطيات الثّابتة إنّ الرّأسماليّة في روسيا لم تتوطّد في الصّناعة وحسب، إنّما توطّدت أيضًا في الإنتاج الزّراعيّ. وبيّن فيه أنّ الطّبقة العاملة هي حفّار قبر الرّأسماليّة وبناة المجتمع الاشتراكيّ الجديد. كان “لينين” في منفاه يعمل بإجهاد للنّفس، لكنّه كان يحسن الرّاحة، ففي ساعات الفراغ كان يتزلّج وكان يقوم بجولات الصّيد، وكان يهيم بالطّبيعة في “سيبيريا” الغزيرة بجمالها الوقور، وكان عندما يلتقي الرّفاق المنفيّين يسهم في الغناء مع الجماعة، وكان يحبّ أكبر الحبّ الأغاني الثّوريّة: “أضناني الأسر القاسي” وَ “الأعاصير المعادية”. وكان يراسل الأهل بانتظام، إذ كان قلبه يفيض حنانًا لأمّه الّتي أكنّ لها أكبر الحبّ. وفي المنفى البعيد كان “لينين” يتتبّع تطوّرات حركة العمّال بانتباه. ومن سويسرا إلى بريطانيا ولقاء هامّ مع رفيقه الماركسيّ “ليون تروتسكي” (1879 – 1940)

المؤتمرات الحزبيّة السّرّيّة:
المؤتمر الثّاني للماركسيّين الرّوس انعقد في سويسرا فعاد “لينين” إليها من بريطانيا، وفيه أكّد الحاجة إلى قيادة قويّة وصارمة وسيطرة كاملة على الحزب بعكس “يوليوس مارتوف” (1873 – 1923) الّذي آمن بضرورة أن يكون أعضاء الحزب قادرين على التّعبير عن أنفسهم بشكل مستقلّ عن القيادة وأصبح زعيمًا للمناشفة الّذين انشقّوا عن حزب البلاشفة. وانتصرت الأغلبيّة لفكرة “لينين”، وشهد الحزب أوّل انشقاق في تاريخه: البلاشفة وهم الأكثريّة والمناشفة وهم الأقليّة المنشقّة. كان “لينين” وخاصّة بعد أحداث “الأحد الدّامي” يحثّ البلاشفة على ضرورة القيام بدور أكبر وأخطر في الأحداث وذلك بتحريض العمّال والفقراء وتشجيعهم على التّمرّد العنيف والمسلّح أو ما سمّي بِ “الإرهاب الجماعيّ” وتحريض الفلّاحين على الاستيلاء على أراضي النّبلاء، لأنّ الثّورة برأيه لن تنجح دون أن تبني الطّبقة العاملة تحالفًا مع الفلّاحين من أجل الإطاحة بالقيصريّة الدّكتاتوريّة المستبدّة والظّالمة وإنشاء دكتاتوريّة مؤقّتة، ديمقراطيّة، ثوريّة وعادلة تعتمد على العمّال في المصانع والمدن وعلى الفلّاحين في الأرض والأرياف.
وبعد عودة أخرى إلى روسيا، إلى العاصمة “سان بطرسبورغ” أصدر فيها جريدة “الحياة الجديدة” بثّ فيها القضايا المحدقة والملحّة الّتي على الحزب الدّيمقراطيّ الاشتراكيّ أن يواجهها، ومن أبرزها توسيع صفوفه بأعضاء جدد وتصعيد المواجهة العنيفة مع الحكومة القيصريّة، ولأنّ الحزب كان محظورًا وسرّيًّا عاد “لينين” إلى “ستوكهولم” في العام نفسه لحضور المؤتمر الرّابع للماركسيّين، وفي سنة (1907) شارك في أعمال المؤتمر الخامس في “لندن”، أمّا المؤتمر السّادس فقد انعقد في “باريس” سنة (1908) بعد نقل مقرّ الحزب إليها، واستقرّ فيها بعد مشاركته في العام نفسه بمؤتمر الاشتراكيّين في “كوبنهاجن”. عند اندلاع الحرب العالميّة الأولى كان “لينين” في هنغاريا، وهناك اعتقلته السّلطات المجريّة لأنّه روسيّ، وكانت روسيا في حالة حرب مع الإمبراطوريّة الهنغاريّة النّمساويّة، فسجن لفترة قصيرة وتمّ الإفراج عنه لأنّ السّلطات المجريّة عرفت أنّه يعارض سياسة القيصر الرّوسيّ التّوسّعيّة.

حروب متواصلة وعبوديّة بائسة:
أعتقد إنّ دولة تعلن عن كونها إمبراطوريّة لن تكتفي بحدود رقعتها الجغرافيّة، بل ستتعدّى هذه الرّقعة بهدف الاستيلاء على أراضي الغير، ولن يكون هذا التّمدّد والتّوسّع الجغرافيّ غاية بحدّ ذاته بل هو وسيلة للهيمنة على الثّروات فتنهبها وعلى الشّعوب لاستعبادها، باغية من كلّ ذلك جني الأرباح المادّيّة والأطماع الاقتصاديّة من خلال الحرب والاحتلال والاستيطان والاضطهاد. وعندما تحقّق الإمبراطوريّة ذلك فإنّها لا تفعل ذلك لخير شعبها وازدهار أمّتها، بل هي وسيلة لزيادة أرباح الإقطاعيّين والرّأسماليّين من الحكّام الظّالمين والنّخبة الحاكمة والطّبقة الأرستقراطيّة المتذيّلة للسّلطة السّياسيّة، وهؤلاء قد لا يشكّلون من الأمّة إلّا نسبة قليلة لا تتعدّى ال 10%، والمصالح بين السّياسة والسّياسيّين والعسكر والعسكريّين والاقتصاد والاقتصاديّين متبادلة ومتعادلة، أمّا الضّحية لهذه الحروب والاحتلال والاضطهاد والمصالح والأرباح فهم السّواد الأعظم من الطّبقات الشّعبيّة من الأقنان والعبيد والفلّاحين المسخّرين والأجيرين المسحوقين من الأمم جميعًا المحتلّة (اسم فاعل) والمحتلّة (اسم مفعول) وهم يقاربون بنسبتهم السّكّانيّة ال 90% من النّاس. هذه الأكثريّة هي الّتي قام من أجلها الفكر الماركسيّ، ومصالحها هي الّتي أشغلت بال القائد الثّوريّ “لينين”، ومن أجلها أقام الطّليعة الثّوريّة وحزب “البلاشفة” (الأكثريّة) الّذي صار الحزب الشّيوعيّ فيما بعد، وقاد الثّورة الاشتراكيّة المنتصرة في أكتوبر سنة (1917) وأنهى بذلك النّظام القيصريّ الإمبراطوريّ الّذي يقوم على الشّموليّة والاستبداد وكافة ملحقاته الظّالمة.
الإمبراطوريّة الرّوسيّة وعلى مدى قرون طويلة خاضت العديد من الحروب مع إمبراطوريّات أخرى، فعلى سبيل المثال خاضت مع الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ (1568 – 1918) ثلاث عشرة حربًا، وخاضت مع غيرها مثل المجريّة والنّمساويّة والألمانية حروبًا كثيرة أخرى. وبما أنّ الإمبراطوريّات لها ذات الدّوافع والأطماع فلا بدّ من أن تكون الحروب بينها تحصيلًا حاصلًا، لأنّ الحرب تعتبر امتدادًا وانعكاسًا لأفكار سياسيّة أو لأطماع اقتصاديّة أو لأحوال اجتماعيّة. والبشريّة كلّها تعاني من ويلات الحروب، وإذا كانت الأنظمة الحاكمة هي الوقود الّذي يشعلها فإنّ الشّعوب ببسطائها ومسحوقيها وعبيدها وأقنانها وعمّالها الفقراء وفلّاحيها المعوزين هم الحطب الّذي يحترق بها، وهم الّذين تفقدهم الحرب كلّ أمل في الحياة والتّطوّر والثّورة والتّحرّر. لذلك كانت الحرب هي العدو الرّئيس للاشتراكيّة الماركسيّة الّتي حمل لواءها “لينين” على مدى أربعة عقود، هذه العقود الأربعة هي تاريخ مسيرته الكفاحيّة والفكريّة الخالدة. ومن هذه المسيرة تكوّنت عظمته كمفكّر ثوريّ أمميّ ومناضل ثوريّ ميدانيّ في ساحات الكفاح اليوميّ من أجل المسحوقين الرّوس وفقراء العالم، ومن أجل تحقيق حكم الطّبقة العاملة الّذي ينهي الحروب والاستعباد بين الأمم ويلغى استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ويضمن وفقًا لمشروعه الثّوريّ فكرًا وتطبيقًا السّلام العالميّ والاشتراكيّة الأمميّة والحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة وسعادة البشر. ولذلك أنهى “لينين” بشجاعة لم تُفهم في حينه دور روسيا في الحرب العالميّة الأولى في نيسان سنة (1918) وأخرجها من الصّراع الدّولي وفقًا لبنود معاهدة السّلام مع ألمانيا وحلفائها من دول المركز، فيما عُرف بمعاهدة “بريست ليتو فيسك”. الّتي سنأتي على ذكرها فيما بعد.
من الأحداث الفاصلة في تاريخ الإمبراطوريّة الرّوسيّة إلغاء نظام القِنانة الّذي نفّذه القيصر “إلكسندر الثّاني” (1818 – 1881) بنفسه ليس حبًّا بالأقنان أو اعترافًا أو إيمانًا بحقوقهم بل تحت ضغط الرّأي العامّ ودعوات الحركات الإنسانيّة العالميّة لإلغاء العبوديّة، وخوفًا من ثورة العبيد وهروبًا من الفشل الّذي منيت به روسيا بقيادة القيصر “نيقولا الأوّل” أمام تحالف كبير جمع قوّات الإمبراطوريّة الفرنسيّة والبريطانيّة والعثمانيّة ومملكة سردينيا فيما عرف بحرب “القرم”، فقد لاقت فيها روسيا هزيمة نكراء بسبب ضعف جيشها برَّا وبحرًا، وكانت أكثر الحروب إذلالًا ومهانة للإمبراطوريّة الرّوسيّة.

القِنانة:
كان إلغاء القنانة سنة (1861) تاريخًا فاصلًا في تاريخ روسيا القيصريّة، لأنّه شكّل بداية انتهاء احتكار الطّبقة الأرستقراطيّة للسّلطة، وحدا بالأقنان خاصّة أقنان الأرض بالنّزوح إلى المدن ممّا أدّى إلى بداية النّمو الصناعيّ، وإلى زيادة حجم الطّبقة الوسطى (البرجوازيّة) وتحوّل هؤلاء الفلّاحون إلى عمّال في المصانع، وهذا يشكّل بداية لنمو الطّبقة العاملة “الشّغيلة” (البروليتاريا) والّتي هي ركيزة الصّراع الطّبقيّ وتغيير النّظام القيصريّ الأرستقراطيّ ومن ثَمّ البرجوازيّ بالكفاح الثّوريّ المسلّح لبناء المجتمع الاشتراكيّ الّذي ستحكمه تلك الطّبقة، وهذا هو التّطبيق العمليّ للنّظريّة الّتي آمن بها “لينين” بالاعتماد على الأفكار الاشتراكيّة الماركسيّة والأمميّة والشّيوعيّة، أو ما سمّيت به النّظريّة العلميّة المعتمدة على شقّيْن: المادّيّة التّاريخيّة والمادّيّة الجدليّة. (الدّيالكتيكيّة) المستمدّة من تفسير “لينين” النّظريّ للماركسيّة وتطبيقه على أرض الواقع الرّوسيّ أوّلًا.
والقنانة شكل من أشكال العبوديّة أو الاسترقاق كما كان نظام الإمبراطوريّة الرّومانيّة القديمة قبل الميلاد، وها نحن في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر بعد الميلاد وما زال النّظام والعبوديّة هي ذات النّظام والعبوديّة. لا إمبراطوريّة قديمة أو حديثة بلا استرقاق أو عبوديّة أو قِنانة لأنها تشكّل ركيزة لظلم حكّامها واضطهادهم واستعبادهم للبشر وركيزة لحروبها وهيمنتها وأطماعها واستيلائها على ممتلكات الغير وتكديس الثّروات الهائلة لأفراد طغمهم وطبقاتهم المقرّبة. والقِنانة حالة اجتماعيّة واقتصاديّة للفلّاحين تحت ظلّ نظام الإقطاع، والقِن أو العبد يعمل بحمايته وتأمين لقمته المغموسة بالذّلّ، وأقنان الأرض العاملون بالفلاحة هم الطّبقة الاجتماعيّة الدّنيا في المجتمع، والقن يباع ويشترى مع الأرض فينتقل من سيّد إلى سيّد، هذا هو التّاريخ منذ الإمبراطوريّات في التّاريخ القديم حتّى الإمبراطوريّات في التّاريخ الحديث. ومن المؤلم والمؤسف والمقزّز من أولئك الأسياد والإمبراطوريّات أنّ العبد يكسب حرّيّته فقط بإحدى أربع طرق أبرزها الموت أو بالخدمة العسكريّة أو بالشّراء بالمال أو بإعتاقه، ويكفي أن نعلم أنّه كان في الإمبراطوريّة الرّوسيّة حتّى منتصف القرن التّاسع عشر 23 مليون من الأقنان، كانوا محرومين من الأراضي والمنازل وحتّى من الزّواج دون إذن أسيادهم، وحين منحوا قليلًا من الأراضي بعد الإصلاح سنة (1861) أثقلوا بالضّرائب واضطروا للتّخلّي عنها وتركوها فنزحوا كما ذكرنا إلى المدن. بعد الثّورة سنة (1917) استطاعت الدّولة السّوفييتيّة الاشتراكيّة استبدال هذا النّظام الظّالم من القنانة والاستغلال في عهد القيصريّة بنقائض لكلّ تلك البنى الزّراعيّة البائدة، وكذلك بعكس الزّراعة الفرديّة والعائليّة، وهي “الكولخوزات” التّابعة لمجموعة من الفلّاحين وتحت رعايتهم وَ “السّوفخوزات” التّابعة لملكيّة الدّولة وقد نجحت هذه البدائل الزّراعيّة التّعاونيّة في زيادة الإنتاج الزراعيّ العامّ، خاصّة بعد أن تطوّرت الصّناعة أيضًا وصارت الدّولة قادرة على توجيه الفلّاحين في تنظيم مجالات الزّراعة وإرشادهم وإمدادهم بالآلات الحديثة والوسائل العلميّة.

حرب البلقان مقدّمة فقط:
لقد أنشأت معاهدة “سان ستيفانو” الّتي أبرمت بين الإمبراطوريّة الرّوسيّة المنتصرة وبين الدّولة العثمانيّة المهزومة سنة (1878) بعد سلسلة طويلة من الحروب منذ سنة (1568 – 1918) ظروفًا جديدة مهّدت الطّريق أمام انهيار الإمبراطوريّتيْن في النّهاية، ولكنّ تلك الحروب شكّلت مسرحًا أوسع للقوى الاستعماريّة الدّوليّة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا والدّول النّاشئة مثل بلغاريا واليونان وصربيا في البلقان. لقد كانت تلك الصّراعات والحروب حتّى حروب البلقان تمهيدًا لأوّل صراع عالميّ بين الدّول وأطماعها هو الحرب العالميّة الأولى، الّتي اندلعت على عدّة جبهات الأولى منها سنة (1914) ودامت لخمس سنوات حتّى سنة (1919). خرج العالم كلّه منها خاسرًا وفقًا للمفهوم الرّوحانيّ والإنسانيّ والحضاريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ، أمّا وفقًا للمفاهيم المقابلة وموازين القوى السّياسيّة والأطماع والأرباح المادّيّة والمكاسب الاقتصاديّة، فلكلّ دولة حساباتها الخاصّة. لقد قدّرت الخسائر البشريّة فقط بثلاثين مليون إنسان بين قتيل وجريح ومفقود ومشوّه.
في حرب البلقان الأولى سنة (1912) تمرّدت الشّعوب والقوميّات السّلافيّة ضدّ الحكم العثمانيّ الّذي تعامل مع ثوراتهم بقمع ووحشيّة أثارت من جديد النّزعة الرّوسيّة للحرب ضدّ الأتراك بحجّة الوحشيّة التّركيّة، ودعمت تلك الثّورات. في هذه الفترة تسلّم الحكم في روسيا القيصر “ألكسندر الثّالث” كان رجعيًّا وتراجع عن الإصلاحات الّتي نفّذها سلفه “ألكسندر الثّاني” وأراد إعادة روسيا وفقًا لمفهوم جدّه القيصر “نيقولا الأوّل” وكان شعاره جعل روسيا دولة أرثودكسيّة وأوتوقراطيّة ووطنيّة، وضيّق في الدّاخل الخناق على الحرّيّات عامّة وعلى حرّيّة التّعبير والصّحافة وبثّ في المجتمع الرّوسيّ دعايته في خطورة الدّيمقراطيّة والدّستور والبرلمان. وقد عمل بسياسة القمع والقتل ضدّ الثّوريّين، أمّا في الخارج فقد تحالف مع فرنسا لصدّ أطماع ألمانيا المتنامية، فسيطرت روسيا على آسيا الوسطى وأجزاء من الصّين.
كلّ هذه الأحداث أعادت الصّراعات الحربيّة إلى السّطح في روسيا، فقد تسلّم الحكم بعد “ألكسندر الثّالث” (1845 – 1894) ابنه القيصر “نيقولا الثّاني” (1894 – 1917) في عهده وتحت ظلّ هذه الأوضاع والتّوترات ومع بداية نمو طبقة العمّال في المدن بدأت الصّناعة الرّوسيّة تنمو وعرفت هذه النّقلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بالثّورة الصّناعيّة في الإمبراطوريّة الرّوسيّة. لقد بدأ مع تكوّن الرّأسمال الصّناعيّ التّخوّف على المصالح الاقتصاديّة للطّبقة الأرستقراطيّة من النّبلاء وأصحاب الرّساميل فقاموا بإصلاح اجتماعيّ سلميّ وشكّلوا الحزب الدّستوريّ الدّيمقراطيّ، لإدراكهم أنّ الظّروف تغيّرت والأوضاع لم تعد هي الأوضاع نفسها، وعمّال المصانع ليسوا هم أقنان الأرض وعبيد الإقطاعيّين ملّاك الأرض، لقد أدركوا أن لا بدّ من امتصاص الغضب العمّاليّ والنّقمة الاجتماعيّة، وكان “لينين” يراقب ويرسم وينظّم ويتهيّأ لكفاح ثوريّ من طراز جديد في ذلك الصّراع الطّويل.
لينين وطراز جديد من الصّراع:
لم يرد “لينين” أن تنجرّ روسيا ولا أن تشارك بكلّ تلك الحروب مع الأمم الأخرى أو الإمبراطوريّات، فالحرب بمنظوره دمار ماحق للغاية، وهي السّلام والاشتراكيّة وماحق للوسيلة لتحقيقهما، وهو النّضال الثّوريّ والصّراع الطّبقيّ الّذي يجب أن تقوده الطّبقة العاملة بتنظيم طليعتها وقيادتها، الحزب البلشفيّ (الشّيوعيّ الأمميّ الماركسيّ) إنّه حزب مختلف ومن طراز جديد.
في أواخر القرن التّاسع عشر دعا الثّوريّون الاجتماعيّون إلى توزيع الأراضي على الفلّاحين الّذين يعملون فيها، لأنّ الإصلاحات السّابقة الّتي كانت تحت شعار إلغاء القنانة لم تضمن لهم ذلك، وكان مع هذه المجموعة الحزب الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ وهو من دعاة الماركسيّة، حيث دعوا إلى استكمال الثّورة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، ولكنّ هذا الحزب انقسم سنة (1903) إلى قسميْن نتيجة الاختلاف في التّوجّه الكفاحيّ والثّوريّ لإدارة الصّراع: المناشفة وهم المعتدلون رأوا بأنّ الاشتراكيّة في روسيا سوف تنمو تدريجيًّا بشكل سلميّ، وذلك بتحويل النّظام القيصريّ إلى نظام جمهوريّ، من خلال التّعاون بين الأحزاب الاشتراكيّة واللّيبراليّة البرجوازيّة على بناء الوطن. أمّا البلاشفة بزعامة “لينين” وهم “المتطرّفون” فقد دعوا إلى تشكيل نخبة من الثّوريّين تخضع لانضباط حزبيّ قويّ وصارم، لتكون هذه النّخبة الثّوريّة هي طليعة الطّبقة الكادحة من أجل الاستيلاء على السّلطة بالقوّة والسّلاح.

