لأنني لا أقبل أن أُقزم: غادرتُ… لأنني ما عدت أحتمل النفاق!
بقلم: رانية مرجية | الرملة، حزيران 2025
تاريخ النشر: 20/06/25 | 18:19
غادرتُ الكثير من الأمكنة، لا لأنني فشلت، ولا لأنني ضعيفة، بل لأنني رفضت أن أُهمَّش في حضرة الرداءة. غادرتُ عندما اكتشفت أن الصمت عن الغش يُسمّى نُضجًا، وأن التواطؤ صار حكمة، وأن ازدواجية المعايير تُمارس بلغة باردة تحت عناوين براقة: “السياسة”، “المصلحة”، “الاحتواء”.
غادرتُ… لأنني شعرتُ أني أقف بين بشر يحترفون التملق أكثر مما يحترفون العمل، وأن أكثرهم صوتًا هم أولئك الذين لم يقرأوا كتابًا في حياتهم إلا إذا كانت فيه صورتهم.
لا مكان للمرأة الحرة في جمهورية النفاق
هل تعتقدون أن المرأة التي تكتب، تصرخ، تجرح وتُجرَح، تُصفق لها المؤسسات؟
أبدًا! تُقصى. تُعتم. تُحاصَر بحجج جاهزة:
“أفكارك متقدمة!”
“نبرتك حادة!”
“اكتبي بشكل ألين…”
ألين؟ ألين من ماذا؟ من الكذب الذي يتقنونه؟ من الفساد الذي يزينونه؟ من العلاقات العامة التي يبنون بها جدران المجد على حساب من لا يملكون سوى ضميرهم؟
أنا لم أغادر لأنني ضعفت. بل لأنني رفضت أن أُعامل كالزينة في بيت كاذب. لا أريد وردة تُسقى بالنفاق، ولا منبرًا مُلطخًا بالازدواجية.
أين التقدير الذي يليق بالصدق؟
في كل مكان عملت فيه، كنت الأصعب، والأوضح، والأكثر رفضًا للمجاملات. وكنت أعرف الثمن.
كنت أكتب فتصيب كلماتي نخاعهم. كنت أتكلم فتسيل الدماء من كلماتهم الملفقة.
لكنهم لم يقولوا يومًا: “رانية قالت الحقيقة”، بل قالوا: “رانية صعبة”، “رانية لا تُساير”، “رانية مزاجية”.
لا، لست مزاجية. أنا فقط لست متورطة في صفقات التقدير الزائف.
الغش يرتدي بدلة، والنفاق يتكلم باسم الوطن
ما أقبح أن ترى الغش يُكافأ، والنفاق يُرقّى، والحق يُعاقب.
رأيتُ بأمّ عيني شهادات تُمنَح لمن لم يكتبوا سطرًا واحدًا، ورأيت مقالات تُسرَق علنًا، وتُنسب لأسماء “مرضيّ عنها”، فيما تُخزَّن مقالاتي في الأدراج لأنها تفضح المسكوت عنه.
رأيت كيف يتحدثون عن العدالة وهم يتواطؤون على تهميشك فقط لأنك تقولين: “لا”.
كيف يوزعون الدعوات والجوائز على أصدقائهم، ويقولون لك بعدها: “أنتِ فوق الجوائز”.
أي فوق؟ فوق الخداع فقط، نعم.
لا… المغادرة ليست ضعفًا، بل تمرّد
غادرتُ كثيرًا، ليس لأنه لا مكان لي، بل لأني لا أقبل أن أكون في مكان لا يحترمني.
تركتُ مؤسسات ثقافية، ومشاريع أدبية، ومراكز اجتماعية لأنني لم أشعر بالتقدير. لأنني وجدتُ نفسي أحارب من أجل مجرد الاعتراف.
غادرتُ لأنهم يريدون من المرأة أن تبتسم، لا أن تقول الحقيقة. أن تكتب القصائد الرومانسية، لا أن تفضح القبح.
وأنا الآن؟ حرة… ونظيفة
اليوم، أنا لا أعمل تحت وصاية أحد، ولا أكتب من أجل إعجاب أحد، ولا أنتظر شهادة من لجنة تتحكم فيها المعارف الشخصية.
أكتب لأن كلمتي حرة.
أصرخ لأن صوتي ليس للبيع.
وأغادر… كلما شعرت أن حضوري يُستخدم لرفع أسهم من لا يستحقون.
أنا لست عابرة في حياة المؤسسات. أنا نار إذا دخلت، إما أن تطهّر، أو تُحرق.
في النهاية، أقولها بوضوح:
أنا لا أبني مجدي من تصفيق المنافقين، بل من صمتي المليء بالكبرياء بعد المغادرة.
غادرت لأنني لا أقبل أن أكون ديكورًا في مسرحية يُديرها الكذابون.
غادرت… نعم. وهذا بحدّ ذاته قوة، لا ضعف