صور وذكريات
تاريخ النشر: 29/06/17 | 10:08حماري يغني للوطن.!
سمعت حماري يخرج نهيقا بألوان وأشكال مختلفة , تارة يعلو حتى يصل عنان السماء ,ويخبو بحيث تكاد لا تسمعه تارة اخرى. يتموج ويتناغم, يتسارع ثم يتباطأ, ولما لم أعد اقدر على سماعه ,وكادت “طبلة” رأسي ان تنفجر, توجهت اليه لأخرسه ,وأتبين سبب طربه المفاجئ. وعندما رآني قادما بإتجاهه, بدأ ينغِّم “غنائه” ,ويتلاعب بصوته, وكأنه يريد ان يقول لي, أنني سأستمر في عمل ذلك ,حتى ولو ان الأمر لا يحلو لك .
ولما وصلت إليه سألته بأعلى صوتي, محاولا التغلب على قوة صوته:
– ماذا تفعل أيها الجحش المجنون! هل ركبك شيطان بصورة مفاجئة!؟
فاجاب بعد ان بذل مجهودا كبيرا, في تدفق صوته الجارف:
– اني أغني للوطن !
– تغني للوطن !؟ أيها الحمار اللعين .!؟
– ولماذا لا أغني للوطن!؟ هل الوطن لكم وحدكم يا بني آدم.!؟ اليس الوطن ملكا للجميع!؟ قال محتجا ومؤنبا.
– طبعا للحمير أيضا.! صرخت مستهترا هازئا.
– قل ما شئت. . فهذا الوطن عشنا فيه ,منذ ان خلقت الحمير على وجه الأرض..وربما لم يتعب مخلوق في بناءه , مثلما تعبنا- نحن معشر الحمير.!
– ولذلك تغني له.! قلت وقد بدأت مقاومتي لمنطقه تضعف.
– نعم نحن نحبه ونغني له ,كي نعبر عن قوة الإنتماء التي نشعر بها إليه ! أنظر الى اليهود في هذه الدولة , كيف يجتمعون بمناسبة ,وبغير مناسبة ,يغنون لكل بقعة من بقاع الوطن ,من منابع الأردن حتى إيلات.. لكل منطقة أو موقع له أغنية الخاصة.!
– انهم لا يحبون هذا الوطن أكثر منا ,! قلت مدافعا
– ولكنهم يعبرون عن هذا الحب ,أكثر منكم انتم العرب.. أهل هذه البلاد! قال بحرقة وحسرة.
تركته ..وأسئلة كثيرة, أثارها هذا الحمار في تفكيري: ماذا يعرف شبابنا وأطفالنا وشيوخنا ,عن نهر الأردن وبحيرة طبريا واللجون والروحة و!؟ وماذا نعمل من أجل ان نعمق انتمائنا إليها !؟ وماذا نعمل من أجل ان نقرب تفاعل الانسان الفلسطيني ,مع هذه “الأعضاء” من جسم الوطن الدامي.!؟ ان هذا الجحش بالرغم من أنه سلاله الحمير ,وجد الغناء طريقة من أجل تنمية الانتماء لهذا الوطن. فتعالوا لنغني له, نكتب لمعالمه أشعارا وأغنيات .. ونلحنها ونغنيها ألا يستحق ذلك.!؟
حماري يحافظ على البيئة.!!
أخرجت حماري من بيته ,ووضعت عليه “حلسه” وخرجه ,وملأت الخرج ببقايا مواد بناء ,أردت التخلص منها, وتوجهت أبحث عن مكان أرميه فيه, لأرتاح منها.
ولما وصلنا الى طرف غابة ,وتفحصت المكان ,لأتأكد من خلوه من حراس ومراقبي الطبيعه,أوقفت الحمار , نزلت عنه, وتقدمت من الخرج ,واخرجت منه أول قطعة باطون وألقيتها على الأرض –
“والله لا يوريكم” الذي حدث.. بدأ حماري يرفع رجليه ويرفس “بالمجوز” ,ويخبط برجليه ,ويحرك رقبته بعنف مخيف ,أما جسمه فصار يموج نحو الأمام والخلف ,مثل “قربه المخيض” .
فأسرعت بالإبتعاد عنه, لأنه حماري , وإني وأعرف جيداَ ماذا يحدث لي, لو بقيت بجانبه .! وانتظرته حتى يهدأ, ويخرج من هذه الحالة المخيفة.
– ما الذي فعلته.!؟ ما سبب غليانك !؟ ألا تريد ان تقلع عن هذه الجحشنة !؟ سألته وقد بدأت حالته تنتقل إلي.
– سببها ,عزمك على رمي هذه النفايات في الغابة.! رد وبقايا الغضب ما زالت ترافق كلامه.
– ولكن أنت ما شانك!؟ أرمي أينما شئت. وفي أي مكان أريد.! قلت مصمما على الدخول بمعركة معه.
– وكلامك عن حب الوطن…والإنتماء .!؟ قال متحديا.
– وما دخل حب الوطن هنا!؟ إنك تهذي.! قلت رادا بتحد أكبر من تحديه.
– من يحب لا يشوه حبيبه. ومن ينتمي الى شيء لا يدنسه.!؟ أطلق علي رصاصة قاتلة من سلاحه.
– أنت أيها الحمار اللعين, تريد ان تعلمني حب الوطن, والإنتماء اليه.! قلت محاولا التخفيف من هزيمتي ,التي بدأت تتماثل امام عيني.
– إنه وطني مثل ما يكون وطنك.. وأجدادي استوطنوه قبلكم يا بني البشر. ونحن نحبه ليس أقل منكم .. قال بعد ان تأكد أنه في طريقه الى النصر.