كانت الضّربات تتوالى مع بداية القرن العشرين على النّظام القيصريّ، وأبرزها خسارة روسيا وهزيمتها في الحرب مع اليابان (1904 – 1905) ولقد كانت هذه الهزيمة إنذارًا لحدوث القلاقل والثّورات، وصلت أوجها في أحداث “الأحد الدّامي” سنة (1905) حيث قاد الأب “جورجي غابون” (1870 – 1906) النّاس لتقديم عريضة احتجاج أمام “قصر الشّتاء”، وكان حشدًا هائلًا في العاصمة “سان بطرسبورغ” أطلق الجنود القوزاق النّار على المتظاهرين فقُتل المئات. تتراكم الأحداث والمعاناة الشّعبيّة حدثًا وراء حدث ومعاناة تلو أخرى، لقد كان لهذه المجزرة صدى جماهيريّ واسع، ولذلك خرجت تهتف وتطالب هذه الجماهير بإسقاط القيصريّة والإعلان عن الجمهوريّة. ولكنّ القيصر لمّا يسقط، أمّا الأحداث الدّامية وسلسلة الحروب المرهقة والمذلّة فكانت بداية ومقدّمة للثّورة الرّوسيّة سنة (1905) ولمّا تسقِط هذه الثّورة القيصر أيضًا. ولكنّ القيصر “نيقولا الثّاني” ونتيجة لضغط النّشاط الثّوريّ بعد تكوّن مجالس العمّال (السّوفييتات) الّتي قادت الكفاح الثّوريّ ووحّدت النّاس، إذ ظلّت الحكومة عاجزة ولم تستطع أن تقدّم حلولًا للأوضاع المزرية على كافّة الأصعدة. اضطرّ القيصر على مضض إلى الإعلان عن “بيان أكتوبر” الّذي تضمّن الموافقة على إنشاء البرلمان الوطنيّ (الدّوما) والّذي كان يهدف إلى إرضاء المجموعات المعتدلة. هذه التّنازلات الّتي قدّمت لامتصاص نقمة الجماهير المسحوقة رفضها الاشتراكيّون الثّوريّون بقيادة “لينين” لأنّها لا تفي بالمطالب العادلة، فنظّموا الإضرابات من جديد، وفي الوقت ذاته الّذي كان فيه الاشتراكيّون يكافحون ضدّ الإجراءات القيصريّة البائسة كان انقسام الإصلاحيّين وابتعادهم عن الكفاح سببًا من أسباب تعزيز قوّة القيصر ونظامه الفاسد. ولمّا يسقط القيصر.

الحرب الأولى مفصل نحو الحسم الثّوريّ:
وأقصد الحرب العالميّة الأولى سنة (1914) الّتي زجّ روسيا في أتونها القيصر “نيقولا الثّاني” وأخرج روسيا من بلاياها “لينين” سنة (1918) بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيّة، فقد دافع القيصر عن ضرورة الدّخول في الحرب قوميًّا ووطنيًّا، وبذريعة مساندة الأرثودكس السّلافيّين والصّرب ضدّ دول “المركز” ولدعم الجيش الفرنسيّ ضدّ ألمانيا، ومع ذلك لم يشفع ذلك الموقف للقيصر عند الشّعب الرّوسيّ، فسلسلة من الانقلابات العسكريّة والدّعاية المناوئة للحرب صوّرت الحكومة الرّوسيّة عاجزة عن تولّي شؤون البلاد في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة البائسة، فازدادت النّقمة الشّعبيّة، خاصّة بعد ازدياد عدد الضّحايا جرّاء الحرب وانخفاض معنويّات الجنود الرّوس على المستوى العسكريّ، أمّا على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ فقد عانت الطّبقات الدّنيا من نفاد المؤن الغذائيّة والوقود وارتفاع التّضخّم الماليّ، ممّا أدّى إلى ازدياد الغليان الشّعبيّ وإضرابات العمّال في المصانع ومطالبة الفلّاحين بالإصلاح الزّراعيّ. لقد انخفضت ثقة الشّعب بالنّظام الحاكم رغم اغتيال “غريغوري راسبوتين” (1869 – 1916) صاحب التّأثير الكبير على “ألكسندرا فيودوروفنا” (1872 – 1918) زوجة القيصر الطّموحة بعد تمكّنه من علاج ابنها “ألكسي” وعلى العائلة القيصريّة والعابث بمقدّرات السّياسة والدّولة الرّوسيّة، وكان لنفوذه المتزايد أن أدّى إلى استياء شعبيّ عارم، خاصّة بعد أن دار جدل واسع حول نفوذه في القصر وعلاقته بزوجة القيصر، وعن علاقاته الجنسيّة مع زوجات كبار المسؤولين. إنّ اغتيال “راسبوتين” على أيدي أفراد من العائلة المالكة لم يُعد الهيبة إلى الدّولة ولم يحسّن صورة القيصر ولا الحكومة.
أتخمت الحروبُ الإمبراطوريّةَ الرّوسيّة بالويلات السّياسيّة والمصاعب الاجتماعيّة والتّردّي الاقتصاديّ وأجهدت الهزائم الحربيّة المتكرّرة ميزانيّة الدّولة، وكانت كلّ الظّروف السّياسيّة والأوضاع الاجتماعيّة والحالة الاقتصاديّة تمهّد للثّورة، ففي سنة (1917) تفجّرت ثورة “فبراير” إثر إضراب للعمّال في أحد مصانع العاصمة “سان بطرسبورغ” ومن ثمّ يمتدّ الإضراب ويشمل كلّ العمّال في المدينة، فكان ردّ القيصر بحلّ البرلمان “الدّوما” وأصدر الأوامر بعودة العمّال المضربين إلى العمل. المجلس يرفض الحلّ والعمّال يزدادون اتّحادًا، والأهمّ أن الجيش كذلك وقف إلى جانب العمّال، وانشئت حكومة مؤقّتة لإدارة شؤون البلاد بقيادة “غريغوري لفوف” (1861 – 1925) في الرّابع من نيسان سنة (1918) ألقي القبض على القيصر وأجبر على التّنازل عن الحكم، ومن ثمّ اغتيل وحاشيته ومساعديه وزوجته وأولاده يوم 17 تمّوز سنة (1918) وسقط القيصر. وكان “نيقولا الثّاني” آخر القياصرة من سلالة “رومانوف” الّتي حكمت روسيا لثلاثة قرون. ولأوّل مرّة في تاريخها ومع تولّي البلاشفة وتشكيلهم لمجلس من العمّال والجنود تحوّلت روسيا إلى النّظام الجمهوريّ، بعد الكفاح الثّوريّ للطّبقة العاملة بقيادة “لينين” العظيم. لقد أيّد “لينين” وكان لا يزال في سويسرا هذه الثّورة لأنّها أطاحت بالقيصر، ولكنّه لم يرَ فيها الثّورة الّتي أراد لها أن تقتلع القيصر ونظامه القيصريّ وحروبه المرهقة فقط بل أرادها ثورة تجري تحوّلات ثوريّة جذريّة في عمق الوطن الرّوسيّ يقودها حزب الطّبقة العاملة الماركسيّ الشّيوعيّ ومع تعاون الفلّاحين.
عاد “لينين” إلى روسيا والحرب مع ألمانيا مشتعلة، وفي زياراته لأوروبا عبّر عن غضبه وألمه لمواقف الحزب الاشتراكيّ الألمانيّ الّذي دعم المجهود الحربيّ الألمانيّ رغم مخالفة هذا الدّعم لقرارات الأمميّة الثّانية سنة (1914) الّتي دعت قراراتها الأحزاب الاشتراكيّة إلى معارضة الحروب الإمبرياليّة والصّراعات القوميّة الإمبرياليّة باعتبارها العدوّ الأساسيّ للصّراع الطّبقيّ الأمميّ ولبناء المجتمع الاشتراكيّ بقيادة الطّبقة العاملة. في هذه الفترة سنة (1917) نشر “لينين” كتابه الشّهير “الإمبرياليّة أعلى مراحل الرّأسماليّة” المعبّر عن تلك الحروب الإمبرياليّة المدمّرة الّتي تسحق الشّعوب والحضارة والثّروات، وتضع بسطاء الأمم وفقراءها في مواجهة حربيّة طاحنة يكونون هم أنفسهم ضحاياها، لقد وصّف “لينين” بالتّحليل العلميّ والموضوعيّ أطماع الإمبرياليّة في الاستيلاء على الثّروات وزيادة الأرباح من خلال التّوسّع في أقاليم ومناطق جديدة، ممّا يزيد المنافسة ويعمّق الصّراع حتّى تشهد الإمبرياليّة نهايتها بعد إدراك الشّعوب الفقيرة للظّلم اللّاحق بها وزيادة وعي العمّال المستغلّين لطبيعة الصّراع الحقيقيّ، الصّراع الطّبقيّ ضدّ المستغلّين من الإمبرياليّين والرّأسماليّين والأقليّة من الطّبقات الغنيّة الحاكمة في تلك الدّول والّتي تسعى لمصالحها الذّاتيّة الضّيقة على حساب الأكثريّة من فقراء الشّعوب عمّالًا وفلّاحين.

ثورة أكتوبر انتصار ونهاية حرب:
عند عودته إلى “سان بطرسبورغ” ألقى “لينين” خطابًا أمام أنصار البلاشفة دعا فيه صراحة وبوضوح إلى الثّورة البروليتاريّة الأوروبيّة وإلى إنهاء الحرب ودعا إلى السّلام مع ألمانيا ومع الإمبراطوريّة الهنغاريّة النّمساويّة. لقد آمن “لينين” بأنّ استمرار الحرب نحو الخارج يشكّل العائق الأكبر أما تطوّر الأحداث في الدّاخل الرّوسيّ، والّتي كانت تتطوّر رغم ذلك العائق الكبير. القائد “لينين” وشعاره العظيم تحقيق “الأرض والخبز والسّلام” للعمّال والفلّاحين، ومعه قائد الجيش الأحمر “ليون تروتسكي” مؤمنين بأفكار “ماركس” الّتي طوّرها القائد ومع طليعة الطّبقة العاملة يسعون جميعًا لإنجاح أوّل ثورة شيوعيّة في التّاريخ الحديث لإقامة الدّولة الاشتراكيّة وقيام الاتّحاد السّوفييتيّ، مستفيدين من فشل الحكومة المؤقّتة بقيادة “ألكسندر كيرنسكي” (1881 – 1970) الّتي أخذت البلاد إلى حدّ الكارثة، فالحكومة الرّوسيّة المؤقّتة ظلّت عاجزة عن قيادة البلاد نحو مصير معروف ومستقبل آمن، فزادت الاحتجاجات ضدّها وعمّت المظاهرات العمّاليّة، خاصّة لأنّها لم توزّع الأراضي على الفلّاحين كما طالب “لينين”، والأنكى من ذلك وزيادة على قصور تلك الحكومة السّياسيّ والإداريّ وعلى عدم امتثالها للمطالب المحقّة فقد أصدرت أمرًا باعتقال القائد “لينين” لأنّها اعتبرت أنّ كلّ ما يجري من “شغب” هو من بنات أفكاره “الهدّامة”، لقد هرب “لينين” إلى “رازليف”، في هذه الفترة من سنة (1917) بدأ يكتب كتابه “الدّولة والثّورة” الّذي ضمّنه مواقفه من تطوّر الدّولة الاشتراكيّة بعد انتصار ثورة الطّبقة العاملة.
في هذه الحقبة انخفض الإنتاج الصّناعيّ فأغلقت الشّركات بعد خسارة نصف الإنتاج، وارتفعت نسبة البطالة وازدادت تكاليف المعيشة بسبب الغلاء وارتفاع رهيب في الأسعار وانخفاض في الأجور، وقد وصلت ديون الدّولة سنة (1917) إلى 50 مليار روبل، وصلت البلاد حدّ الإفلاس. ومع هذه الأوضاع أرادت الحكومة الاستمرار بالحرب مع ألمانيا. أنهار الجيش الرّوسيّ في هجومه على الألمان، فعمّت المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات من “سان بطرسبورغ” لتعمّ كلّ المدن الكبرى، وصل عدد المتظاهرين إلى نصف مليون في العاصمة “سان بطربورغ”، وفي “موسكو” حوالي نصف مليون أيضًا. الحكومة وبدعم من المناشفة تطلق آخر ما في جعبتها من سهام الحقد على الثّورة، فقامت بهجوم مسلّح ودمويّ على المتظاهرين في العاصمة، فسقط 56 قتيلًا وأصيب 650 متظاهرًا. يأبى الجنرال “لافار كورنيلوف” (1870 – 1918) القائد العامّ للقوّات المسلّحة الّذي رفض موقف الحكومة الرّاغبة بحلّ الجيش، وقد قام مع القوّات المخلصة له واستجابة لنداء البلاشفة بالإطاحة بالحكومة، لكنّه عاد وبطبيعته اليمينيّة وقاد تمرّدًا عسكريًّا ضدّ الثّورة، ولكن “سبق السّيف العذل” كما يبدو إذ كان الحزب البلشفيّ قد قام بالتّعبئة الثّوريّة ضدّه، فاستطاع العمّال وقوّة الحرس الأحمر من القضاء على ذلك التّمرّد.
في انتخابات آب اكتسح البلاشفة الأكثريّة السّاحقة في اتّحادات العمّال في المدن الكبرى وفازوا بقيادة كلّ نقابات العمّال. كان “لينين” المفكّر والقائد العظيم وراء كلّ تلك الإنجازات العظيمة كرئيس للجنة المركزيّة للحزب البلشفيّ. العاشر من أكتوبر كان يومًا مهمًّا على طريق انتصار الثّورة الاشتراكيّة فقد أعلن القائد: “انتفاضة مسلّحة أمر لا بدّ منه، لقد حان الوقت لذلك تمامًا”، انطلق “لينين” رئيس اللّجنة المركزيّة للحزب البلشفيّ بتوجيه العمل الكفاحيّ وقيادته بتنظيم حركة تمرّد مسلّحة بقيادة البلاشفة من أجل الإطاحة بالحكومة المؤقّتة، تحت شعاريْن “تسقط الحرب” وَ “كلّ السّلطة للسّوفييتات”، ففي يوم 23 أكتوبر سنة (1917) تقرّر القيام بانتفاضة مسلّحة ضدّ الحكومة بقيادة الحزب، لأنّ “الانتظار أكثر من ذلك سيكون جريمة” كما قدّر “لينين” الأمور. استطاعت هذه الانتفاضة الثّوريّة من الإطاحة بحكومة “كيرنسكي” ووصول الحزب البلشفيّ إلى السّلطة، وأصبح قائد الثّورة رئيسًا لأوّل حكومة للجمهوريّة الرّوسيّة الاشتراكيّة في الفترة (1917 – 1918) ومن ثمّ رئيسًا للاتّحاد السّوفييتيّ في الفترة (1918 – 1924) في الخامس والعشرين من أكتوبر قاد البلاشفة قوّاتهم للانتفاضة في قلب العاصمة، لم تستطع حكومة “كيرنسكي” المقاومة فاستولى البلاشفة على مرافق الدّولة ومؤسّساتها الرّسميّة، وفي الليلة التّالية هاجموا “قصر الشّتاء” القيصريّ وكان محروسًا من القوزاق وكتيبة من النّساء تمّت السّيطرة عليهم بسهولة، فاستولى البلاشفة على القصر وكان أوّل إعلان من “لينين” القائد بعد تشكيل الحكومة الجديدة خروج روسيا من الحرب العالميّة الأولى ومصادرة أملاك كبار الملّاكين ومصانع الرّأسماليّين وإعلان حقّ الشّعوب بالانفصال عن الإمبراطوريّة الرّوسيّة.

