وصايا أمي بقلم: يوسف جمّال
تاريخ النشر: 24/03/19 | 9:59 هكذا كانت تقول أمي :
قبل أن يخطفها الرحيل من الرحيل ..
وصيتي لك يا ولدي :
لا تبك – يا ولدي- على حلم تحول الى سراب منفوش ..
فالحنين عذاب – يا ولدي – عذاب مغدور ..
إسألني – يا ولدي – ماذا فعل بي الحنين .. “قطّعني” الحنين .!
هكذا كانت تقول أمي .. قبل أن يختطفها الرحيل من الرحيل..!
أكتب – يا ولدي – أكتب.. فالحروف دموع ..دموع الحنين, وبعثرات أحلام تسبح في سراب منتوف ..
أكتب .. أكتب – يا ولدي ..
عن عين جف ماؤها, بعد أن رحلت عنها الملايات دون وداع ,
وعن عين لم يبق فيها من دموع تغسلها من ” شحار ” الرحيل ,
وعين لا يغمض جفنها وهي تنتظر أخبار المجاهدين .
يا ولدي كان في عين وكنا ملايات .. وكان في قمر يسبقنا, ويغطس سابحاً في مياتها..
أقول مشدوهاً :
بالليل – ياما – بتملين جراركن ..!؟ ما خفتن من ظلماته ..!؟
فترد واللوم الجميل يزيّن صوتها الحنون :
البلد كانت – ياما – أمان.. وكان في نجمات في طريقنا منثورة ..
وكانت مواويل الفلاحين , النايمين في بيادرهم
تسمر مع جبالنا اشجان في القلوب مزروعة
وسلامي يما .. !؟ أقول سارقاً .. منتظراً البهدلة المغمسة بحنان مشدوه .!
سلامي ..!؟ آه على أيام سلامي !؟ كنت تقولين, ووجهك الأسمر يخطف نقوش حمرا مخفية .
ولك مرة وجه أبوك كانه بدر أطل علينا من بين غيوم وسألني :
مية العين حلوة مثلك .!؟
فرقصت دقات قلبي ترفرف حياء ..
وسقطت الجرة عن رأسي .. ومياتها اسقين الدرب أفراح.
وفي الليل طرت على بساط كله سحر وجنات.
وفي الصباح كان قوله على كل لسان في البلد .
ولما “دري” سيدك ,حلف بالطلاق ما بكون مره ,لإبن أخيه سلامي ..!
وقفت الدموع على أبواب عينيها ,تخاف الدخول على سمار صفحات وجهها المعمور وتنهدت :
الحنين – يا ولدي- بيدر حصيده ,حباته في سنابله مصلوبه.
الحنين – يا ولدي – سراج ,زيتاته في حباته مسجونه.
الحنين – يا ولدي- غيمات مياتها في فضاها تجول.
وغنت بنات البلد :
عين عنا وميتها حلوة .
بتملي منها بنت واسمها حلوة.
ولما شافت سلامي طلعتها جلوة.
وانطلق صوت سلامي يغني في فضاءات روحة أم الشوف :
قال سلامي لزهرة إبنة خالتي أمونه .
أنا وأنت في عذاب الحب رمونا.
وانا على باب الدار لزرعلك لمونة.
منها توكلي ومنها لمونه.
وانت يلي في حبك لموني.
ما بدشرك لو في البير رموني.
ياما .. – يا ولدي – الحنين آهات خضرا مزروعة بالدار.
ياما .. يا ولدي – الحنين جمرات حمرا بتكوي نار.
ياما .. يا ولدي – الحنين دقات قلب معك ليل نهار.
وغاب سلامي .. غاب وغاب.. قالوا البلد في خطر ..
واليهود واعوانهم الأنجليز على الأبواب ,وأخبار بطولاته طافت, ووصلت لكل أذن في البلد .
وبعد ان ردوا المعتدي , عاد سلامي ورفقاته الى البلد .. فوقف أبويا في ساحة المسجد وصاح :
عما تشهدوا يا حاضرين .. والحاضر يعلم الغايب .. إني معطي بنتي لإبن أخوي البطل سلامي ..
فوقفت عبله ام سلامي بباب الدار تقول وتزغرد :
جيت أغني وقبلي ما حدا غنى.
بساح المعركة البطل بستنى.
وريتك يا سلامي بها العروس تتهنى.
وجيب النصر ويظل الفرح عنا.
وارتفعت أصوات نساء البلد بالمهاهاه .
والصمدة ياما ..طلعتلك جلوة ..!؟ أسأل :
ولك يا ولد .. !يا إبليس ..! تأنبينني بحياء مسحور :
وغنينلي الصبايا :عروستنا ,
ذهبها من حيفا , وبدلتها من عكا
والمناديل من بيسان , والحنا من يركا
عمها جاب البدلة , وعريسها جاب الشبكة
إنشا الله تبكري بالصبي , وتزوري مكة
وفجأة قبض الصمت على خناق الصبايا وتوقفن عن ” القول”..
الكل كان يعرف السبب ما عدا العروس .. أنا ..!!
فانقذتني من الأنهيار صديقتي سعاد .. لترميني في إنهيار أشد ..
سلامي مفقود .. راحوا يحمموه.. ويزفوه ., فلم يجدوه ..!
وانتشر الخبر في البلد .. العريس مفقود ..العريس هارب ..
العريس طفش ..,!
وطبيخ العرس ظل على حاله .. ولا واحد قرب عليه ..!
وساد البلد جو كئيب جو ملغوم .. مهدد بالأنفجار في كل لحظة ..!
وتنادى الشباب للبحث عنه ..
لأول مرة يختفي العريس , والعروس مصمودة ..!
وعند المساء ظهر العريس سلامي .. ومعه الشباب ..
وكان معه عبدالله راعي مواشي البلد .. كان هو والمواشي في الأسر في كوبنية اليهود .. !
يحاولون منذ سنوات الأستيلاء على مراعي البلد ..
فطار سلامي وهاجمهم ,وأجبرهم على إخلا ء سبيله وإرجاع مواشي البلد الى أصحابها .
فعادت افراح الى ديار إم الشوف .
يما – يا ولدي – إم الشوف حنين , في شغاف القلب جمرة ..!
يما – يا ولدي – إم الشوف قلادة ,حباتها زرق تطوق الروح حسرة .!
يما – يا ولدي – إم الشوف دمعات في العين ما بجف ولا مرة .!