– ألا ترى أنك تبالغ في علاقتكم بهذا الوطن.!؟ قلت ,وقد بدأت أبحث عن ملاذٍ ,لأحتمي به من صدمه الهزيمة.
– إنظر إلينا مثلا ,أننا عندما نرعى لا نأكل العكوب والزعتر والأزهار ,وغيرها من النباتات المهددة بالإنقراض. أننا نحافظ عليها ,قبل ان تسن دولتكم “الموقرة “قوانين حمايتها! قال وهو يلملم غنائم النصر ,الذي فاز بها.
– ولكن “دولتنا” استولت وصادرت ونهبت ,معظم الأراضي ,ولم تبق لنا إلا القليل.! خرجت مني كلمات مهزومة.
– إنها – يا سيدي- تنهب الأراضي..ولكنها لم تنهب الوطن..وإذا كان الوطن جريحا أننثر الملح على جراحه.!؟ وان كان ينزف أنشرب من دمائه.!؟
فهربت من أمامه, وركبت على ظهره ,وتركت له مهمه البحث ,عن مكان نرمي به حمله.
حماري يحتفل بيوم الشجرة.!!
وفي اليوم التالي ,دخلت عليه محاولا تجاوز, ما حدث أمس , وإصلاح ما إعوج من علاقتنا معا ,وإرجاعها الى سابق عهدها. فوجدته واجما واستقبلني بفتور استنتجت منه أنه.. “ليس في نفسه” ان يتحدث معي.
فتوجهت الى الباب, قاصدا مغادرة بيته ,وإذا بي اسمع صوته, كأنه خرج من بئر محبوس في داخله دهرا:
– “يا سيدي” ..ألا تعرف ان غدا هو “يوم الشجرة”.!؟
فأدرت جسمي باتجاهه ,وبعد لحظة احتجتها, كي استوعب سؤاله أجبته:
– نعم أعرف…ولكن لماذا تسألني هذا السؤال!؟
– ألا تستحق أرض وطننا ,ان نزرعها بالأشجار.!؟ قال لائما مشددا على كلمة وطننا صدى لمواجهة أمس.
– نعم تستحق أكثر من ذلك بكثير! أجبت مجاريا كلامه.
– يا سيدي – كما تعلم- نحن معشر الحمير ,لا نؤمن بالأقوال والخطابات وقصائد الشعر الرنانه ,إننا نؤمن بالعمل !! قال وكأنه يعد العدة ليبدأ هجوم اخر.
– ماذا تريد مني الآن!؟ قل بسرعة !! قلت مفهما إياه أنني غير مستعد لمواجهة جديدة معه.
– أريد منك ان تقتني أشتال أشجار, لنزرعها على سفح الجبل .
– أمرك – يا سيدي- الحمار العظيم.!! قلت كمن تنفس الصعداء, بعد ان تخلص من “علقة” ,كان سيقع فيها…
وفي اليوم التالي ,بينما كنا نحفر الحفر لنزرع الأشتال ,وإذا بسيارة جيب خضراء تقف الى جانبنا, وينزل منها رجلان ,عرفنا- بعد ذلك – أنهم من جمعية حماية الطبيعة:
– ماذا تفعل هنا.!؟ سألا باستفزاز.
– اننا نزرع الأشجار ,بمناسبة يوم الشجرة !! أجبتهما بكلمات توقعت أن أنال رضاهم بها.
– إنك تخالف القانون أيها الرجل! قال أحدهم متوعدا.
– هل أصبحت زراعة الأشجار جريمة في دولتنا الخضراء!؟ أجبته والدهشة والإستنكار, تستوليان على كياني.
– إنك دخلت أرضا ليس ملكك, وغيرت فيها أشياء يخالف عليها القانون.! قال ممهدا السبيل لإجراءات عقد العزم على اتخاذها.
– ولكن هذه الأرض ,كانت دائما مشاعا فيها انتفاع متبادل , للذين يسكنون فيها وحولها!
كان كل هذا الجدل يحدث, والحمار رافعا أذنيه يستقبل كل كلمة فيه, ولما طلبا مني ان أرافقهم الى مركز الشرطة ,نبهتهم انه لا يمكنني ان أترك حماري ,هكذا وحده في البرية ,
فتقدم أحدهم منه, محاولا لمسه وملاعبته واستدراجه, كي يسير خلفه ,ولكنه كعادته في هذه الحالات ,ظل متجمدا كأنه صخره من صخور حوران.
ولما يئس من تحريكه راجلا ,اعتلاه راكبا, وهنا انتقل الى وضع “الجفلة” ,حيث بدأ يحرك جميع أعضاء جسمه بعنف شديد ,الى كل الإتجاهات: قوامه الأربع, رقبته ورأسه وذيله, فبدأ جسمه كأنه ساحه معركة, لجيوش لا يفرق الواحد منها بين العدو الصديق.
وكانت نتيجتها ,أن رمى الحمار مسؤول حماية الطبيعه أرضا. فتحول جسمه الى قطعة ملتهبة من الآلام.
وبت ليلتي في السجن, أزرع الأشجار في سهول وجبال جهنم, وأيام كثيرة سأقضيها في انتظار, ما ستحكم علي محاكمهم “العادلة”, من أيام سجن او “جزية” من المال لا أملك منه إلا أقله.!
أما حماري فقد كان راضيا عن نفسه, لأنه حافظ على تاريخ الحمير, الزاخر ببطولات الدفاع عن الوطن.!
بقلم يوسف جمّال – عرعرة