الحفاظ على الثّورة أصعب من انتصارها:
انتصرت ثورة أكتوبر الاشتراكيّة بقيادة زعيمها العظيم “لينين”، الّذي آمن بأنّ الحفاظ على مكتسبات الثّورة وإنجازاتها أهمّ وأصعب من انتصارها، ولأجل ترسيخ تلك المكتسبات والأهداف السّياسيّة والتّحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة كان أوّل قراراته بعد تسلّمه السّلطة رئيسًا للحكومة الجديدة (1917 – 1918) الإعلان عن خروج روسيا من الحرب العالميّة الثّانية، وعندما قرّرت ألمانيا مهاجمة روسيا المهزومة في آذار سنة (1918) رأى بنظرة القائد عميق الرّؤية خطورة الأمر على الثّورة والبناء الاشتراكيّ، لذلك اضطرّ لقبول الشّروط الألمانيّة في معاهدة الصّلح المعروفة بمعاهدة “بريست”، وذلك لتجنيب البلاد مزيدًا من الخسائر البشريّة والمادّيّة. هذه المعاهدة الّتي لم تُفهم في حينه كضرورة لا يقدم عليها إلّا قائد شجاع وسط معارضة من كثير من القادة أشهرهم وزير الخارجيّة “ليون تروتسكي”، الّذي رفض التّوقيع ولكنّه وافق على إنهاء الحرب تحت شعار “لا حرب ولا سلام”، ومن ثمّ استقال بعد التّوقيع. لم يثنِ هذا الموقف “لينين” عن التّوقيع على معاهدة السّلام خاصّة عندما رأى بأنّ ألمانيا على وشك شنّ هجوم كاسح وقريب، ولأنّه أدرك أنّ هذه الحرب القوميّة والبرجوازيّة لا تأخذ بالحسبان ولا تراعي إطلاقًا مصالح العمّال، وتعمل على تأخير الصّراع الطّبقيّ ونقله وحصره في صراعات قوميّة مدمّرة ومهلكة، وعلى سطح الحقيقة بدت الشّروط المهينة والمذلّة لروسيا، فقد تخلّت روسيا عن أراض ومناطق واسعة لصالح ألمانيا وحليفتها تركيا، كان “لينين” يدرك هذا الذّلّ والخزي فقال: “يجب علينا قبول هذا السّلام المخزي من أجل إنقاذ الثّورة العالميّة”، هدّد “لينين” بالاستقالة من منصبه كرئيس للحكومة وكرئيس للجنة المركزيّة للحزب إذا لم يتمّ التّوقيع، وثبت تاريخيًّا أنّ موقف القائد كان صحيحًا، لأنّه تراجع خطوة للوراء من أجل عشر للأمام كما قال شاعرنا الشّيوعيّ “توفيق زيّاد” (1929 – 1994) ولعلّ هذا الموقف الّذي انوضع فيه “لينين” مع العدوّ الألمانيّ وانتصر فيه يذكّر بذات الموقف الّذي انوضع فيه النّبيّ “محمّد” (570 – 632) في صلح “الحديبية” مع العدوّ القرشيّ، إذ تراجع لعشر سنوات وفقًا للاتّفاق كان يحتاجها، ولكنّه عاد وفتح مكّة منتصرًا على الباطل الّذي كان زهوقًا في عصره وكان زهوقًا في عصر “لينين” وما زال زهوقًا وسيبقى كذلك إلى الأبد الأبيد. العظماء يعرفون ماذا يفعلون حتّى عندما يتراجعون.
بعد أكثر من عقديْن ونصف العقد من الزّمان قال رئيس الحكومة البريطانيّ “ونستون تشرتشل” (1874 – 1965) المتحالف مع الاتّحاد السّوفييتيّ في الحرب العالميّة الثّانية (1939 – 1945) ضدّ دول المحور ومحورها ألمانيا النّازيّة بزعامة “أدولف هتلر” (1889 – 1945) قال: “اقتلوا هذه الدّجاجة قبل أن تبيض”، وقد قصد تخوّفه من امتداد الثّورة الشّيوعيّة السّوفييتيّة وخطورتها على العالم الرّأسماليّ ومطامعه الاقتصاديّة ومصالحه السّياسيّة التّوسعيّة. ولكنّ الدّجاجة باضت علمًا أحمر رفرف على مبنى “الرّايخستاغ” مقرّ الحكومة الألمانيّة في وسط العاصمة الألمانيّة “برلين” بعد الانتصار على النّازيّة إثر انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، وما زال هذا العلم يرفرف بيد الثّوّار في جميع أنحاء العالم من أجل السّلام والاشتراكيّة والعدالة والكرامة الإنسانيّة، وبه وبدعمه انتصرت الثّورات في أوروبا الشّرقيّة وآسيا وأفريقيا وأميركا اللّاتينيّة. ولذلك يخطئ من يظنّ أنّ ثمّة اختلافات جوهريّة بين “تشرتشل” وَ “هتلر” كممثّليْن لنفس الفكر الرّأسماليّ ولنفس السّياسة الإمبرياليّة التّوسعيّة على حساب مسحوقي العالم وشعوبه الفقيرة ولهما نفس الأطماع في الهيمنة والسّيطرة على الثّروات القوميّة وعلى المقدّرات المادّيّة بالاحتلال والظّلم والاحتكار والاستغلال، ولكنّ الفرق الطّفيف بينهما هو أنّ “هتلر” أبدى أطماعه تلك بطريقة واضحة وأكثر شراسة ووحشيّة من “تشرتشل” الخبيث والشّرس أيضًا. “تشرتشل” هذا قبل الهدنة على وقف الحرب أبلغ الحكومة البريطانيّة أنّه من الضّروري إعادة بناء الجيش الألمانيّ لمحاربة البلاشفة والشّيوعيّة في روسيا خشية امتدادها إلى دول العالم وشعوبه ويخشى من ثورات تلك الشّعوب الّتي يستعبدها أمثاله بالاستعمار والاحتلال والاستغلال والوحشيّة “المتنوّرة” والهيمنة.

خرج “لينين” من محطّة “بريست” إلى الانشغال الواسع في إجراء التّحوّلات الثّوريّة الّتي آمن بها نظريًّا ورأى أن لا قيمة لها إلّا بالتّطبيق على أرض الواقع، فالواقع أهمّ وأغنى من أيّ نظريّة، ومن أعظم ما قام به من سياسات في داخل روسيا تأميم الممتلكات الأرستقراطيّة وجعْلها تحت ملكيّة الدّولة وإغلاق الصّحف المناهضة للثّورة وإلغاء القانون القيصريّ الّذي كان معمولًا به من قبل الاشتراكيّة وإصلاح القوّات المسلّحة بدعوة الجنود لانتخاب قادتهم وإنشاء مجلس أعلى للاقتصاد الوطنيّ وانتهاج برنامج قانون التّعليم المجانيّ والعلمانيّ لجميع الأطفال وكفالة الأيتام وإعلان المساواة التّامّة بين الجنسيْن وتحرير المرأة ومكافحة الأمّيّة وفصل الكنيسة عن الدّولة وحظر التّعليم الدّينيّ وتأميم التّجارة الخارجيّة وكلّ المرافق العامّة والأملاك الخاصّة والبنوك والأراضي الزّراعيّة ووسائل الخدمات العامّة كسكك الحديد وصناعة المعادن والنّسيج سنة (1918) وفي العام نفسه وبتحدٍّ للدّول الإمبرياليّة رفض تسديد كلّ الدّيون الخارجيّة، وعلى الصّعيد الخارجيّ والعالميّ أعطى المجال لكلّ القوميّات والدّول الّتي كانت تحت لواء الحكم القيصريّ الرّوسيّ الحرّيّة بالانفصال والتّحرّر إذا رغبت في ذلك، وأنشأ منظّمة “الكومنتيرن” أو ما عرف بالأمميّة الثّالثة سنة (1919) والأهمّ من كلّ ذلك بدأ يبنى النّظام الاشتراكيّ وفقًا للنّظرية الماركسيّة والرّؤية اللّينينيّة وبنى الجيش الأحمر وبه استطاع القضاء على الحرب الأهليّة الرّوسيّة سنة (1920) لقد قلب “لينين” القائد مع الحزب الثّوريّ روسيا رأسًا على عقب كما قال مرّة في بدايات الثّورة. بعد عام واحد على الثّورة زاد عدد المدارس بنسبة 50% وشهدت روسيا قفزات كبيرة في الابتكار والإبداع والفنون والسينما والمسرح، وقد قال الشّاعر الرّوسيّ “ماياكوفسكي” (1892 – 1930) معبّرًا عن مدى إنجازات تلك الفترة القصيرة: “شوارعنا نسخّرها لفرشات التّلوين، لوحاتنا في مياديننا بمساحاتها الواسعة المفتوحة”. بعد خمس سنوات حتّى سنة (1922) وفي الفترة الّتي كان فيها “لينين” رئيسًا للاتّحاد السّوفييتيّ أنجزت الثّورة إنجازات هائلة في كافّة جوانب الحياة الثّقافيّة والعلميّة والاقتصاديّة والعمليّة، لم يخلُ الأمر من قليل من الأخطاء، “فمن يعمل يخطئ ومن لا يعمل لا يخطئ”.

وكان على “لينين” وحزبه وثورته وجيشه “الأحمر” بعد انتصار الثّورة أن يواجه “قوّات البيض” أو ما أطلق عليهم أصحاب “الفكرة البيضاء” المناهضة للبلشفيّة الحمراء، أصحاب الفكر القيصريّ الّذين يريدون إرجاع الأوضاع إلى ما كانت عليه في عهد القيصريّة بعد الإطاحة بالنّظام الاشتراكيّ، وقد ضمّت هذه القوّات مجموعة من القوزاق والنّبلاء والجنود، حاربوا الجيش “الأحمر” خلال الحرب الأهليّة (1917 – 1922) ولكنّ المدّ الاشتراكيّ الرّاسخ في وجدان المسحوقين من العمّال والفلّاحين بقيادة الحزب وقائده الفذّ، جعل هؤلاء الفقراء يرغبون عن هذه القوّات البيضاء الّتي سعت لإعادتهم لعهد الظّلم والاستعباد والقنانة، زيادة على أنّها كانت سيئة التّنظيم أمام الجيش “الأحمر” المتماسك والمعبّأ والمنضبط. كان المفكّر لتلك القوّات “إيفان إيلين” (1883 – 1954) وقائدهم العسكريّ “الجنرال “رانجيل” (1878 – لم أجد سنة موته) تصوّروا إلى أين تصل خيانة الثّورة المضادّة للوطن، وإلى أين يصل الحقد الرّأسماليّ والأرستقراطيّ المعادي لحقوق العمّال والفلّاحين في الحرّيّة والعدالة والكرامة، لقد استطاع الجيش “الأبيض” بقيادة “ميخائيل ديتيريخس” (1874 – 1937) من إعادة تنصيب “نيقولاي رومانوف” قيصرًا على روسيا، وقد وصل الأمر بهذا الجيش للتّعاون مع قوّات دول “المركز”، وفيما بعد صار قائده “ساخاروف” المستشار الخاصّ للنّازيّ “أدولف هتلر” العدوّ اللّدود للاتّحاد السّوفييتيّ لشؤون روسيا أثناء الحرب العالميّة الثّانية، ويقال أنّ لهذا الجنرال تصريحًا يقول: “إنّ حركة البيض كانت في جوهرها أوّل مظاهر الفاشيّة”. كان على “لينين” وهو في قمّة ممارسة التّطبيق الاشتراكيّ وتنظيم بناء الدّولة الجديدة أن يواجه هذا الحقد الرّأسماليّ الفاشيّ وهؤلاء الأعداء الخائنين لوطنهم والّذين من أجل مصالحهم الضّيّقة كانوا مستعدّين لتسليم الوطن إلى أعدائه الغازين، ومن هذه القوى “الكولاك” وهم كبار الفلّاحين الّذين تمرّدوا وأرادوا استرداد الأرض لملكيّتهم ولكنّ الثّورة استطاعت من إخماد هذا التّمرّد الخطير. ولذلك كان لا بدّ من الاعتماد على جهاز الاستخبارات السّوفييتيّ (الكي جي بي) الّذي تأسّس في 20 كانون الأوّل سنة (1917) تحت إشراف من “لينين” وبرئاسة “فليكس دزرسنسكاي”، وقد كان هذا الجهاز يعتبر في البداية درعًا وسيفًا للثّورة والحزب الشّيوعيّ والدّولة الاشتراكيّة، كما دلّ على ذلك شعاره، وكان له مهمّتان: خارجيّة تهتمّ بزرع العملاء في الولايات المتّحدة والعالم الغربيّ، وقد حقّق عملاؤه إنجازات أمنيّة وعسكريّة وعلميّة فائقة مثل الحصول على سرّ صناعة القنبلة الذّرّيّة من الولايات المتّحدة وتسريب التّكنولوجيا للصّناعات المتقدّمة مثل صناعة المحركّات النّفاثة والرّادارات ووسائل التّشفير من العالم الغربيّ، لقد استطاع هذا الجهاز من خلق حالة ذعر لدى الأوساط الأمنيّة في دول الغرب سمّيت بِ “الذّعر الأحمر”. أمّا المهمّة الدّاخليّة فكانت منع الأفكار المخالفة للفكر الشّيوعيّ والمناهضة للحزب، ومن خلال ذلك كان له فيما بعد دور سلبيّ في مراقبة الحياة العامّة وقمع كلّ ما من شأنه تهديد النّظام السّوفييتيّ ويقمع المعارضين ممّن أطلق عليهم “أصحاب الأفكار الهدّامة” وظلّ قائمًا حتّى الانهيار السّوفييتيّ، ففي 11 تشرين الأوّل سنة (1991) أعلن عن حلّ هذه المؤسّسة الأمنيّة الّتي اعتبرت من أنجح المخابرات في العالم ومن أخطرها على الدّول الغربيّة كحامٍ للثّورة ومن المؤسف أن يتحوّل بعد “لينين” إلى أداة قمع بأسلوب لا ديمقراطيّ ليصبح بالتّالي حاميًا للنّظام البيروقراطيّ للحزب البعيد عن الجماهير وقضاياها المختلفة. تكمن عظمة “لينين القائد الفذّ في تلك الإنجازات وفي القدرة على الصّبر والذّلّ والانتصار على أعداء الثّورة والوطن، وهذا أحد التّفسيرات لقبوله الشّروط المذلّة لمعاهدة “بريست” مع ألمانيا النّازيّة.

ماذا قدّم لينين للماركسيّة:
ثمّة مقولة شهيرة وهامّة قالها “لينين” في كتابه “ما العمل” حول ضرورة الارتباط العضويّ بين النّظريّة والتّطبيق: “لا يوجد حركة ثوريّة بدون نظريّة ثوريّة”، ولعلّ في هذه العبارة القصيرة تجربة مسيرة طويلة من الجهد الفكريّ والنّشاط الميدانيّ قدّمهما “لينين” كمؤمن حتّى النّخاع بالماركسيّة وفق ما جاء في “البيان الشّيوعيّ”، الّذي نشره “ماركس” وَ “إنجلز” سنة (1848) ولم يترجم “لينين” ذلك البيان إلى اللّغة الرّوسيّة فحسب بل تعرّض لمقولاته النّظريّة الأساسيّة وبسّطها وترجمها إلى معطيات واقعيّة قابلة للتّطبيق الفعليّ، باعتبار ذلك البيان هو أهمّ أساس نظريّ تقوم عليه الأحزاب الشّيوعيّة منذ منتصف القرن التّاسع عشر حتّى اليوم، مرورًا ببدايات القرن العشرين، بعدما أعلن “لينين” عن نفسه ماركسيًّا سنة (1898) وبدت ملامح اضمحلال الرّأسماليّة بوصولها إلى أعلى مراحلها كما سمّاها “الإمبرياليّة”. لقد قدّم البيان الشّيوعيّ كما فهمه “لينين” ببصيرة الثّوريّ نهجًا تحليليًّا للصّراع بين الطّبقات وعرضًا لأزمات الرّأسماليّة ومن مقولات “ماركس” الشّهيرة: “إنّ تاريخ كلّ مجتمع موجود حتّى الآن في صراع الطّبقات” وقد رأى “لينين” بأمّ عينه أنّ ذلك التّحليل ينطبق على الحالة الرّوسيّة وما يعتورها من أزمات واحتكارات ورأسمال وأطماع واستغلال ومقابل ذلك ما يرين من البؤس والجوع والظّلم وانعدام العدالة وانعدام الحرّيّات في أوساط الفقراء من عمّال في المدن وفلّاحين في الأرياف. وفي آخر ديباجة البيان وصّف “ماركس” وَ “إنجلز” باقتضاب أعداء الشّيوعيّة وعن معاداتهم لها وتخويف النّاس من “شبح الشّيوعيّة” ولكنّ هؤلاء الأعداء كلّهم “أصبحوا يعترفون بالشّيوعيّة كقوّة” ولذلك طالب البيان الأحزاب الشّيوعيّة والشّيوعيّين في كلّ مكان “إنّ الشّيوعيّين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم كلّه طرق تفكيرهم وأهدافهم واتّجاهاتهم وأن يواجهوا خرافة “شبح الشّيوعيّة” ببيان من الحزب نفسه” ولهذه الغاية اجتمع شيوعيّون من مختلف القوميّات في “لندن” وكان هذا البيان الّذي فوّضت العصبة الشّيوعيّة “ماركس” وَ “إنجلز” بصياغته ونشره بكلّ اللّغات الأوروبيّة. وما زال هذا البيان يعتبر مرجعًا لكلّ الشّيوعيّين في سائر أنحاء العالم، حيث يؤمنون بضرورة استبدال المجتمع الرّأسماليّ والبرجوازيّ بالمجتمع الاشتراكيّ ومن ثمّ إلى المجتمع الشّيوعيّ. فالمجتمع كما نصّ البيان “لم يعد قادرًا أن يعيش تحت ظلّ البرجوازيّة”، ولذلك حذّر البيان العمّال من الاكتفاء عند حدود الانتصارات والإنجازات المباشرة لها، “يمكن أن ينتصر العمّال من وقت لآخر، ولكن تكمن الثّمرة لمعاركهم ليس في النّتيجة المباشرة فحسب، بل في التّوسّع الدّائم لاتّحاد العمّال في العالم”.

لقد برز الفارس الهمام والبطل الشّجاع “لينين” لدعوة رفيقه “كارل ماركس” وندائه في تنفيذ هذه المهمّة الشّريفة والإنسانيّة لإنقاذ المظلومين والمحرومين والمعذّبين والمعدمين من الجوع والفقر والظّلم والاضطهاد والاستغلال، فنزل “لينين” بفلسفة النّظريّة الماركسيّة المادّيّة من سماء العلوم الطّبيعيّة والمعرفة العلميّة المجرّدة والافتراضات الفلسفيّة الصّرفة إلى أرض الواقع وجعلها معركة لهيبها يضيء سماء العالم ويبعث الأمل والرّجاء في القلوب مطرًا منعشًا للخلاص من مآسي الحياة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وأصبحت المعركة معركة الجماهير العريضة من الأقيان والفلّاحين والعمّال، بين الطّبقات المضطهَدة والكادحة والمحرومة والمستغَلّة وبين الطّبقات المستغِلّة ومصّاصي دمائهم من الإقطاعيّين والرّأسماليّين والبرجوازيّين المتذيّلين. لقد كان “لينين” المطبّق المبدع والمطوّر الملهم لنظريّة “ماركس” وَ “إنجلز” في مرحلة الإمبرياليّة، وقد برزت مواهبه المخلصة من خلال تصدّيه للمحرّفين الشّعبيّين والاقتصاديّين وأثبت بعمق الدّور التّاريخيّ للبروليتاريا في روسيا كقوّة ثوريّة طليعيّة للمجتمع. وكان أوّل من صاغ الفكرة العظيمة، فكرة تحالف العمّال والفلّاحين وهو الذي طبّق النّظريّة الماركسيّة حسب ظروف روسيا وأوضاعها وقاد ثورة أكتوبر العظمى وفجّرها ثورة عظيمة هزّت أركان العالم كلّه وحقّق النّصر العظيم للشّعب الرّوسيّ والإنسانيّة.
وقد يكون “لينين” الماركسيّ أكثر المفكّرين إدراكًا لتلك المقولات وأكثرهم قدرة على التّطبيق العمليّ على أرض روسيا القيصريّة. ففي كتابه “المادّيّة ومذهب النّقد التّجريبيّ” كتب “لينين”: “تتمثّل أسمى مهامّ البشريّة في فهم هذا المنطق الموضوعيّ للتّطوّر الاقتصاديّ (تطور الحياة الاجتماعيّة) في جوانبها العامّة والجوهريّة، إلى حدّ يجعل من الممكن أن يتلاءم الوعي الاجتماعيّ الفرديّ ووعي كلّ الطّبقات المتقدّمة في كلّ البلدان الرّأسماليّة مع هذا الوعي الموضوعيّ بصورة واضحة وحاسمة قدر الإمكان”. وفي هذا ردّ على من آمنوا بالمبادرات الفرديّة والعفويّة غير المنظّمة. مع أنّ الفكر الشّيوعيّ لم يتعارض مع إقامة علاقات ثوريّة معارضة للرّأسماليّة والبرجوازيّة مع الأحزاب الدّيمقراطيّة الأخرى في كلّ بلدان العالم. في مقالة “مهمّتنا العاجلة” المنشورة في سنة (1899) حدّد “لينين” المضمون الرّئيسيّ للصّحافة الثّوريّة في وجوب نقل المُثل الاشتراكيّة إلى الحركة العفويّة، وصهر الحركة العفويّة داخل نشاط الحزب الثّوريّ.

