تشعبات التيه .!
تاريخ النشر: 21/06/17 | 13:02تشعبات التيه .!
قرأت خبر إعتقال صديقي القديم صبري العارف ,ودخوله السجن, .فاجتاحني حزن شل ًّ كياني ..ورماني الى ماضٍ , كانت ذاكرتي قد تختطه من زمن طويل .
إنه أبن حارتي ,وصديق طفولتي ,وأول شبابي ..
في السنة النهائية للسنة الأعدادية, أنتقل مع أمه وإخوته للأقامة في عكا ,بعد ان مات أبوه في حادث طرق ..
أن أمه عكاوية الأصل , تزوجها أبوه ,بعد أن كان على معرفة بأهلها .. منذ ان كان طالباَ يتلقى العلم في جامع الجزار. .
وهو أول من عرفنا بجريدة الإتحاد .. ولم نعرف جريدة قبلها ..
ولما سألناه عن مصدرها ,قال إنه يحضرها من عكا ,من عند أخواله .
وكانت المرة الأولى التي سمعنا فيها ,أن هناك بلد إسمها عكا .!
ولما سألناه عن مكان وقوعها ,أجابنا أنها بجانب البحر ..
إننا سمعنا عن البحر في حصة الجغرافية ,ولكن أعيننا لم تراه .!
فأطلقنا عليه لقب العكاوي فالتصق به ..فأحب هذا اللقب وارتاح إليه..
فأصبح ” يلبس ” تاجين يمتاز به عنا : أمه من عكا , ومعه جريدة الإتحاد .!
في أحد الأيام خرج من البيت باكياَ بحرقة ..ولما سألناه عن السبب ,بعد أن خفًّ تشنج نحيبه .
أجاب مقاوماَ البكاء ,الذي عاد إليه من جديد – إن عمه ضربه .. وضرب أمه ,بعد أن حاولت منعه ,من ضرب ابنها .
وأما سبب الضرب ,فكان توزيع جريدة الإتحاد في البلد ..
وكانت المخابرات, قد أبلغت مختار البلد, بعظم الحدث, وطلبت منه توصيل التحذير, الى أصحابه , فقام ” بواجبه ” .!
وبذلك لبس تاجاَ آخر – حربه مع المخابرات .!
وله أم تقف الى جانبه .
انتظرت أمه حتى أنهى الإعدادي , فأخذت أولادها الأربعة ,وانتقلت لتسكن بجانب أهلها في عكا, بعد ان ضاقت ذرعاً بمضايقات أعمامه .
وانقطعت أخباره عنا , إلا من نتف كانت تصلنا عن طريق أبناء عمومته ,الذين كانوا يزورهم بالأعياد والمناسبات . أو كنا نلتقي به عند مرافقة لأمه ,في زياراتها النادرة لأقربائه في البلد .
عرفنا منها .انه انضم للحزب الشيوعي رفيقاً .. وانه أكمل تعليمه في بلغاريا ,ضمن بعثة طلابية للحزب هناك .
ومع مرور الوقت .. غاب عن ذ اكرتي ..
بعد مرور عدة سنوات على عملي كمعلم , رافقت طلابي في رحلة الى منطقة الشمال .. وكان من محطاتها ,زيارة جامع الجزار في عكا .
وبينما كنت أتجول مع طلابي, في رحاب المسجد ومعالمه , منسطين الى شرح مرشد الرحلة ,وإذا بي أشعر بوقع خفيف على كتفي , حولت وجهي الى الخلف لأتبين الأمر . فاصطدمت عيناي
بشاب , ذو عينين صغيرتين ,تغوران في وسط وجه واسع البياض, تزينه لحية سوداء .
جمال ..! صاح وهو يصب علي سحر عينيه .
لن تعرفني ..! أنا مجيد .. العكاوي..!
فغرقنا في أحضان بعضنا ..
تأكدت من أنك مجيد ,بعد ان سمعت طلابك ينادونك بإسمك ..تابع كلامه .
وأكمل وهو يشدني الى الخلف : تعال لأعرفك بشيخي وصديقي الشيخ عبد الله ..
أحسست أن بمتابعته للحديث , دون إعطائي فرصة للنطق بكلمة واحدة , انه لا يريد الأنزلاق للخوض في أحداث ماضيه و ماضينا معاّ , ولا الحديث عن سر تحوله الى حاضره ,في التقرِّب الى الدين .
إن الشيخ عبدالله , كان تاجراَ كبيراَ للمخدرات , فأهتدى , وتاب الى الله , وتفرَّغ لعبادته , ويقضي معظم أوقاته في المسجد .. وأصبح واعظاً له الكثير من المريدين .
استمر بالحديث , مستغلاَ المسافة التي سنقطعها ,من صحن المسجد الى داخله ,حيث يجلس الشيخ عبد الله .
وعندما دخلنا المسجد , واقتربنا من الشيخ , قام وقفاً , وعندما حييناه , حيانا بأحسن منها.
وعندما جلسنا الى جانبه قال :
يا شيخ صبري عرِّفنا بصاحبك المحترم .!
انه صديق قديم وعزيز , من بلد أبي ..! رد صبري بلهجة ترحيبية.
ان صاحبك – يا أستاذي المحترم – كان شيوعياّ ملحداَ , فأهداه الله وتاب , ورجع الى الإسلام .!
رفع صوته عالياً موجهاً حديثه إلي ..
فوجهت سهام نظراتي باتجاه صبري , فوجدته يتقلًّب ,في خجل وحرج.
فابتعدت عنهما , مغادراً المسجد , مبرراً تصرفي ,بأنني لا أستطيع ترك الطلاب مع المرشد لوحده .
وبعد ذلك علمت, أنه لم يكمل تعليمه في بلغارية , بعد أن أقنعه الشيخ ,أنه حرام أن يدرس العلم في بلاد الكفر !
فترك الجامعة , ورجع الى عكا ليصب على يدي الشيخ عبدالله .ولم تؤثر به حسرات أمه وآهات إخوته .. ولم تجد توسلات أخواله .
التقيت بخاله في إحدى المناسبات في البلد , فقص علي قصة بداية تعرفه على الشيخ :
أول مرة إلتقى بالشيخ في بيت عزاء لإبن خاله , الذي وافته المنية في ريعان الصبا , بحادث طرق مروع .
سمعه أول المرة , يصول ويجول في مواطن إبليس , وجهنمات الكفار والعاصين .. وعقابهم في الدنيا والآخرة ..وثواب التوبة .. فسحرته الموعظة ,فلازمه طيلة أيام العزاء , يشرب من كاساته حتى ثمل.
فلحقه الى المسجد ,بعد ان أدمن على سحر كلامه .
وبعد سنوات عدة, كنت أتصفح إحدى الصحف, فاصطدمت بخبر في صفحتها الأولى :
” أعتقلت الشرطة أعضاء عصابة لتجارة المخدرات من سكان مدينة عكا , وكان على رأسها مجرم مخضرم في تجارتها , كان يمارس جرائمه تحت ستار الدين ,متخذا من المسجد مكاناً , ينطلق منه ,هو وعصابته, لنشرها بين الشباب والمدمنين عليها .”
كان منهم صبري العارف .. صديقي القديم ..!
قصة بقلم : يوسف جمّال – عرعرة