وفي آخر “البيان الشيوعيّ” جاء: “وأخيرا يعمل الشّيوعيون في كلّ مكان على إقامة العلاقات وعلى تحقيق التّفاهم بين الأحزاب الدّيمقراطيّة في جميع البلدان. ويأنف الشّيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم ويُنادون علانية بأنّ لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النّظام المجتمعيّ القائم وبالعُنف. “فلترتعد الطّبقات السّائدة خوفًا من ثورة شيوعيّة. فليس للبروليتاريّين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالمًا يكسبونه. أيّها البروليتاريّون في جميع البلدان: اتّحدوا”! وبهذا خُتم “البيان الشّيوعيّ” معلنًا دعم كلّ الحركات الثّوريّة حيث نجد كما سبق في الفصليْن: الأوّل والثّاني دراسة علميّة للتّطوّر التّاريخيّ للمجتمعات وللتّبشير بفجر الأمميّة واضعًا التّدابير الثّوريّة العشر. أمّا الفصلان: الثّالث والرّابع فيركّزان على الخيار الثّوريّ للاشتراكيّة، وتضمّنت كافّة الفصول ردودًا على الإشاعات الّتي أطلقها الأعداء على الشّيوعيين، فكانت بمثابة الرّد الواضح على خرافة التّخويف من “شبح الشّيوعيّة” الّتي خلقتها وأطلقتها القوى الإمبرياليّة والأرستقراطيّة والبرجوازيّة بهدف ترويع الفقراء من الشّعوب والمسحوقين من العمّال والفلّاحين وإبعادهم عن الأحزاب والحركات الشّيوعيّة الثّوريّة وعن طليعة الطّبقة العاملة قائدة الصّراع الطّبقيّ والثّورة الاشتراكيّة نحو انتصارها الحتميّ.
لقد آمن “لينين” بعكس مفكّرين اشتراكيّين آخرين أنّ الطّبقة العاملة وليس الفلّاحين هي الّتي ستقود الكفاح، ولكنّها بحاجة إلى رفد كفاحها بالفلّاحين المسحوقين في الحقول والأرياف، ففي سنة (1917) كتب لينين: “إنّ التّنظيمات الفلّاحيّة القائمة من أسفل دون سيطرة أو وصاية من مسئولي الحكومة أو ملّاك الأرض وتابعيهم، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الثّورة والحرّيّة. إنّ ما يهمّنا هو المبادرة الثّوريّة، ويجب أن يكون القانون نتاجًا لهذه المبادرة، وإذا انتظرنا صدور القانون ولم نقم بالمبادرة الثّوريّة من جانبنا، فلن نحصل على القانون ولا على الأرض. إنّ حزب البروليتاريا يجب أن يحثّ الفلّاحين على إنجاز الإصلاح الزّراعيّ في الحال بأنفسهم ومصادرة أراضي كبار الملّاك فورًا بناء على قرارات مندوبي الفلّاحين”.

وقد أعلن “لينين” ضرورة مصارحة الفلّاحين الفقراء بأنّ الزّراعة القائمة على الملكيّات والحيازات الصّغيرة في ظلّ الرّأسمالية لن تنتج سوى البؤس لهم ولأولادهم، وأنّ هناك ضرورة لتجميع الأرض وتحويل أراضي كبار الملّاك إلى مزارع نموذجيّة تديرها “سوفييتات” العمال الزّراعيّين بالاستعانة بالتّكنولوجيا والخبراء الزّراعيّين. ولكنّ “لينين” كان على دراية تامّة بأنّ ذلك لا يمكن تحقيقه بصورة فوقيّة وأنّه يجب أن يكون باقتناع الفلّاحين أنفسهم بفوائد الإنتاج الكبير في ظلّ الاشتراكيّة.
لقد اعتبر “لينين” هذا البيان “الإنجيل” النّظريّ الموجّه للعمل الكفاحيّ والنّشاط الثوريّ العمّاليّ المسلّح، ضدّ أولئك الأقلّيّة من السكّان في العالم الّتي تملك أكثر ممّا يملكه ثلاثة أرباع من السكّان في العالم وتملك تلك الأقلّيّة الرّأسماليّة السّلطة والثّروات والمقدّرات والاقتصاد والقانون، ومع ذلك تفتقر للعدالة لأنّها تصرّ على تراكم الثّروات الشّخصيّة. ومع ذلك ظلّت هذه الأقلّيّة تعاني من الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للنّظام الرّأسماليّ، ولذلك استغلّت الماركسيّة هذه الأزمات في النّظام الرّأسماليّ وصاغت منظورًا فكريًّا يعدّ أرقى أشكال الفلسفة المادّيّة وفق منهج جدليّ للتّطوّر التّاريخيّ، وقد أدرك “لينين” تلك العلاقة الجدليّة الجليّة بين منظور الماركسيّة وبين الممارسة الفعليّة لنضال الطّبقة العاملة بقيادة طليعتها، الحزب الثّوريّ من أجل تغيير العالم.
لقد كانت الماركسيّة المادّيّة تؤمن بأولويّة المادّة على الوعي بعكس الفكر المثاليّ الّذي يقدّم الوعي على المادّة، ولقد برع “لينين” في تفنيد الأفكار البرجوازيّة الّتي حاولت تصوير الفكر الماركسيّ بأنّه يغلّب الاعتماد على الجماعة ويقضي على حرّيّة الإرادة الفرديّة، بقصد تشويه الفكر الماركسيّ والتّطبيق اللّينينيّ اللذيْن يركّزان على أولويّة النّضال الجماعيّ دون إغفال لدور الفرد في سياق ذلك النّضال الثّوريّ للطّبقة العاملة والفلّاحين المعتمد على أولويّة الجانب الاجتماعيّ والاقتصاديّ، بالاعتماد على المعرفة العلميّة وعلى الحقائق الموضوعيّة وليس على الحدس والإرادة الفرديّة، فقد آمن “لينين” بالعلاقة العضوية الّتي لا تنفصم بين الفكر المادّيّ والمنهج الدّيالكتيكيّ في أسبقيّة المادّة عن الوعي ودحض مقولات المثاليّة عند “هيجل” (1770 – 1831) والمنهج الميتافيزيقيّ عند “فيورباخ” (1804 – 1872) ولقد ظلّ “لينين” حتّى نهاية حياته ومسيرته أمينًا وملتزمًا فكرًا وتطبيقًا، نظريًّا وعمليًّا ومدافعًا بشدّة عن المنهج الفكريّ وعن ميراث “ماركس” وَ “إنجلز” كما انعكسا في “البيان الشّيوعيّ”. وآمن في قدرة الطّبقة العاملة على فهم قوانين التّطوّر التّاريخيّ والاجتماعيّ، ليعينها هذا الفهم على قيادة النّضال الثّوريّ ضدّ الرّأسماليّة وملحقاتها العفنة، ومن هذه النّظريّة وبهذا الاتّجاه الثّوريّ استطاع “لينين” وإلى جانبه “تروتسكي” من قيادة الثّورة الشّيوعيّة سنة (1917) إلى الانتصار. لتنتهي إلى أواخر القرن العشرين روسيا القيصريّة الشّموليّة والرّأسماليّة الاستغلاليّة والبرجوازيّة الرّجعيّة والمتذبذبة.

دور الجريدة في حياة الثّورة:
لقد وضع “لينين” مهمّة تأسيس صحيفة ثوريّة مركزيّة على رأس جدول أعمال الاشتراكيّين الدّيمقراطيّين الرّوس منذ مطلع القرن العشرين. فمع إنشاء الحزب الثّوريّ نمت الحاجة الملحّة لإنشاء جريدة تنطق باسْم الحزب، طليعة الطّبقة العاملة. أمضى “لينين” عشر سنوات من النّضال الّذي لا يعرف الكلل والّذي لم يتوقّف ولو ليوم واحد من أجل إنشاء حزب ثوريّ في روسيا، وقد أتت هذه السّنوات العشر أُكلها، فقد ظهر الحزب الثّوريّ بالفعل، وإذا كانت هيئة تحرير “الآيسكرا” قد استطاعت وضع برنامج حزبيّ ثوريّ، فما ذلك إلّا بفضل قيادة “لينين”. وفي برنامج الحزب أشير بدقّة ووضوح إلى الهدف النّهائيّ لحركة العمّال، بناء المجتمع الجديد الاشتراكيّ، كما أشير فيه إلى الطّرق الّتي توصل إلى الهدف، الثّورة الاشتراكيّة وديكتاتوريّة البروليتاريا، ورسم البرنامج كذلك الأهداف المباشرة لحزب الطّبقة العاملة، إسقاط القيصريّة وإقامة الجمهوريّة الدّيمقراطيّة. هل يمكن تحقيق كلّ ذلك بلا جريدة!
لم تقتصر رؤية “لينين” لجريدة الحزب الثّوريّ في بعدها الإعلاميّ فقط، بل رأى بها الوسيلة الثّوريّة الّتي توصّل الكلمة المحرّضة للجماهير الفقيرة من العمّال والفلّاحين لتوعيتهم على إدراك دورهم الكفاحيّ من أجل انتصار الثّورة الاشتراكيّة، لقد كانت الجريدة بنظره وسيلة ثوريّة نبيلة من أجل غاية ثوريّة نبيلة أيضًا. وبدأ نشاطه التّحريضيّ بِ “الآيسكرا” (الشّرارة بالعربيّة) الّتي أصدرها سنة (1900) من خارج روسيا، فقد صدرت في ألمانيا وكان مقرّها في “ميونيخ” في فترة السّنوات الخمس الّتي قضاها “لينين” في المنفى، ومن ثمّ استطاع “جوزيف ستالين” (1878 – 1953) من الحصول على مطبعة من “جورجيا” وتولّى مع رفيق آخر إصدارها وتوزيعها سرًّا، وقد كانت سلاحًا فكريًّا نشر فيها “لينين” ورفاقه أفكارهم الاشتراكيّة، وكان يتصدّر كلّ عدد من أعدادها مقولة تعبّر عن الانطلاق الثّوريّ منذ شرارته الأولى حتّى انتشار لهيبه الثّوريّ العظيم “ومن الشّرارة يندلع اللّهيب”. وقبل هذه الجريدة ولوعي “لينين” لدور الكلمة في الثّورة كتب منذ أن أصبح ماركسيًّا الكثير من المنشورات السّرّيّة الّتي أدخلها إلى روسيا ووزّعت سرًّا، وكثيرًا ما لاقى عقوبات السّجن والنّفي من جرّاء تلك النّشاطات، وكتب مئات المقالات للتّعبئة النّضاليّة وعشرات الكتب الّتي تحلّل بشكل علميّ الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتشرح وتبسّط النّظريّة الماركسيّة لتوعية العمّال من أجل القيام بالثّورة الاشتراكيّة الّتي ستصنع غدهم وغد أبنائهم السّعيد تحت الظّلّ الوارف للحرّيّة والعدالة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة.
أمّا صحيفة “البرافدا” (الحقيقة بالعربيّة) فقد تأسّست سنة (1911) وكانت الصّحيفة الرّسميّة للحزب الشيوعيّ في الاتّحاد السّوفييتيّ، وكانت الصّحيفة الأوسع توزيعًا وانتشارًا في العالم، وظلّت كذلك حتّى الانقلاب وبداية الانهيار الّذي بدأه “ميخائيل غورباتشوف” بِ “البيريسترويكا” (إعادة البناء بالعربيّة) وَ “الغلاسنوست” (العلنيّة والانفتاح بالعربيّة) هذا الزّعيم السّوفييتيّ الّذي وعدنا بإعادة البناء كان هو هو قمّة هاوية انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، واستطاع الرّئيس السّكّير “بوريس يلتسين” عدوّ الشّيوعيّة أن يصبح رئيسًا لفترة وجيزة وأصدر مرسومًا يقضي بإغلاق صحيفة “البرافدا” سنة (1991) وقامت على أنقاض ذلك الانهيار دولة “الاتّحاد الرّوسيّ” المهشّمة والضّعيفة بقيادة “فلاديمير بوتين” وأزيلت من المدن الكبرى كلّ المعالم الشّيوعيّة العظيمة كتمثال “لينين”، حتّى المدينة الّتي سمّيت باسْمه بعد انتصار الثّورة “لينينغراد” أعادوها إلى اسْمها في الفترة القيصريّة “سان بطرسبورغ”، إنّ إنزال تماثيل “لينين” وإزالة معالم تخليده الأخرى من ميادين المدن السّوفييتيّة الكبرى أو إزالة المعالم المختلفة الّتي تعكس عظمة الإنجازات الاشتراكيّة لهي الدّليل السّاطع للغرق في بحر من الظّلام والرّأسماليّة العفنة والسّوق الحرّ والدّيمقراطيّة البرجوازيّة الزّائفة. ومع ذلك ظلّ بعض عاملي “البرافدا” المخلصين لها ولدورها ولحزبها يصدرونها تحت نفس العنوان حتّى أيّامنا كجريدة شعبيّة. هذه الجريدة الّتي أدّت الدّور التّحريضيّ العظيم على الثّورة، اضطرّ “لينين” لتغيير اسمها عدّة مرّات كي تتهرّب من ملاحقة السّلطة، وقد اعتقل محرّروها وكثيرًا ما دفعوا الغرامات الماليّة جرّاء إصرارهم على صدورها لأهمّيّة دورها التّثقيفيّ والثّوريّ والّتي مهّدت لبدايات الثّورة ومسيرتها الكفاحيّة وشهدت انتصارها التّاريخيّ بقيادة القائد الماركسيّ الفذّ “لينين”.

علاقة لينين بالأدباء بعد الثّورة:
كان لينين على علاقة جيّدة مع الشّعراء والأدباء، وأهمّ هذه العلاقات وأبرزها كانت مع صديقه الحميم “مكسيم غوركي” (1868 – 1936) صاحب رواية “الأمّ”، يصف “غوركي” صديقه قائلًا: “إنّ دهشتي كبيرة.. كيف إنّ هذا الرّجل الّذي شاهد وعاش الكثير من المصائب والمآسي كان يستطيع أن يضحك بقدر كبير من السّذاجة والطّيبة” وقد نعته بالزّعيم الضّاحك. ثمّ يضيف: “كيف إنّه بعد أن يستغرق بالضّحك يمسح عينيه من الدّموع ويقول: “إنّ الإنسان الشّريف ذا القلب النقيّ والطّاهر وحده يستطيع أن يضحك بهذه الصورة”. وكان يردّ “لينين” على تعليقات صديقه: “إنّه لشيء حسن أن يرى المرء الجانب المسلّي من إخفاقاته.. إنّ خفّة الرّوح هي صفة صحّيّة رائعة، وأنا حسّاس لهذه الصّفة رغم أنّي غير موهوب بها ولا ريب إنّ في الحياة منها بقدر ما في هذه الحياة من أحزان ومآسٍ” وقال “غوركي”: “إنّ مزاج المرء هو شيء هامّ كما كان “لينين” بارعًا في الإصغاء والتّعليق بالنّكتة المرحة”. وكانت أكبر هوايات “لينين” زيارة المكتبات والمطالعة والكتابة. وقد كانت له علاقة جيّدة مع الأديب البريطانيّ “ه. ج. ويلز” (1866 – 1946) فقد زار “ويلز” سنة (1914) روسيا ورأى بنظرته الفاحصة أنّ النّظام القيصريّ فيها قمعيّ وفاسد. وقد تفهّم أهداف ثورة أكتوبر. وفي عام 1920 زار “ويلز” الاتّحاد السّوفييتيّ والتقى “لينين”.

رغم أنّ علاقة “لينين” بالكاتب الكبير “مكسيم غوركي” كانت صورة تعكس بصدق علاقته بسائر الأدباء الرّوس، إلّا أنّ هذه العلاقة لم تكن في أحسن أحوالها دائمًا، بل اعتورتها الخلافات العاديّة الّتي تقع بين الأديب والسياسيّ، في ظروف عصيبة وحول أفكار مختلفة اختلف فيها الرّجلان. فقد كان “غوركي” أديبًا معارضًا للنّظام القيصريّ وكان “لينين” قائد حزب سياسيّ مقاوم، يسعى لإسقاط القيصريّة، من هذه المثابة توطّدت العلاقة بينهما حتّى انتصار الثّورة وبعدها، وعندما مات “لينين” وضع “غوركي” على ضريحه إكليلًا كتب عليه “وداعًا يا صديقي”. برز أوّل خلاف بعد أن أصدر “غوركي” روايته “الاعتراف” الّتي عبّر من خلال أحداثها عن أنّ القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة أهمّ من القيم السياسيّة والاقتصاديّة لنجاح الثّورة، لكنّ “لينين” عارض ذلك بشدّة وعلانية. هذا قبل الثّورة، أمّا بعد انتصارها فقد انتقد “غوركي” بعض الخروقات مع البدايات الأولى للثّورة، في جريدته “الحياة الجديدة” ونعت “لينين” بالقيصر الّذي يقف ضدّ حرّيّة الفكر والتّعبير. ولكنّ “غوركي” أدرك فيما بعد بفترة وجيزة أنّ بالغ في ذلك التّشبيه والوصف، فاعتذر له بعد محاولة اغتياله، وعندما سافر “غوركي” للعلاج في أوروبا قال له “لينين” مازحًا “سنرحّلك”!
كان حبّ “لينين” للآداب والفنون جزءًا عضويًّا من تشكيل شخصيّته، ولقد آمن بدور الفنّ والادب وبخاصّة المسرح في تثقيف العمّال والفلّاحين وسائر البسطاء وتوعيتهم وتحريضهم ضدّ الظّلم الطّبقيّ والتّفاوت الاجتماعيّ، ومن أجل الكفاح والثّورة لتحقيق آمالهم بالحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، ومن هذا المنطلق احترم الأدباء والفنّانين الّذين يقومون في هذا التّثقيف والتّوعية في أعمالهم، ولكن ليس إلى حدّ قمع حرّيّة الأديب والفنّان وجعله بوقًا للحزب والدّولة الاشتراكيّة، وهو ما حدث عندما تسلّم الحكم “ستالين”، تحت شعار “الثّقافة البروليتاريّة”، الّتي من جرّائها منعت الكثير من الأعمال وصودرت ولم يسمح بنشرها، لأنّ الأدباء كانوا مطالبين بالكتابة وفقًا لرؤية الكلّ/ الحزب وبدون اكتراث لتجاربه الشّخصيّة وأفكاره وعواطفه، لأنّه جنديّ عند الحزب والدّولة وعليه أن يكتب أدبًا جماعيًّا مجنّدًا لأهدافهما. وللزّعيم الاشتراكيّ ومطوّر الماركسيّة تنسب المقولة العظيمة “أعطني مسرحًا أعطِك ثورة” ولعلّ ما يدلّل على عظمة هذه المقولة وأثرها أنّها تنسب أيضًا وبصياغات شبيهة إلى “أفلاطون” الفيلسوف اليونانيّ القديم (497 ق.م – 347 ق.م) وإلى “وليم شكسبير” أشهر مسرحيّي العالم (1564 – 1616) وإلى المفكّر الفرنسيّ “فولتير” (1694 – 1778) وإلى الكاتب المسرحيّ الألمانيّ الشّيوعيّ “برتولد بريخت” (1898 – 1956).
كما كان “لينين” يدعو إلى الاهتمام والاقتباس من كلّ ما هو مفيد من أساليب الثّقافة الأوروبيّة، وقد حثّ وزير الثّقافة في حكومته على الاهتمام بمكتبات المطالعة، وكان يعتبر الكُتّاب قوّة جبّارة، وكان شديد الإعجاب بالأدباء والفنّانين الكلاسيكيّين وبكلّ عمل فنّيّ رائع، وكان يجتمع إليهم ويقرأ قصصهم وأشعارهم ومقالاتهم، وقد أقام علاقة صداقة حميمة معهم، وكان كذلك شديد الاهتمام بالعلم والعلماء واختراعاتهم والحرص على رعايتهم ومساعدتهم.

هل الدّين أفيون الشّعوب:
هذه المقولة الشّهيرة الّتي نسبت للفيلسوف الألمانيّ “كارل ماركس” بقصد التّشويه المبرمج للنّظريّة الماركسيّة الثّوريّة العلميّة الّتي تنصف الطّبقات المستغَلّة من الفقراء والبسطاء وتشكّل سلاحًا بأيديهم ضدّ الطّبقات الظّالمة من المستغِلّين، نسبت لغيره أيضًا من الفلاسفة المادّيّين الّذين سبقوه، ولكنّ لصقها وإشهارها بكونها لِ “ماركس” بالذّات كان له مقاصد غير شريفة ومخطّطة كي يفهمها العامّة من الشّعوب المقهورة بغير السّياق الّذي قيلت فيه وبقصد التّفسير الخاطئ لإثارة النّزعات الرّوحيّة المشروعة في وجدان النّاس بهدف إبعادهم عن الفكر الشّيوعيّ، وقد يكون هذا السّياق المختلف وهذا التّفسير السّلبيّ متساوقًا مع فكرة تخويف الأكثريّة من فقراء الشّعوب من “شبح الشيوعيّة” الّذي بثّته أوساط الأقلّيّة الأرستقراطيّة والبرجوازيّة الحاكمة والظّالمة خوفًا على مصالحها من الفكر المادّيّ والعلميّ وطليعة الطّبقة العاملة والأحزاب الثّوريّة الّتي تحمله وتؤمن به من أجل انتصار الثّورة الاشتراكيّة بمبادئها العادلة. وقد قال “ماركس” مقولة أخرى: “نقد الدّين مقدّمة لكلّ نقد”، بقصد الدّخول إلى تفسير علميّ تاريخيّ ومادّيّ لكلّ ما تستند عليه الطّبقة الأرستقراطيّة من مقولات تعتمدها لتكريس الظّلم الاجتماعيّ والاستغلال واستعباد البشر. وقال أيضًا: “إنّ الدّين هو الزّفرة الّتي يصعدها المخلوق الّذي هدّه الشّقاء، هو الرّوح في عالم بلا روح، هو الفكر في عصر لا فكر له، إنّه أفيون الشّعب”. “الدّين أفيون الشّعوب” هي العبارة الّتي تمّ تشويهها من جانب خصوم الماركسيّة من المتديّنين وغير المتديّنين معًا. والنّتيجة تكون عادة تبسيط واختزال ذلك النّقد العميق للدّين الّذي طرحه “ماركس” وَ “إنجلز”. ولعلّ المدخل المناسب لتجنّب هذا التبسيط هو أن نتذكّر أنّ سهام النّقد الماركسيّ للدّين كانت في الواقع موجّهة لا للدّين ذاته فحسب، وإنّما أيضًا لموقف فلاسفة التّنوير البرجوازيّين. إنّ قراءة متأنّية لفقرة “ماركس” الّتي يظهر فيها تعبير “الدّين أفيون الشّعب” تبيّن بالتّأكيد أنّ كاتبها أكثر إدراكًا ممّا هو شائع عنه. فهو يأخذ في اعتباره الطّابع المزدوج للدّين إذ يقول: “إنّ الهمّ الدّينيّ هو في الوقت نفسه تعبير عن همّ واقعيّ واحتجاج على همّ واقعيّ. إنّ الدّين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب في عالم لا قلب له، مثلما هو روح في عالم بلا روح”.

لقد آمن “لينين” بتلك المقولات الماركسيّة حو ل الدّين كوسيلة للظّلم وأداة لاستغلال الفقراء والبسطاء والسّيطرة على ثروات بلادهم وبلاد شعوب أخرى بالحرب وقوّة السّلاح. وقد عبّر عن ذلك بقوله: “أولئك الّذين يكدّون ويعيشون معوزين كلّ حياتهم، يعلّمهم الدّين الخضوع والصّبر أثناء وجودهم هنا على الأرض، ويعزّيهم بالأمل بمكافأة سماويّة. بينما الّذين يعيشون من عمل الآخرين يعلّمهم الدّين ممارسة الصّدقة أثناء وجودهم على الأرض، وبالتّالي يقدّم لهم وسيلة رخيصة جدًّا لتبرير كامل وجودهم كمستغِلّين ويبيعونهم بأسعار معتدلة التّذاكر للرّفاهية في السّماء. ولذلك يغدو الدّين أفيونًا يخدّر الشّعوب كأيّ مشروب روحيّ. ولكن من النّاحية العمليّة ولحساسيّة إيمان النّاس بالدّين، ومنذ سنة (1905) أكّد “لينين”: “أنّه لا ينبغي للدّولة أن تتدخّل في الدّين، ويجب ألّا تكون الجمعيّات الدّينيّة مرتبطة بسلطة الدّولة. يجب أن يكون لكلّ فرد مطلق الحرّيّة في اعتناق أيّ دين يشاء أو إنكار جميع الأديان، أي أن يكون ملحدًا على غرار عامّة الاشتراكيّين”. وبعد انتصار الثّورة الاشتراكيّة، أكّد “لينين” أنّ على الدّولة أن تتيح حرّيّة دينيّة مطلقة (وكان هذا بالفعل هو موقف الدّولة العمّاليّة في السّنوات القليلة التي تلت انتصار ثورة أكتوبر) فقد رأى أنّ حزب البروليتاريا يطالب بأن تعلن الدّولة أنّ الدّين مسألة شخصيّة، لكنّه لا يعتبر للحظة أن مسألة النّضال ضدّ الخرافات الدّينية مسألة شخصيّة.
والحقيقة أنّ “لينين” لم يكن يهتمّ كثيرًا بالشّؤون الدّينيّة ونادرًا ما كان يتحدّث عن الأديان، لكنّه أعطى حرّيّة العبادة للمتديّنين، وقد تبيّن ذلك في نصّ رسالة وجّهها إلى المسلمين في 24 نوفمبر سنة (1917) جاء فيها: “يا أيّها المسلمون في روسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز … يا أيّها الّذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطّغاة بمعتقداتهم وعاداتهم، إنّ معتقداتكم وعاداتكم ومؤسّساتكم القوميّة والثّقافيّة أصبحت اليوم حرّة مقدّسة، نظّموا حياتكم القوميّة بكامل الحرّيّة وبدون قيد فهي حقّ لكم. وأعلموا أنّ الثّورة العظيمة وسوفييتات النّواب والعمّال والجنود والفلّاحين تحمي حقوقكم وحقوق جميع شعوب روسيا. وقد تمّ وضع برنامج ضخم لما يمكن أن يطلق عليه اليوم “التّمييز المضـــاد”، سُمي بِ “الكورنيزاتسيا”، أي إحلال السّكان المحليّين محلّ المستوطنين الرّوس. وقد بدأ بطرد المستعمرين الرّوس والقوزاق والمتحدّثين باسمهم من الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّوسيّة في تلك المناطق. وتوقّفت اللّغة الرّوسيّة عن الهيمنة، وعادت اللّغات المحلّيّة إلى المدارس وإلى الحكومة وإلى المطبوعات. وقد تمّت ترقية السّكان المحليّين ليشغلوا مناصب في الدّولة وفي الأحزاب الشّيوعية المحلّيّة وأعطوا أولويّة حتّى عن الرّوس في التّعيينات. وقد أُنشئت جامعات لتدريب جيل جديد من القادة غير الرّوس. أيضًا أُعيدت الآثار والكتب الإسلاميّة المقدّسة الّتي نهبتها القيصريّة إلى المساجد. وقد تمّ تسليم “القرآن الكريم” المعروف بِ “مصحف عثمان” في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلاميّ في “بتروجراد” في 25 ديسمبر سنة (1917) وقد أُعلن يوم الجمعة، يوم الاحتفال الدّينيّ بالنّسبة للمسلمين، ويوم الإجازة الرّسميّة في كلّ آسيا الوسطى”.
فالماركسيّة واللّينينيّة تريان بالدّين مرحلة من مراحل تطوّر الفكر الإنسانيّ المنشغل بموجودات الطّبيعة، فليس ثمّة قوّة من خارجها تسيطر عليها، وهو شكل من أشكال التّفاعل الاجتماعيّ البرجوازيّ يُستخدم لحماية استغلال الفقراء واضطهاد الطّبقة العاملة من العمّال والفلّاحين. من كلّ ذلك نستنتج أنّ الدّين عند “لينين” وعند من سبقوه “ماركس” وَ “إنجلز” هو “أفيون الشّعوب” عندما يتحوّل إلى أداة قمع وسلطة استغلال وآمال كاذبة يُخدّر به الفقراء لصرف أنظارهم عن الهموم والآلام الاجتماعيّة والظّروف الاجتماعيّة الّتي يضطربون فيها ولصرفهم عن القضيّة المركزيّة، وهي الكفاح والثّورة لبناء الاشتراكيّة.

مؤلّفاته:
لا النّشاط النّظريّ والفكريّ ولا الفعل الميدانيّ السّياسيّ تنظيمًا وتثقيفًا وكفاحًا استطاعت صرف “لينين” عن الكتابة الّتي مارسها طيلة حياته منذ أن بدأ يستشعر الظّلم الاجتماعيّ وحياة البؤس الّتي تحياها الجماهير العريضة نتيجة للحروب والاضطهاد والاستغلال، ومنذ أن آمن بضرورة عدم دوام هذا الواقع المرير وضرورة تغييره إلى واقع أنبل وأسعد للفقراء بواسطة الثّورة. كان “لينين” فيلسوفًا ومؤلّفًا سياسيًّا غزير الإنتاج، فقد ألّف العديد من الكتب عن الثّورة البروليتاريّة، وكتب العديد من النّشرات والمقالات في الجرائد والصّحف. وعندما عانى من المرض لم يمنعه ذلك أيضًا عن التّأليف إلّا بعد اشتداد سوء حالته الصّحّيّة. وقد بلغ مجموع ما ألّفه خمسة وأربعين مؤلّفًا، تُرجمت إلى العديد من اللّغات، ومنها لغتنا العربيّة الجميلة. ومن مؤلّفاته:
“ما العمل” عنوانه بالكامل “ما العمل؟ المسائل الملحّة لحركتنا” صدر سنة (1902) تحدّث فيه عن الثّورة ومدى احتياجها إلى حزب قويّ تتولّى طليعته قيادة الثّورة الاشتراكيّة
“الإمبرياليّة أعلى مراحل الرّأسماليّة” صدر سنة (1916) تحدّث فيه عن كيفيّة استمرار الرّأسماليّة وعن الحرب العالميّة الأولى بكونها مجرّد حرب رأسماليّة للسّيطرة على البلاد والثّروات والأيدي العاملة.
“الدّولة والثّورة” صدر سنة (1917) تناول فيه أفكار” كارل ماركس” وَ “إنجلز” عن الثّورة والحزب الشّيوعيّ الدّيمقراطيّ غير القادر على اتّخاذ موقف فعّال في الثّورة.
“أطروحات أبريل” صدر سنة (1917) أوضح فيه الضّرورة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى الثّورة الشّيوعيّة. “أمراض الطّفولة لدى اليسار المتشدّد” صدر سنة (1920) وفيه ينتقد اليسار المتشدّد.
“المادّيّة والمذهب النّقديّ التّجريبيّ” كتب لينين هذا الكتاب في مرحلة من تاريخ روسيا كانت فيها الأوتوقراطيّة القيصريّة قد فرضت على البلاد الإرهاب البوليسيّ القاسي بعد أن قُمعت الثّورة الرّوسيّة الأولى، سنة (1905)
لم يتوقّف “لينين” عن الكتابة رغم أمراضه وآلامه، فقد تعافى قليلًا سنة (1922) وكتب سلسلة من المقالات تنطوي على تنبّؤات عن فساد السّلطة في الحزب الشّيوعيّ، وقد اقترح للخلاص من ذلك الفساد إجراء عدّة تغييرات على النّظام السّياسيّ، وكانت بعنوان “شهادة لينين” سنعود على ذكرها لاحقًا.

لقد ترجمت أعمال “لينين” ومؤلّفاته السّياسيّة والنّظريّة إلى اللّغة العربيّة وجمعت في كتاب واحد بعنوان “المختارات”، من عشرة مجلّدات ضخمة وحوالي 5000 صفحة، طبعت في الاتّحاد السّوفييتيّ عن دار “التّقدّم” سنة (1978) وقد جاء في مقدّمة المجلّد الأوّل: “تبدأ دار التّقدّم بإصدار مؤلّفات “لينين” باللّغة العربيّة في 10 مجلّدات، وبمثل هذا الحجم تنشر مؤلّفات “لينين” باللّغة العربيّة للمرّة الأولى، وهي تضمّ مجموعة مؤلّفاته الأساسيّة الّتي تعطي القارئ فكرة كاملة عن جميع جوانب النّظريّة الماركسيّة اللّينينيّة وأقسامها المكوِّنة: الفلسفة، الاقتصاد السّياسيّ والاشتراكيّة العلميّة”.
هل اغتيل لينين:
في 30 آب سنة (1918) كانت الذّريعة سؤالًا عن كيفيّة إدارة البلاد، نادته باسْمه الاشتراكيّة المتزمّتة “فانيا كابلان” (1890 – 1918) وهو يركب سيّارته بعد زيارة للعمّال وخطاب أمامهم في مصنع “المطرقة والمنجل”، وعندما التفت إليها بقصد إجابتها أطلقت عليه ثلاث رصاصات، أصابته في رئتيْه وكتفه وعنقه، لم يمت ولكنّ أثر تلك الرّصاصات اللّئيمة رافقه حتّى الموت كما يبدو، فقد استطاع الأطبّاء أن يخرجوا تلك الرّصاصات سنة (1922) ولكنّهم لم يستطيعوا إزالة أثرها القاتل. قالت وهي يهوديّة روسيّة: “اليوم أطلقت النّار على “لينين” لأنّه خان الثّورة” لقد أعدمت بعد ثلاثة أيّام على جريمتها النّكراء. ولا أعتقد بأنّ ادّعاءها كان صحيحًا وهو المحرّك لقتله، ورغم أنّها أنكرت أمام المحكمة أن لا جهة تقف وراء هذه الجريمة، بل فعلت ذلك من منطلق فرديّ، إلّا أنّني أشكّ بصدق كلامها، بل كان هناك من يقف وراء ذلك من أعداء داخليّين وهم كثر وأعداء خارجيّين وهم أكثر.

كان “لينين” يعاني من السّكتة الدّماغيّة، كانت تفقده القدرة على الكلام والحركة والكتابة، ولكنّه تعافى منها مرّتيْن، وعاد ليزاول نشاطه بشكل جزئيّ، ففي سنة (1922) عاد للكتابة كما ذكرنا سابقًا، ولكن في النّوبة الثّالثة أصابته سنة (1923) فقد قدراته جميعًا، وجاءت السّكتة الدّماغيّة الرّابعة فكانت القاضية، وزيادة على معاناة من المرض غير القابل للشّفاء في الأوعية الدّمويّة، وتوفّي في 21 كانون الثّاني سنة (1924) وأعلنت الحكومة السّوفييتيّة وفاته في اليوم التّالي، وحنّط جسده في السّاحة الحمراء في قلب العاصمة “موسكو”.
في كتابه “مذكّرات ثوريّ” عن حياة “لينين” ومسيرته الكفاحيّة حتّى لحظة اغتياله يذكر الكاتب الّشهير “فيكتور سيرج” (1880 – 1947) والقريب من “لينين” أنّ الزّعيم كان يسافر بلا مرافقين، وفي اللّقاءات لم يكن يريد استقبالًا رسميًّا، يصف “سيرج” لحظات الاغتيال ومحاكمة المجرمة “فانيا كابلان” بلهجة يشكّك فيها بصدق مقولتها بأنّ عملها كان فرديًّا، ولا جهة وراءه، ممّا يعزّز المقولة أنّ هناك أياديَ خفيّة صهيونيّة إمبرياليّة تقف وراء اغتيال الزّعيم السّوفييتيّ وموته متأثّرًا من تلك الرّصاصات الّتي اخترقت جسده سنة (1918) ولذلك أستطيع أن أجزم بدرجة عالية أنّ “لينين” اغتيل ومات بيد أعداء الثّورة الّتي قادها وانتصرت وغيّرت مسار التّاريخ الحديث. بدليل أنّ الثّورة انتصرت في أكتوبر سنة (1917) والاغتيال تمّ في أغسطس سنة (1918) فهل في مدّة حكم لزعيم ثوريّ لم تزد عن عشرة أشهر بعد مسيرة كفاحيّة ضدّ القيصريّة بكافّة موبقاتها وبكلّ ما فيها من تنظيم وتوعية وبناء حزب وطبقة عاملة مكافحة، مسيرة ثوريّة امتدّت لأكثر من أربعة عقود حتّى انتصرت، أهكذا بعد عشرة أشهر فقط من بداية حكم الدّولة الاشتراكيّة وبنائها نكتشف أنّ زعيمها وقائدها العظيم “لينين” قد خانها بهذه السّرعة ووجب اغتياله! شكّي يطول من أوائل القسم الآسيويّ للاتّحاد السّوفييتيّ حتّى أواخر القسم الأوروبيّ منه.

لينين الإنسان:
يصعب في أحايين كثيرة فصل بُعد ما لشخصيّة عن أبعادها الأخرى، خاصّة إذا كانت هذه الشّخصيّة بحجم شخصيّة “لينين” وامتداداتها وعظمتها، فالإنسان ابنًا وأخًا وزوجًا وصديقًا فيه لا ينفصل عن السّياسيّ الفذّ ذي الرؤى النّافذة أو المفكّر المطوّر لأفكار الماركسيّة ومقولاتها أو الثّوريّ المقاوم في ميادين الكفاح المسلّح والمعرفة الثّقافيّة، لأنّ كلّ ذلك يستقى من ينبوع أخلاق واحد. الشّخصيّة واحدة والأبعاد كثيرة والجوانب تراكميّة وشخصيّة “لينين” بهذه الأبعاد والتّراكم جبل شاهق أشمّ وهرم سامق عظيم في دنيا الثّورة والكفاح.
“لينين” هذا العملاق الشّامخ هو الّذي كان يتنازل عن حرسه الشّخصيّ ويذهب للاجتماعات واللّقاءات الرّسميّة والحزبيّة وحده، لقد سرق اللّصوص سيّارته مرّة ولم يُعرف عن أمره إلّا بعد ساعات، لأنّه لم يكن يهتمّ بأموره الشّخصيّة، ولم يكن يسعى لاكتساب امتيازات بالرّغم من مكانته السياسيّة العليا، فهو الرّئيس الأوّل للاتّحاد السّوفييتيّ، وقد أصدر توبيخًا سنة (1918) لمجلس مفوّضي الشّعب لأنّهم قرّروا زيادة راتبه، وقد طلب امتيازًا واحدًا من أمين المكتبة أن يسمح له باستعارة الكتب في ساعات اللّيل ليتمكّن من القراءة، ولم يوافق الأمين على خرق القانون فاحترم “لينين” ذلك. أيّ زعيم عربيّ يفعل ذلك في هذه الفترة الكالحة، أيّ قوانين لا يستطيع دوسها الزّعيم العربيّ وأيّ دساتير لا يستطيع تمزيقها وإلغاءها وتغييرها لمصلحة كرسيّه ونظامه القمعيّ، أيّ زعيم عربيّ في هذا الزّمان الثّقافيّ البائس يقرأ ليلًا أو نهارًا أو يقرأ أصلًا! فهم أمّيّون لم يقرأوا الماضي ولا يقرأون الحاضر ولن يقرأوا في المستقبل! ولكنّ الشّعوب العربيّة ستقرأ عمّا قريب الفاتحة على قبورهم ولكن ليس للتّرحّم عليهم، بل سيفعلون أشياء أخرى فوق ذلك النّتن الّذي في القبور، ذكره مرّة في أحدى قصائده الشّاعر العراقيّ “مظفّر النّوّاب” (1934).

وكان “لينين” شجاعًا صلب الإرادة قويّ العزيمة شديد الصّبر وعظيم التّفاؤل وكان رفاقه يصفونه بأنّه “نسر من نسور الجبال”، لقد تعرّف “لينين” على الأحزان منذ طفولته يوم مات أبوه ويوم أعدمت السّلطات القيصريّة أخاه الأكبر “ألكسندر” لاشتراكه في محاولة اغتيال القيصر، وعانى كثيرًا من صروف الدّهر سجنًا وتشرّدًا ونفيًا وحرمانًا، وهذا ما عمّق إنسانيّته وأثراها بعاطفة رحيمة وإنسانيّة وإرادة صلبة ثوريّة بدون خوف أو تردّد، وكان “لينين” رفيقًا وحنينًا بأمّه الّتي تحمّلت النّكبات والمآسي وورث عنها كما تقول زوجته الفاضلة ورفيقة دربه “ناديجدا كروبسكايا” (1869 – 1939) الصّلابة والإرادة والعطف والرّعاية بالنّاس الفقراء والضّعفاء، وعندما كان يتعرّض إلى الاعتقال يرجو معارفه وأصدقاءه بعدم إخبار أمّه لأنّ ذلك سيذكّرها بفلذة كبدها ابنها الأكبر. وعندما بلغ “لينين” نبأ وفاتها امتقع وجهه حتّى أصبح مثل صفحة من الورق، وكما يقول صديقه الحميم الأديب “مكسيم غوركي”: “كان “لينين” يكتم مشاعره ولم يكن له مثيل في كبت عواطفه القلبيّة ويروي سائقه الّذي حمله بسيّارته إلى المستشفى بعد إطلاق الرّصاص عليه وأصيب بطلقتين في رقبته وذراعه يقول: “لم يتفوّه بأيّ صوت وكان وجهه يزداد امتقاعًا وكان يتعذّب من شدّة الألم، وقد أغمض عينيْه ثمّ بدا منه أنين مكبوت جدًّا حتّى لا يثير الخوف والرّعب والقلق لدى الآخرين”. كان “لينين” في الوقت الّذي ينصرف عن همومه ونفسه كان يواسي المحرومين والمظلومين من النّاس والشّعوب. كان يعيش في منفاه مع زوجته المخلصة “كروبسكايا” في مدينة “زيورخ” في ألمانيا في غرفة خربة في الأحياء الفقيرة، حيث كان يسكنها أناس من الطّبقات الفقيرة جدًّا وكان يتحدّث معهم ويرتاح إليهم وكان دائمًا يردّد ويقول: “على المرء أن لا يهتمّ بمأواه ومسكنه وشؤونه الخاصّة ويهمل الآخرين وعليه أن يشاطر النّاس أفراحهم وأحزانهم وهمومهم وعذاباتهم ويبدي لهم الرّعاية والاحترام، وكان يتمثّل بمقولة ماركس: “إنّ أتعس مصير لأمّة من الأمم هو أن تكون ظالمة لأمّة أخرى”، وكان يبدي الحنق الشّديد على الاستغلال والظّلم وعلى ما يشاهده من تفاوت طبقيّ بين المحرومين والمرفّهين.، وكأني به يطبّق مقولة “ماركس” الأخرى: “لست ثورًا لأدير ظهري لهموم البشر”.

كان “لينين” يتحلّى بطباع إنسانيّة رفيعة وسجايا حميدة محبّبة وكان ودودًا وأليفًا ومثيرًا للتّفاؤل، وقد شبّهت إحدى رفيقاته القدامى وجوده بينهم: “بزخّة من المطر المانح للحياة” وكان مرحًا، خفيف الحركة، بشوشًا، حلو المعشر وغير متصنّع. وقد وصفته أيضًا إحدى رفيقاته القدامى: “لم ألتقِ قط بإنسان قادر على أن يضحك بشكل مغرٍ بالضّحك كما كان يضحك “لينين” من أعماق قلبه، وكان غريبًا أن يستطيع مثل هذا الإنسان الواقعيّ والحازم والصّارم، رجل مهمّات وأعمال ومسؤوليّات تاريخيّة عظيمة أن يضحك كما يضحك الأطفال حتّى تدمع عيناه من الضّحك”. وتقول زوجته “كروبسكايا”: “كان يضحك ذلك الضّحك المغري ويمزح ذلك المزاح المرح ويحبّ سدرة الحياة الخضراء بقدر ما أعطته الحياة الفرصة”. كما كان “لينين” بارعًا في الإصغاء والتّعليق والنّكتة المرحة. ويذكر المقربون منه وفي الحديث المباشر “من القلب إلى القلب”، وقد اعتاد حتّى وهو على رأس الدّولة أن ينتقل من مكانه والجلوس إلى جانب زائريه والتّحدّث معهم باهتمام وودّ. لم يكن يدخّن أو يشرب الخمر، وكان عصاميًّا كما كانت أكبر هواياته زيارة المكتبات والمطالعة والعمل. كان مثابرًا في عمله ومنظّمًا دؤوبًا، شديد التّركيز، دقيقًا، لا يعتمد على ذاكرته بالرّغم من أنّها حيّة ومتوقّدة، وكان لا يكلّ ولا يعجز من متابعة أكداس من الإحصائيّات والكتب والمراجع، كما اعتاد أن يكتب ملاحظاته على هوامش الكتب أو على أوراق منفصلة، وكان يراجع مقالاته مرّات عديدة، وكان “لينين” يمثّل الجهد الخارق للإنسان وقدراته مما أدّى إلى إرهاق صحّته، لقد احترق مبكرًا كما تقول زوجته “كروبسكايا”: “وكيف لا يحترق وقد كان فكره يعمل طول الوقت عملًا مجهدًا”. تلك هي صفات “لينين” العظيم، القدوة الفريدة لكلّ القادة الثّوريّين. ذلك هو “لينين” النّموذج الرّائع للإنسان الذي أحبّته الملايين من البشر، وسيظلّ هكذا إلى الأبد لأنّه كان قبل كلّ شيء إنسانًا عبقريًّا.

ماذا بقي من لينين:
بقيت أقواله الّتي تعكس أصالة قناعاته الحياتيّة وعلاقاته الاجتماعيّة ورسوخ مبادئه الأخلاقيّة والكفاحيّة الثّوريّة وعظمة ثقافته ومعارفه الواسعة. وبقي تاريخ مسيرته النّضاليّة منارة للعبيد الّذين لا يزيّنون عبوديّتهم ولمن يرفض الظّلم والاستعباد والاضطهاد ويسعى بروح وثّابة وإيمان راسخ بالمبادئ الثّوريّة يريد التّحرّر والعدالة والحياة الكريمة بعرق جبين وشموخ رأس وقوّة سلاح حقيقيّ عمليّ ومجازيّ نظريّ. بقي بعد “لينين” شخصيّات قياديّة لامعة وكبيرة، ثوريّة وسياسيّة وفلسفيّة وأدبيّة تأثّرت به: “جوزيف ستالين” وَ “مكسيم غوركي” وَ “تشي جيفارا” (1927 – 1967) وَ “أنطونيو غرامشي” (1891 – 1937) وَ “ليون تروتسكي” وغيرهم في أصقاع الأرض وبين كافّة الشّعوب. تأمّل هذه الأقوال الّتي لم يصنها الخلف لضمان استمرار مسيرة السّلف القائد والصّالح العظيم “لينين” وميراثه الثّوريّ والفكريّ وأدبيّاته ومؤلّفاته النّظريّة العريقة:
– الثّورة تعني تحطيم أصنام الجهل بداخلنا عوضًا عن إسقاط تماثيل شاهدة على تاريخنا.
– المثقّفون هم أقدر النّاس على الخيانة لأنّهم أقدر النّاس على تبريرها.
– من خان رفيقه فقد خان القضيّة.
– الثّائر المزيّف هو الّذي يهتمّ في شأن ظالمه حتّى يزول ظلمه ثمّ لا يفكّر فيمن يخلفه ولا يراقبه فيقع في الظّلم ثانية وهكذا يستمرّ الظّلم في العالم.
– في السّياسة لا يوجد فرق بين خيانة بسبب الغباء أو خيانة بشكل متعمّد ومحسوب.
– الثّائرون هم أقدر النّاس على معرفة الظّلم.
– صوت رجل بمفرده لا يبلغ مسامع الشّعب كلّه بل يضيع ويختنق في أقبية البوليس.
– الثّقة جيّدة، لكنّ المراقبة أحسن.

ولكن ماذا بقي وراءه:

حين نستعرض بعض صفات “لينين” وسجايا هذه الشّخصيّة الفذّة الّتي ذابت وانتهت نتيجة الإرهاق والمعاناة والّتعب والكفاح والقيادة، حيث كان يقضي عشرين ساعة في اليوم من العمل والمتابعة والدّراسة والخطابات والنّدوات الجماهيريّة فعجّل فيه الموت بعد إصابته بثلاث مرّات بالجلطة الدّماغيّة وكان يواصل عمله المضني وجهده المتفاني بالرّغم من نصائح الأطبّاء إليه، ولولا الموت قد عجّل به بعد سبع سنوات من انتصار الثّورة العظمى الّتي كان مهندسها ومنفّذها وقائدها ما أصاب ذلك الطّود الشّامخ والعظيم الّذي شيّده “لينين”، الاتّحاد السّوفييتيّ والمعسكر الاشتراكيّ ما أصابه من انهيار ماحق وأليم.
لقد أمضى “لينين” حياته مركّزًا على مهمّة بناء الحزب، وقد رأى أنّ الحزب نفسه عليه أن يدعو إلى الانتفاضة، أمّا “تروتسكي” الّذي راكم خبرة أكبر في السّوفييتات منه، كان عليه أن يقنعه أنّ دعم الحزب وحده لا يكفي إطلاقًا، وأنّ الدّعوة يجب أن تأتي من السّوفييتات، و”لينين” لم يكن طاغية ولا مستبدًّا برأيه ويرغب دائمًا في التّعلم وكسب الخبرة من الآخرين وهذا ما جعله قائدًا عظيمًا. وقد كان قائدًا من النّوع الّذي يعرف كيف يستمع إلى الآخرين في الوقت المناسب لتغيير وجهات نظره، فقد اقتنع بأنّ الاعتراف بالخطأ لا يعني اعترافًا بالفشل!
المحور المركزيّ لحياة “لينين” كان ضرورة بناء التّنظيم الثّوريّ. وبالنّسبة للشّكل الّذي يجب أن يكون عليه هذا التّنظيم، فهذا يختلف من وقت إلى آخر، ولا وجود لمثل هذا الشّيء الأسطوريّ الّذي يُسمّى بـالحزب اللّينينيّ، فهو تنظيم متغيّر وليس جامدًا أو متحجّرًا، وهو قابل للنّقاش والتّغيير والتّعديل وفقًا لحاجة الثّورة، فأعمال “لينين” لم تكن كتبًا وصفيّة، واللّينينيّ الجيّد ليس من يقتبس دائمًا من “لينين”، أنّما يجب عليه تحليل تجاربه وخبراته، وفهم أساليبه لتسهيل مهمّة تطوير الأشكال التّنظيميّة الّتي نحتاج كي يستمرّ النّضال والكفاح والثّورة ضدّ كلّ أنواع الظّلم.
لقد تأسّس تحت قيادته الحكيمة هيكل جديد للدّولة مرتكز على السّوفييتات، وكان “لينين” على رأس الحكومة الاشتراكيّة الأولى الجديدة بعيد سقوط القيصريّة. وعلى الرّغم من اتّهامه بالسّعي إلى السّلطة فهو لم يوافق على هذه الوظيفة في البداية، وحاول أن يقنع “تروتسكي” على تولّيها، ليهب هو طاقاته لتنظيم الحزب، ولكنّ “تروتسكي” رفض المنصب أيضًا. وكان “لينين” آخر من يمكن أن يؤمن بتصدير الثّورة رغم كونه على يقين بأنّه لا أمل في الثّورة الاشتراكيّة في روسيا إلّا إذا انتشرت بسرعة فائقة إلى بقيّة دول العالم. وقد كتب في كانون الأوّل سنة (1917) “إنّ الثّورة الاشتراكيّة الّتي بدأت في روسيا، هي فقط البداية للثّورة الاشتراكيّة العالميّة”. ولكنّه في آخر حديث له أمام الأمميّة الشّيوعيّة في سنة (1922) حذّر “من خطورة فرض التّجربة الرّوسيّة على البلدان الأخرى، فعلى الثّوريّين في كلّ مكان أن يطبّقوا أسس مبادئهم حسب الظّروف المحدّدة لتجاربهم الفعليّة”.

بحلول سنة (1922) كان “لينين” مريضًا جدًّا، حيث كان يعاني من الإرهاق الشّديد بسبب إصابته إثر محاولة اغتياله الّتي تركته في حالة صحيّة صعبة للغاية. وقد أيقن أنه لن يعيش ليرشد الثّورة خلال مراحلها الصّعبة. ومع ذلك كان كقائد أمين لمبادئ حزبه وأهداف ثورته السّامية والعظمى، كان دائم القلق حول كيفيّة تطوير الثّورة. هذا في ظلّ انكماش الطّبقة العاملة، وتمدّد البيروقراطيّة داخل الحزب وخارجه، وقد تبيّن بعض الطّرق الغريبة عن ديمقراطيّة الطّبقة العاملة، وكان إلى جانب ذلك أيضًا تطوّر خطير طرأ على التّوجهات القوميّة.
قد يكون “لينين” ارتكب بعض الأخطاء، وكان قاسيًا في بعض الأحيان، ولكنّه كان كذلك من أجل مصلحة القضيّة وليس من أجل أن يملأ جيوبه أو لمصلحته الشّخصيّة، وقد ناضل بدون كلل أو ملل من أجل القضيّة الّتي آمن بها. وفوق كلّ ذلك لعب دورًا محوريًّا وقياديًّا في ثورة أكتوبر العظمى. وقد فتحت الثّورة الرّوسيّة، قبل أن يخمدها “ستالين” الباب أمام عالم جديد، عالم يكون فيه الإنتاج من أجل احتياجات البشر وليس من أجل الرّبح، عالم تُتّخذ فيه القرارات عن طريق أولئك الّذين يعملون وليس الّذين يملكون، عالم يتعاون فيه جميع البشر من جميع الأجناس والجنسيّات بدلاً من محاربة بعضهم البعض، عالم لا تعرف فيه الأجيال الجديدة شيئًا عن الفقر والحروب إلّا عن طريق دروس التّاريخ. إنّ روح “لينين” الأمينة والجداليّة كانت على النقيض تمامًا من الرّضا الذّاتي والغطرسة اللذيْن ميّزا الدّولة الرّوسيّة تحت حكم ستالين ومن خلفه في الحكم.

الانهيار السّوفييتيّ العظيم:

في سبعينيّات القرن الماضي (العشرين) بدأنا نتعرّف على دنيا السّياسة ونعي عالم الصّراعات الدّوليّة والقوميّة والطّبقيّة، كنّا نستشعر بل صرنا ندرك عظمة الاتّحاد السّوفييتيّ الّذي أسّسه القائد الثّوريّ “لينين” ومنظومة الدّول الاشتراكيّة في خضمّ الصّراع بين الكتلتيْن السّياستيْن: الشّرقيّة بقيادة الاتّحاد السوفييتيّ والغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، بين حلف “وارسو” الاشتراكيّ وحلف “الناتو” الإمبرياليّ، وكيف كان الاتّحاد السّوفييتيّ يستطيع أن يصدّ أطماع الإمبرياليّة ويكافح ضدّ سياساتها للسّيطرة على الشّعوب وأطماعها بالهيمنة المختلفة على الثّروات والمقدّرات من أجل الجشع الرّأسماليّ الّذي لا يعرف حدودًا للشّبع، وكيف كان الاتّحاد السّوفييتيّ الّذي أسّسه وقاده “لينين” العظيم لسبع من السّنوات فقط كرئيس للحكومة في روسيا الاشتراكيّة أوّلًا وكرئيس للاتّحاد السّوفييتيّ منذ تأسيسه ثانيًا، وفيها رسّخ مفاهيم الحرّيّة والعدالة والاستقلال ومبادئ السّلم والاشتراكيّة وأسس الأمميّة الشّيوعيّة، لقد دعم الاتّحاد السّوفييتيّ حقوق تلك الشّعوب سياسيًّا وأمدّها بكلّ ما تحتاج إليه من مواقف وإمدادات وأسلحة للخلاص والتّحرّر والعدالة والاستقلال والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة. ولكم في مصر وجنوب أفريقيا وكوبا وتشيلي وفيتنام وكوريا وشعوب ودول أخرى في العالم خير مثال.
كنّا ننعت الاتّحاد السوفييتيّ بِ “العظيم ونصير الشّعوب”، كان الاتّحاد السّوفييتيّ عظيمًا حقًّا، وعندما انهار هذا العظيم كان الانهيار عظيمًا كذلك، فلم ينهر نظام دولة بل انهارت بُنى نظام عالميّ وأمميّ متكامل من القيم السّياسيّة الثّوريّة والمُثل الحضاريّة الكفاحيّة والمفاهيم الاجتماعيّة والاقتصاديّة التّقدّميّة والأسس الثّقافيّة والأخلاقيّة الإنسانيّة، لقد انهار الاتّحاد السوفييتيّ ومنظومته الاشتراكيّة فانهار نهار مشرق للعالم، عظيم، سامٍ، جميل وحرّ وحلّ ظلام ليل لعالم قبيح، متوحّش، جشع ويفرض بالقوّة العسكريّة والقدرات الاقتصاديّة العبوديّة والاستغلال والاضطهاد والظّلم على شعوب العالم ومقدّرات الدّول وثرواتها.
ليست روسيا الاتّحاديّة اليوم كروسيا الاشتراكيّة بالأمس، وليس الاتّحاد الرّوسيّ اليوم كالاتّحاد السوفييتيّ ومنظومته بالأمس، كالعقد النّظيم كان، فأصبح خرزاتٍ متناثرةً فقدت خيط النّسيج الاشتراكيّ المتين، ولم تعد الدّول الاشتراكيّة ككلمات في جمل متماسكة ومتواصلة ومنسجمة وصحّيّة، بل أصبحت حروفًا في مربّعات منفصلة في لغز للكلمات المتقاطعة، لم تعد جسمًا سليمًا، قويًّا بل صارت أجسادًا تتداعى من السّهر والحمّى والرّأسمال ذي البريق الخدّاع والسّراب الفاتك بحرّيّات الفقراء وثروات بلادهم، الّتي تنحصر في حيتان المال والرّأسماليّين الكبار. ليس الاتّحاد الرّوسيّ الهزيل الّذي قام بعد الانهيار السّوفييتيّ العظيم كما كان الاتّحاد السوفييتيّ القويّ، حتّى وإن أعاد الرّئيس الحاليّ “فلاديمير بوتين” (1952) بعض الهيبة والمكانة لروسيا بعد ذهاب الرّئيس السّكّير “بوريس يلتسين” (1931 – 2007) عن سدّة الحكم.
وأعتقد بل أكاد أجزم أن بذور هذا الانهيار لم تزرع بيدي الرّئيس الأخير للاتّحاد السوفييتيّ (الثّامن أو التّاسع) والأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ في الاتّحاد السّوفييتيّ “ميخائيل غورباتشوف” (1931) بل كانت البذور قد زرعت منذ موت الرّئيس الأوّل “فلاديمير لينين”، ولا أعتقد أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة الخمسين هي السّبب في الانهيار، وكأنّ السّبب جاء من الخارج، بل كان السّبب داخليًّا وعضويًّا لأسباب كثيرة وسياسات مختلفة مورست بعد موت “لينين” لأنّه – بنظري – لا تستطيع ألف ولايات متّحدة أميركيّة ولا كلّ الّدول الغربيّة الاستعماريّة والرّجعيّة الموالية لها أن تكون سببًا في انهيار نظام راسخ ومتين وقوّي ومتماسك وناجح في مجالات الحياة ومتغلغل في وجدان الجماهير والعمّال والفلّاحين والفقراء. لقد كان ثمّة نهج قديم أقوى من “غورباتشوف” ومن الولايات المتّحدة الأميركيّة. إنّه انهيار داخليّ نشأ من تراكم أخطاء هائلة منذ سنة (1924) حتّى سنة (1991) منذ غادر “لينين” العظيم وترك السّاحة لحكّام شيوعيّين أقلّ عظمة ولأحزاب أقلّ تنظيمًا ولكن أكثر بعدًا عن قضايا النّاس وما يعيشونه من ظروف وما يشغلهم من هموم، وأحيانًا إلى حكّام انتهجوا نهجًا خاطئًا وظالمًا وخطيرًا ومميتًا وإن كان لهم إنجازات تاريخيّة لا تنسى مثل الرّئيس الثّاني أو الثّالث للاتّحاد السّوفييتيّ “جوزيف ستالين” (1878 – 1953) والّذي حكم ما بين (1924 – 1953) (ستالين الرّئيس الثّالث على اعتبار أنّه بعد موت “لينين” ترأّس الاتّحاد السّوفييتيّ “أليكسي رايكوف” (1885 – 1938) لمدّة قصيرة لا تتعدّى الأشهر القليلة، وهناك من لا يعتبر أنّه كان رئيسًا أصلًا، وعلى الأساس نفسه يكون “غورباتشوف” هو الرّئيس الثّامن أو التّاسع) كان الأمس أجمل وأنبل وأسعد وأكثر عدالة وإنسانيّة.

هل كان نهج ستالين سببًا:

كانت الأمميّة الشّيوعيّة في أيّام “لينين” مفعمة بالنّشاط، حيث كانت تناقش الإستراتيجيّات المختلفة، ولكنّها أصبحت بعده جهازًا بيروقراطيًّا مبنيًّا من أعلى إلى أسفل حيث يعمل الجميع فيها على الطّاعة لنفس النّهج وأحيانًا طاعة عمياء للقائد والجهاز الحزبيّ البيروقراطيّ والبعيد عن النّاس بل الظّالم لهم في مستوى المعيشة والحرّيّات السّياسيّة والفرديّة “وويل للمارق”. لذلك أجبر “لينين” في أحيان كثيرة على التّفكير فيمن سيخلفه في الحكم. ويقال إنّ ثمّة وثيقة صغيرة كان قد كتبها توضّح حجم القادة البلاشفة الآخرين، وكان ينقدهم جميعًا، وخصَّ “ستالين” بالنّقد اللّاذع مؤيّدًا طرده من السّكرتارية العامّة للحزب. بعد “لينين” ضاع الكثير من مكتسبات الثّورة واختفت النّقابات المستقلّة وامّحى الحقّ بالإضراب وهبطت المرتّبات. وزادت الجريمة واستبدل الابداع الفنّيّ بالمذاهب المحافظة تحت مسمّى “الثّقافة البروليتاريّة” في عهد “ستالين”، وظهرت طبقة جديدة من البيروقراطيّين ذات مصالح خاصّة، وأصبح الحزب الشّيوعيّ الّذي كان يضم أكثر المناضلين إخلاصًا وتضحية منظّمة للنّخبة الّذين تقرّبوا إلى “ستالين” من أجل الحفاظ على مصالحهم العليا الخاصّة. كانت سياسات “ستالين” القاسية مع الفلّاحين والمحاصيل الزّراعيّة قسرًا نقيضة تمامًا لمواقف “لينين”، حيث كان يسعى “لينين” دائمًا إلى الحفاظ على تحالفات الطّبقة العاملة مع الفلّاحين مع إيمانه العميق بأنّ عماد الثّورة وانتصارها والحفاظ على مكتسباتها وإنجازاتها هي الطّبقة العاملة.

كان أكثر معارضي “ستالين” تماسكًا هم هؤلاء الّذين يتذكّرون أيّام “لينين”، وكانوا ينتقدونه من حيث القيم الّتي كانوا يشاركون بها “لينين”، وكان من أبرزهم “ليون تروتسكي” وأتباعه القلائل الّذين تميّزوا بالشّجاعة، أمثال “فيكتور سيرج” الّذي سبق ذكره ككاتب كتاب سيرة “لينين” الكفاحيّة، والشّيوعيّ الفرنسيّ “ألفريد روزمير” الّذي ألّف كتاب “موسكو في ظلّ لينين”. هؤلاء وضعوا قواعد لحركة اشتراكيّة أصيلة بدأت في الظّهور عندما تدهورت السّتالينيّة. ومن سياسات “ستالين” ضدّ أولئك الخصوم، ومن أجل تماسك سلطاته الّتي امتازت بالدّكتاتوريّة، قتل أهمّ مساعدي “لينين” المقرّبين: “غريغوري زينوفيف” (1883 – 1936) وَ “ليف كامينيف” (1883 – 1936) وَ “كارل راديك” (1885 – 1939) وَ “نيقولاي بوخارين” (1888 – 1938) وقد طارد عملاؤه “تروتسكي” في أنحاء العالم حتّى قاموا باغتياله في المكسيك. وقد تمّ تصفية الآلاف من البلاشفة القدامى من ذوي الرّتب العالية، ما أن تقرأ عن سيرة أحد من هؤلاء إلّا ويكون السّبب في موته هو الإعدام. بقي “ستالين” في الحكم 29 سنة (1924) حتّى سنة (1953) وقد تسلّم أثناء فترة حكمه سبعة مراكز قياديّة في اللّجنة المركزيّة للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ وأصبح أمينًا عامًّا للّجنة المركزيّة. ويقال أنّه أثناء فترة حكمه قتل 780 مفكّرًا وعالمًا وقائدًا عسكريًّا، وقد أفرزت فترة حكمه البيروقراطيّة وعبادة الشّخصيّة والسّلطة للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ على الأحزاب الشّيوعيّة في العالم، فقضت هذه العمليّة على خصوصيّة الأحزاب الشّيوعيّة الوطنيّة، لأنّ النّظريّة الماركسيّة الّتي تسترشد بها الأحزاب الشّيوعيّة تولد من رحم المجتمع وتقاليده وعاداته وتطبّق حسب ظروف البلد وطبيعة تقاليد شعب ذلك البلد، بينما جعل “ستالين” عن طريق “الكومنتيرن” جميع الأحزاب الشّيوعيّة هي الحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ، فقضى على خصوصيّة تلك الأحزاب وأصبحت تصدر قراراتها وسلوكها حسب رغبات ومرجعيّة الحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ. وجاءت نخبة عاشت في أحضان الحكم السّتالينيّ فسارت على خطى سياسة “ستالين” وأنجزت ورسّخت ما بدأه من نهج بيروقراطيّ مبتعدة عن النّهج اللّينينيّ الرّشيد وعن مبادئ الاشتراكيّة وحكم الطّبقة العاملة وهم: الرّئيس الثّالث أو الرّابع “جوزيف مالينكوف” (1902 – 1988) والّذي حكم ما بين (1953 – 1955) والرّئيس الرّابع أو الخامس “نيكيتا خروتشوف” (1894 – 1971) والّذي حكم ما بين (1955 – 1964) والرّئيس الخامس أو السّادس “ليونيد بريجنيف” (1906 – 1982) والّذي حكم ما بين (1964 – 1982) ممّا أدّى إلى تفكّك الاتّحاد السّوفييتيّ وانهيار نظامه الاشتراكيّ. حتّى الجيش الأحمر لم يبادر إلى إنقاذ ونصرة الكرملين بعد أن أصبح الحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ معزولًا عن الشّعب، لأنّه في عهد الرّئيس “ليونيد بريجنيف” (1906 – 1982) بالذّات كان يقف طابور كبير من أبناء الشّعب على رغيف خبز من أحد الأفران، فكانت المهزلة المؤلمة والمحزنة الّتي أدّت بكلّ بساطة إلى انهيار ذلك الطّود الشّامخ. في سنة (1944) جلس “ستالين” مع “تشرشل” الّذي ساعد في غزو روسيا سنة (1918) وقد قاما بالاتّفاق على تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ حاسمين مصير الملايين من الشّعوب بدون استشارتهم، لم يكن “تشرشل” مغفّلًا، فقد كان يعلم جيّدًا من هم أعداؤه الحقيقيّون. ومن هذا الباب دعا إلى إعادة بناء الجيش الألمانيّ الّذي هزمته الإرادة السّوفييتيّة من أجل “قتل الدّجاجة قبل أن تبيض”.

من هنا بدأ الانهيار، منذ أن أصبح “ستالين” رئيسًا للدّولة وأمينًا عامًّا للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ بصلاحيّات مطلقة في الدّولة والحزب، فقد تحوّل الحكم ليكون شموليًّا، وامتاز بالمجاعات وبالقمع الجماعيّ وباغتيال الخصوم والإعدامات وحملات التّطهير الّتي أودت بالملايين. من “ستالين” بدأ الانهيار السّوفييتيّ. لكنّ المرحلة الأخيرة من الانهيار والّتي سبقتها خطايا تراكميّة قاتلة على مدى سبعة عقود، إذ تعاقب عدّة رؤساء في هذه الفترة، كان آخرهم “غورباتشوف” الّذي أقرّ أنّ سياسات الحزب الشّيوعيّ الخاطئة على مدى طويل هي سبب الانهيار الاقتصاديّ، فقرّر عكس تلك السّياسات الاقتصاديّة وبدأ بالسّير نحو الرّأسماليّة محاولًا التّخفيف من تدخّل الدّولة في تنظيم السّوق وتقليل تقديم الخدمات عن طريق الدّولة، والسّماح بعمل شركات وملكيّات خاصّة، فحرّر السّوق نسبيًّا وسياسيًّا وسمح بالانتخابات والتّعدديّة الحزبيّة والشّفافيّة وتقليل القمع القوميّ، لكنّ كان كلّ ذلك بعد فوات الأوان، فلم يعد ممكنًا بعد ذلك الخراب الهائل إصلاح بناء أساس قد نخرته عوامل الفشل وسوس الانهيار.
أعلن الرّئيس “ميخائيل غورباتشوف” سنة (1991) في بيانه الأخير إغلاق مكتب رئيس الجمهوريّات السّوفييتيّة الاشتراكيّة واعترف باستقلال الجمهوريّات السّابقة الّتي كانت ضمن الاتّحاد السّوفييتيّ وصارت جزءًا من الاتّحاد الرّوسيّ. يا لسخرية القدر والتّاريخ هذه الجمهوريّات الّتي كانت مستعبدة من الإمبراطوريّة الرّوسيّة القيصريّة أعطاها “لينين” بعد انتصار الثّورة الحقّ في الانفصال القوميّ الحرّ والاستقلال الوطني عن الاتّحاد السّوفييتيّ هي نفسها الّتي يجبر “غورباتشوف” على الاعتراف باستقلالها بعد فشل الثّورة الاشتراكيّة وانهيار الاتّحاد السّوفييتيّ. من المؤلم والمحزن حقًّا أنّه في 25 شباط سنة (1991) قبل أن يغادر “غورباتشوف” الحكم تمّ إنزال العلم الأحمر الشّامخ، علم الاتّحاد السّوفييتيّ العظيم عن مبنى “الكرملين” للمرّة الأولى في التّاريخ، ورفع مكانه علم روسيا الذّليل الثّلاثيّ الألوان: الأحمر والأزرق والأبيض. باختصار لقد قضت البيروقراطيّة على الاتّحاد السّوفييتيّ، مهد تطبيق الاشتراكيّة والأمل الشّيوعيّ الأمميّ وابن ثورة أكتوبر العظمى الحمراء. قد لا يغفر للزّعيم السّوفييتيّ “ستالين” أنّه قاد الجبهة السّوفييتيّة ضدّ النّازيّة بصمود منقطع النّظير وخاصّة في معركة “ستالينغراد” الباسلة، ورغم كثرة الخسائر المادّيّة، لكنّ الاتّحاد السّوفييتيّ والشيوعيّة انتصرا انتصارًا ماحقًا على الجيش الألمانيّ النّازيّ الّذي اندحر حتّى العاصمة “برلين”، هناك وعلى أعلى زاوية في مبنى “الرّايخستاغ” مقرّ الحكومة الألمانيّة دقّ الجنديّ السّوفييتيّ بشموخ وبنشوة انتصار وفرح للحقّ والعدالة والإنسانيّة العلم الأحمر، وجعل “ستالين” الاتّحاد السوفييتيّ إثر انتهاء الحرب الثّانيّة سنة (1945) قوّة سياسيّة وعسكريّة عظمى، ذات أثر كبير وفاعل ويحسب له الحساب في الموازين السّياسة الدّوليّة، زيادة على تنامي القدرات العلميّة والثّقافيّة والاقتصاديّة. ولكن ذلك لن يشفع لدكتاتوريّته وبيروقراطيّته وجرائمه ضدّ المخالفين الأبرياء أما محكمة التّاريخ.

غورباتشوف الرّئيس المسكين:
كلّ ما أنجزه “ستالين” وما حقّقه من انتصارات لا يعطيه الحقّ في إعدام الخصوم السياسيّين المخلصين أصحاب الرّأي المغاير، ولا يبرّر قتل برئ واحد من أولئك الّذين أُعدموا وكان بينهم الكثيرون من الأبرياء، قتلوا بذريعة أنّهم كانوا من “القوى الهدّامة” وكلّ ما فعله من مشاريع لم يمنع الانهيار. ورغم نوايا الرّئيس الأخير “غورباتشوف” والّذي أصبح الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ السّوفييتيّ منذ سنة (1985) والّذي خرج علينا بمشروعيْه اللذيْن هلّلنا لهما كثيرًا في البداية: “البيروسترويكا” (بالعربيّة إعادة البناء) وَ “الغلاسنوست” (بالعربيّة العلنيّة) لدرجة أن خرج علينا أمين عامّ حزبنا الشّيوعيّ “ماير فلنر” (1918 – 2003) من على سور “عكّا” في احتفال ما بعد الانهيار السّوفييتيّ ليقول: “لقد ضُلّلنا وضَلَلنا”. رغم نوايا “غورباتشوف” الصّادقة أو الخائنة، ورغم رغبته في إنعاش الاتّحاد السّوفييتيّ ومحاولاته الظّاهرة للعيان في إبعاد القادة القدماء بعد موت الرّئيسيّن اللذيْن سبقاه: الرّئيس السّادس أو السّابع “يوري أندروبوف” (1914 – 1984) والّذي حكم أقلّ من سنتيْن (1982 – 1984) والرّئيس السّابع أو الثّامن “قسطنطين تشيرنينكو” (1911 – 1985) وقد حكم أقلّ من سنة واحدة (1984 – 1985) وهما من القادة التّقليديّين في الاتّحاد السّوفييتيّ. ورغم محاولاته في تحديث الجهاز الحكوميّ والإداريّ للدّولة، بإدخال عناصر قياديّة أكثر شبابًا وانتهاجه نهجًا جديدًا، كان بريقه جذّابًا ومثيرًا للمصداقيّة في البداية، لكنّه لم يصمد طويلًا أمام المعضلات المتراكمة على مدى عقود طويلة من الأخطاء بل الخطايا الّتي لا تغتفر، وأبرزها البيروقراطيّة والانقسامات الدّاخليّة والانقلابات وتدهور الاقتصاد السّوفييتيّ والقضايا القوميّة. لقد باءت كلّ المحاولات بالفشل الذّريع وأدّى ذلك كلّه إلى إعلان “غورباتشوف” في خطابه الأخير يوم 25 شباط سنة (1991) عن تفكّك الجمهوريّات السّوفييتيّة الاشتراكيّة والاعتراف باستقلال الجمهوريّات السّابقة وإنشاء رابطة الدّول تحت مسمّى “الاتّحاد الرّوسيّ” وتخلّى عن رئاسة الاتّحاد السّوفييتيّ وسلّم السّلطة إلى الرّئيس السّكّير “بوريس يلتسين” وإلى ظلام ومصير مجهول. ولكنّنا عشنا تلك الفترة من انتهاء الحرب الباردة بين الكتلتيْن: الشّرقيّة والغربيّة والإعلان عن إلغاء العداء بين حلف “وارسو” وحلف “النّاتو”، والأكثر إزراء أنّ بعض الجمهوريّات السّوفييتيّة السّابقة والّتي استقلّت قد هرولت للانضمام إلى حلف “النّاتو” واهمة بتعزيز استقلالها العسكريّ والاقتصاديّ عن روسيا، مخدوعة بسراب الرّأسماليّة الّتي أغدقت عليها الحرّيّة الزّائفة والفقر وزيادة التّقاطب الاجتماعيّ والغلاء الفاحش وزيادة الجريمة في الدّاخل أو الحروب في الخارج، كلّ ذلك لحالة من جنون انهيار الاشتراكيّة والشّيوعيّة بعد النّموذج السّوفييتيّ التّاريخيّ والعظيم.
وأخيرًا:

منذ منتصف سنة (1922) كان “لينين” يعاني سلسلة من السّكتات الدّماغيّة. وبحلول سنة (1923) أصبح غير قادر على المشاركة في نقاشات الحزب الّذي بناه، وعندما توفّي سنة (1924) تمّ تحنيط جثّته وتحويله إلى ما يشبه القدّيس، وهو ما كان يروّعه قبل وفاته. وقد حثّت أرملته، “كروبسكايا” والّتي شاركته على طول مسيرته النّضاليّة، وكانت تعرف ما يريده بعد أن يموت، ليس التّحنيط وليس النّصب وليس أيّ صورة من صور التّخليد الشّخصيّ، بل كان يريد خلودًا لمسيرته لمبادئه الماركسيّة ولثورته المجيدة ولكفاحه الدّؤوب بكلّ الوسائل، وأبرزها السّلاح، كان يريد خلودًا للحزب الطّليعيّ ليبقى حزبًا من طراز متجدّد، يريد تنظيمًا يفحص ذاته ليضمن خلود الفكرة، خلود النّظريّة المتطوّرة والحركة الّتي لا تعرف السّكون ولا الثّبات “لا شيء مطلق إلّا حركة المادّة”، يريد خلودًا لأفكار معلّمه “ماركس” الّتي تجعل الإمبرياليّة تسعى لحفر قبرها، يريد خلودًا للمكتسبات الثّوريّة والإنجازات العلميّة والعمليّة، يريد سقوطًا مدويًّا لقوى الظّلم والظّلام وتخليد الواقع المرير، يريد عيشًا كريمًا وحياة عزيزة للبسطاء من العمّال والفلّاحين، ويريد انتصارات للشّعوب المقهورة على محتلّيها ومغتصبي حقوقها القوميّة والوطنيّة والإنسانيّة وناهبي ثرواتها والمتحكّمين بمقدّراتها ومصائرها، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللّاتينيّة، يريد الحياة ثورة دائمة ما دام ثمّة ظلم أو استغلال أو اضطهاد. ولذلك صرخت زوجته “كروبسكايا”: “لا تقيموا النُّصب التّذكاريّة له، فكلّ ذلك ارتبط بأهمّيّة قليلة في حياته، فإذا كنتم تريدون تكريم اسم “فلاديمير إيليتش لينين” ابنوا الحضانات ورياض الأطفال والمنازل والمدارس والمكتبات والمراكز العلاجيّة والمستشفيات والبيوت للعاجزين. والأهمّ من ذلك كلّه، دعونا نضع تعاليمه في الممارسة”. نعم “دعونا نضع تعاليمه في الممارسة”. أين الأحزاب الشيوعيّة اليوم من “لينين” وتعاليمه وممارسته! أين قادة الأحزاب الشيوعيّة من الميادين وجبهات القتال والمواجهة مع العدوّ القوميّ والطّبقيّ! ماذا يفعلون خلف طاولات المكاتب المنخورة بالجمود والخمول واليأس والأنانيّة والشّخصنة والتّمسّك بالفرعيّ وترك الأساسيّ! أين هم الشيوعيّون أولو الياقات الحمراء في مقاعد البرلمانات القليلة! يقاتلون من أجل مقعد إضافيّ ولو من أصوات طفيليّة أو أصوات عميلة لمن “نناضل” ضدّه! أين هم الآن من دراسة تجارب التّاريخ ليعرفوا كيف نقطف ثمار النّصر بالنّضال الّذي لا يعرف الهوادة مع الظّالم ولا مع المتعاونين معه ولا مع المتذيّلين له، إنّه النّضال الثّوريّ اللّينينيّ الّذي يرى “في الانتظار أكثر جريمة” والخمول عن ذلك جريمة أكبر!
فليذهبوا إلى “لينين” القائد للثّورة بالعنف الجماعيّ! فليذهبوا إلى أدوات المطبخ الّتي سرقها “سبارتاكوس” ورفاقه وقاتلوا ظلّامهم بها! فليذهبوا إلى جبال “سييرا مايسترا” حيث كان “كاسترو” ورفيقه الثّائر “جيفارا” وجميع الرّفاق يحفرون قبر الطّاغية “باتيستا”! فليذهبوا إلى معركة “السّويس” وجمال عبد النّاصر المنتصر وموقف الاتّحاد السّوفييتيّ الحاسم والسّدّ العالي! فليذهبوا إلى حزب المؤتمر الأفريقيّ وخلاياه الّتي نظّمها “نيلسون مانديلا” من سجونه الطّويلة! فليذهبوا إلى الإمام “الحسين” الّذي آمن بقلّة قليلة أعظم من كلّ الأسلحة والجيوش عند الله! فليذهبوا عند فتات الصّخور الّتي تكسّرت على صدر “بلال” الحرّ وبطنه ولم يقل كلمة كانت تخلّصه من عذاب مميت! فليذهبوا إلى “ديان بيان فو” في فيتنام الثّورة، حيث كان القائدان: “هو تشي منّه” وَ “جياب” يخطّطان وينفّذان حصار المستعمر الفرنسيّ واستسلامه! علينا أن نذهب كثيرًا فالنّجوم الثّوريّة السّاطعة في فضاء هذا العالم الظّالم والمظلّم كثيرة ولا تُعدّ.
جاء الاحتفال في “موسكو” في ذكرى ميلاد “لينين” المئة والخمسين، مطوّر النّظريّة الماركسيّة ومؤسّس الاتّحاد السّوفييتيّ باهتة كخمود جذوة الشّيوعيّة، كالنّظريّة الرّماديّة الجامدة وليست كشجرة الحياة الخضراء اليانعة. هذا العظيم الّذي دخل التّاريخ سياسيًّا ومنظّرًا وحاكمًا، وقبل ذلك كلّه وبعده، ثائرًا ومقاومًا ومتمرّدًا إلى أن قضى عليه ضرب من الجينات الموروثة، وهو في خمسينيّات العمر، وإن كان هناك من يعتقد أن خليفته في الحزب والدّولة “جوزيف ستالين” قد يكون هو الّذي دبّر مقتله إثر خلافهما على قضيّة تصدير الثورة أو ترسيخها في بلد واحد، وما تردّد عن توصية منسوبة إلى “لينين” ينصح فيها رفاقه: “بإزاحة “ستالين” أو اختيار أحد مكانه أكثر صبرًا وأوفر أدبًا وأقلّ تقلّبًا”!

و”لأنّ الزّمن لا ينتظر” كما قال “لينين” منذ زمان بعيد فقد عمل الشّيوعيّون الرّوس على محاولة النّفاذ إلى الفضاء الشّعبيّ: الاجتماعيّ والسّياسيّ من جديد، لكنّهم أخفقوا في تحقيق ما يريدونه أكثر من مرّة، إذ حاول الأمين العامّ للحزب “غينادي زوغانوف” (1944) الوصول إلى “الكرملين” وإعادة البلاد إلى النّمط الشّيوعيّ أربع مرّات، ولكنّه فشل في الوصول، ففي الانتخابات سنة (1996) فشل أمام المرشّح السّكّير “يلتسين” فحصل على 32% من الأصوات مقابل 54% للسّكّير، وفي انتخابات سنة (2012) تراجع إلى 17% من الأصوات مقابل 78% للرّئيس الحاليّ “بوتين” والتّراجع المستمر يقول الكثير عن حالة انزلاق الحزب في نظر الجماهير الشّعبيّة الرّوسيّة. وفي الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة سنة (2018) وقف الحزب وراء مرشّح غير شيوعيّ، هو رجل الأعمال المليونير “بافيل غرودينين” (1961) المدافع عن اقتصاد السّوق، لاستقطاب الفئات الشّابّة الّتي انفضّت عن الحزب، لكنّه خرج من اللّعبة الانتخابيّة بخفّيْ حنين.
خلّد كتاب “عشرة أيّام هزّت العالم” للكاتب والإعلاميّ الاشتراكيّ الأميركيّ “جون ريد” (1887 – 1920) مسيرة “لينين” الكفاحيّة، وقد سجّل فيه أحداث ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى، ووثّق خاصّة أيّامها العشرة الحاسمة، منذ يوم 16 أكتوبر حتّى يوم 26 منه، وهي الفترة العصيبة الّتي واجهتها الثّورة، وقد تحوّل الكتاب إلى فيلم سينمائيّ أخرجه المخرج “سيرجي أيزنشتاين” (1898 – 1948) كعمل روائيّ وبفنّيّة سينمائيّة عالية. وقد وصف “لينين” هذا الكتاب، في المقدمة الّتي وضعها له،‌ بأنّه: “يعتبر العرض الأكثر صدقًا والأكثر حيويّة للأحداث الّتي تساعد على فهم حقيقة الثّورة البروليتاريّة”. واحترامًا وتقديرًا أمميًّا للكاتب “جون ريد” وهو من مؤسّسي الحزب الشّيوعيّ الأميركيّ عندما مرض بالتّيفوس في “موسكو” ومات دفن في السّاحة الحمراء مع من دفن فيها من الشّخصيّات الهامّة.
وبألم صوّرت في مقطع من قصيدة لي بعنوان “مقاطع عربيّة، نقوش إسلاميّة وصور أخرى” ذلك التّحوّل الرّهيب الّذي حلّ على “موسكو” المنكوبة بالانهيار، وكانت “موسكو” رمزًا للسّقوط السّوفييتيّ الفظيع والسّقوط الرّوسيّ في براثن الرّأسمال والتّقوقع القوميّ والخروج عن مجد الشّيوعيّة والشّموخ الأمميّ، وقد جاء المقطع تحت رقم 19 من القصيدة الّتي نشرتها في ديواني الثّاني بعنوان “بوادٍ غير ذي زرع” الّذي صدر سنة (2007) قلت فيها: “كانت “موسكو” بلد اللّيل المورق/ صارت “موسكو” بلد السّوق الغارق/ بالحرّيّة والإدمان والمُلك الخاصّ وحرب الشّيشان/ حملت مختارات الزّنبق والحبّ بيد/ ورأس المال بيد/ كانت تفتح ذراعيّها بعشق/ وتمدّ أصابعها منارات/ والصّوت الأحمر كان/ يا شعوب الأرض هبّوا/ كانت “موسكو” تغنّي وتكبر/ كانت تحضن “ماياكوفسكي”/ وتخبّئ في أهداب عواطفها “بوشكين”/ كانت تحمل “لينين”/ كانت تبعث أغصان حضارتها فروعًا كالرّيح الطّيّب مسكًا/ لكن منذ سنين/ انشقّ غشاء بكارتها/ وحال اللّون الأحمر/ بقعًا سوداء/ على ثوبك يا يسنين/ وعلى رأس المال وتمثال “لينين”. (ص 30 – ص 32)
لم يعد اسم “لينين” مضيئًا بعد 150 عامًا على ولادته، إلّا في السّاحة الحمراء وحدها في قلب العاصمة “موسكو” وبقيت هناك رفاته تستقبل أفرادًا وجماعات يقرأون السّلام عليه ويتوقون إلى عهدٍ جميل ونبيل وعزيز مضى، لم تبقَ منه في الذّاكرة سوى خطوط نورها خفيف وباهت، رماديّة يشوبها الظّلام. ولكنّ ضحايا الاضطهاد وضحايا جوع الاضطرار يتكاثرون ويتململون التّململ الأخير للمكافحين، ولا بدّ أنّه يتقلّبون التّقلّب على نار الظّلم وسيهبّون هبوب عاصفة الكفاح موقدين مشاعل الحرّيّة الحمراء من جمار الثّورة الاشتراكيّة والأمميّة القادمة، كما علّمنا “لينين”.

“ديان بيان فو” في فيتنام الثّورة، حيث كان القائدان: “هو تشي منّه” وَ “جياب” يخطّطان وينفّذان حصار المستعمر الفرنسيّ واستسلامه! علينا أن نذهب كثيرًا فالنّجوم الثّوريّة السّاطعة في فضاء هذا العالم الظّالم والمظلّم كثيرة ولا تُعدّ.
جاء الاحتفال في “موسكو” في ذكرى ميلاد “لينين” المئة والخمسين، مطوّر النّظريّة الماركسيّة ومؤسّس الاتّحاد السّوفييتيّ باهتة كخمود جذوة الشّيوعيّة، كالنّظريّة الرّماديّة الجامدة وليست كشجرة الحياة الخضراء اليانعة. هذا العظيم الّذي دخل التّاريخ سياسيًّا ومنظّرًا وحاكمًا، وقبل ذلك كلّه وبعده، ثائرًا ومقاومًا ومتمرّدًا إلى أن قضى عليه ضرب من الجينات الموروثة، وهو في خمسينيّات العمر، وإن كان هناك من يعتقد أن خليفته في الحزب والدّولة “جوزيف ستالين” قد يكون هو الّذي دبّر مقتله إثر خلافهما على قضيّة تصدير الثورة أو ترسيخها في بلد واحد، وما تردّد عن توصية منسوبة إلى “لينين” ينصح فيها رفاقه: “بإزاحة “ستالين” أو اختيار أحد مكانه أكثر صبرًا وأوفر أدبًا وأقلّ تقلّبًا”!
و”لأنّ الزّمن لا ينتظر” كما قال “لينين” منذ زمان بعيد فقد عمل الشّيوعيّون الرّوس على محاولة النّفاذ إلى الفضاء الشّعبيّ: الاجتماعيّ والسّياسيّ من جديد، لكنّهم أخفقوا في تحقيق ما يريدونه أكثر من مرّة، إذ حاول الأمين العامّ للحزب “غينادي زوغانوف” (1944) الوصول إلى “الكرملين” وإعادة البلاد إلى النّمط الشّيوعيّ أربع مرّات، ولكنّه فشل في الوصول، ففي الانتخابات سنة (1996) فشل أمام المرشّح السّكّير “يلتسين” فحصل على 32% من الأصوات مقابل 54% للسّكّير، وفي انتخابات سنة (2012) تراجع إلى 17% من الأصوات مقابل 78% للرّئيس الحاليّ “بوتين” والتّراجع المستمر يقول الكثير عن حالة انزلاق الحزب في نظر الجماهير الشّعبيّة الرّوسيّة. وفي الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة سنة (2018) وقف الحزب وراء مرشّح غير شيوعيّ، هو رجل الأعمال المليونير “بافيل غرودينين” (1961) المدافع عن اقتصاد السّوق، لاستقطاب الفئات الشّابّة الّتي انفضّت عن الحزب، لكنّه خرج من اللّعبة الانتخابيّة بخفّيْ حنين.
خلّد كتاب “عشرة أيّام هزّت العالم” للكاتب والإعلاميّ الاشتراكيّ الأميركيّ “جون ريد” (1887 – 1920) مسيرة “لينين” الكفاحيّة، وقد سجّل فيه أحداث ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى، ووثّق خاصّة أيّامها العشرة الحاسمة، منذ يوم 16 أكتوبر حتّى يوم 26 منه، وهي الفترة العصيبة الّتي واجهتها الثّورة، وقد تحوّل الكتاب إلى فيلم سينمائيّ أخرجه المخرج “سيرجي أيزنشتاين” (1898 – 1948) كعمل روائيّ وبفنّيّة سينمائيّة عالية. وقد وصف “لينين” هذا الكتاب، في المقدمة الّتي وضعها له،‌ بأنّه: “يعتبر العرض الأكثر صدقًا والأكثر حيويّة للأحداث الّتي تساعد على فهم حقيقة الثّورة البروليتاريّة”. واحترامًا وتقديرًا أمميًّا للكاتب “جون ريد” وهو من مؤسّسي الحزب الشّيوعيّ الأميركيّ عندما مرض بالتّيفوس في “موسكو” ومات دفن في السّاحة الحمراء مع من دفن فيها من الشّخصيّات الهامّة.
وبألم صوّرت في مقطع من قصيدة لي بعنوان “مقاطع عربيّة، نقوش إسلاميّة وصور أخرى” ذلك التّحوّل الرّهيب الّذي حلّ على “موسكو” المنكوبة بالانهيار، وكانت “موسكو” رمزًا للسّقوط السّوفييتيّ الفظيع والسّقوط الرّوسيّ في براثن الرّأسمال والتّقوقع القوميّ والخروج عن مجد الشّيوعيّة والشّموخ الأمميّ، وقد جاء المقطع تحت رقم 19 من القصيدة الّتي نشرتها في ديواني الثّاني بعنوان “بوادٍ غير ذي زرع” الّذي صدر سنة (2007) قلت فيها: “كانت “موسكو” بلد اللّيل المورق/ صارت “موسكو” بلد السّوق الغارق/ بالحرّيّة والإدمان والمُلك الخاصّ وحرب الشّيشان/ حملت مختارات الزّنبق والحبّ بيد/ ورأس المال بيد/ كانت تفتح ذراعيّها بعشق/ وتمدّ أصابعها منارات/ والصّوت الأحمر كان/ يا شعوب الأرض هبّوا/ كانت “موسكو” تغنّي وتكبر/ كانت تحضن “ماياكوفسكي”/ وتخبّئ في أهداب عواطفها “بوشكين”/ كانت تحمل “لينين”/ كانت تبعث أغصان حضارتها فروعًا كالرّيح الطّيّب مسكًا/ لكن منذ سنين/ انشقّ غشاء بكارتها/ وحال اللّون الأحمر/ بقعًا سوداء/ على ثوبك يا يسنين/ وعلى رأس المال وتمثال “لينين”. (ص 30 – ص 32)
لم يعد اسم “لينين” مضيئًا بعد 150 عامًا على ولادته، إلّا في السّاحة الحمراء وحدها في قلب العاصمة “موسكو” وبقيت هناك رفاته تستقبل أفرادًا وجماعات يقرأون السّلام عليه ويتوقون إلى عهدٍ جميل ونبيل وعزيز مضى، لم تبقَ منه في الذّاكرة سوى خطوط نورها خفيف وباهت، رماديّة يشوبها الظّلام. ولكنّ ضحايا الاضطهاد وضحايا جوع الاضطرار يتكاثرون ويتململون التّململ الأخير للمكافحين، ولا بدّ أنّه يتقلّبون التّقلّب على نار الظّلم وسيهبّون هبوب عاصفة الكفاح موقدين مشاعل الحرّيّة الحمراء من جمار الثّورة الاشتراكيّة والأمميّة القادمة، كما علّمنا “لينين”.
لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ
بقلم: علي هيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة