حليمة (2)
تاريخ النشر: 09/04/17 | 11:40كان عصام يجلس في المقعد الامامي إلى يمين سائق سيارة الأجرة، بينما كانت حليمة تجلس في المقعد الخلفي وراء السائق… كان الشارع مزدحما بالسيارات ويكاد يكون معتِما، باستثناء اضواء السيارات المسافرة في الاتجاه المعاكس، سيما عندما اصبحت السيارة على المشارف الجنوبية لبيروت، واصبح السير مكتظّا. كانت الأضواء تلمع في عينيّ السائق فتُغشي بصرَه المرة تلو الاخرى،. ولعلّ هذا هو السبب الذي فوّت عليه فرصة تجنّب سيارة نقليات كبيرة، داهمت سيارتَه من الجهة اليمنى الامامية فكان حادث طرقٍ مروّع اودى بحياة عصام، وادّى الى إصابة حليمة ونقْلِها وهي فاقدة الوعي، في سيارة اسعاف الى “مستشفى ام الخير”(اسم مستعار)، وهو الاقرب الى مكان الحادث. سارع الاطباء الى فحصها محاولين إسعافها وانقاذ الجنين. فاتضح للأطباء أمران: اولهما ان إصاباتها غير قاتلة رغم هول الحادث، وثانيهما انها تحمل في أحشائها جنينين على الاقل، مما استدعى تدخلا جراحيا مباشرا، فأجريت لها على الفور عمليةٌ قيصرية تكلّلت بالنجاح، مسفرةَ عن إخراج ثلاث طفلات خُدَّج سالمات(اي توائم ثلاث (Triplets.
أخذت حليمة تستعيد وعيَها تدريجيا. كانت تهذي بكلمات تعذّرَ على الاطباء والممرضات فهمها، فتقرّر تنويمها كوسيلة لإستقرار وضعها الصحيّ. لكن عندما افاقت بعد بضع ساعات ، بَدَت كمَن لا يعي أين هو، ثم ما لبثت ان ادركت انها في مستشفى بعد حادث طرقٍ، فسألت على الفور: “أين عصام؟”. تلعْثُمُ الممرضاتِ ولغةُ أجسادِهن، كانت تشي بالمصيبة، فصرخت حليمة بملء صوتها: ” هل مات عصام؟”. لم تسمع جوابا نافيا، فاصبح الشكُّ لديها يقينا واخذت تلطم وجهها. سارعت الممرضات الى تهدئتها بينما كان نحيبها يملأ ارجاءَ الغرفة، إن لم يكن ردهات المستشفى باكملها…
إنفعالُ حليمة الشديد زاد من الألم الذي كانت تشعر به في بطنها. ظنت للوهلة الاولى انها تعرضت لإجهاض، لكنها عندما انتبهت للضمادات، أدركت ان عملية قيصرية قد اجريت لها. ارادت ان تستفسر من الممرضة، فبادرت الى استدعائها بواسطة الجرس الكهربائي المثبت بسريرها… اصطنعت الممرضةُ ابتسامةً وهي تزفُّ اليها خبر التوائمِ الثلاث. لم تبدِ حليمة ردَّ فعلٍ، فبدت كـأنها لا تستوعب تزاحمَ الأحداث حولها. لكنَّها ما لبثت ان قالت بصوت كسير وكأنها تخاطب ربَّها قائلة: “حِلمك يا الهي. أيتْمٌ من الابوين ومن الجدّين، وهجرةٌ قصرية، وترمّلٌ، وامومةٌ لثلاثة اطفال في آن واحد؟ لماذا تلقي على كتفيّ الضعيفين كل هذه المسؤوليات؟ وكيف استطيع تحملها؟”. لقد اكتسب هذا السؤال بعد مرور ايام قليلة، معنى اخطر، وذلك عندما تبيّن لحليمة ان محفظة المدخرات التي كان عصام يحملها عندما غادرا بيتهما في حيفا، قد فُقِدت اثناء حادث الاصطدام.
حاولت حليمة ان تتمالك نفسها وتشدّ من عزيمتها وتقهر إحساسها باليتم واللجوء والترمل والعوَز، معتبرةً ذلك ماضيا ينبغي ان لا يَنسف المستقبلَ الذي ترغبُه لنفسها ولبناتها. لكنها كانت تدرك ان الرغبة شيء وتحقيقها شيء آخَر. تحقيقُ رغبتها في صنع مستقبل مُرْضٍ لها ولِبَناتِها، يتطلب منها الخروج الى العمل. لكن من سيرعى الصغيراتِ ويهتم بهن ويوفر لهن سقفا تستظللنّ به؟… ارادت حليمة لبَناتِها ان تنشأ كلٌّ منهن في احضان اسرة محبّة وميسورة الحال توفّر لكلٍّ منهن حياة كريمة وتعليما لائقا ومستقبلا مريحا. كانت حليمة تدرك جيدا ان هذه المواصفات تتوفر عموما لدى الأسَر المتبنيّة، فوافقت على عرضٍ تقدمت به العاملةُ الاجتماعية في “مستشفى ام الخير”، ووقَّعت بيدٍ مرتجفة، وهي تجهش بالبكاء، اتفاقيةً رسميةً بهذا الخصوص، رغم معرفتها بالبند الذي لا يجيز لها معرفة اسماء وعناوين العائلات المتبنِّية، بل يمنعها حتى من محاولة التعرف عليها…هذا الوضع آلَمَ حليمةً كثيرا خصوصا بعد ان علمت ان العائلات المُتَبنِّية تحملت تكاليف إقامتِها في المستشفى، فبدا الامر وكأنه صفقة تمَّ إبرامها، فشعرت بمهانة لا تُحتمَل وبألَمٍ يحزُّ قلبَها .
لكن رغم كل ذلك، شعرت انها قد احسنت القرار، سيما وان ادارة المستشفى طلبت منها مغادرة المستشفى بعد ان استقر وضعُها الصحي، فباتت تبحث عن مسكن يأويها، وعن عمل يضمن لها لقمة العيش.. كانت حليمة تدرك ان هذين المطلبين المتواضعين: المأوى ولقمة العيش قد اضحيا امرين صعبيّ المنال في دولة كلبنان كانت تنوء آنذاك بفيض من اللاجئين وبنسبة عالية من البطالة. وهكذا عندما اقترحت عليها إحدى الممرضات اللواتي كنّ يتابعن قصتها ويتعاطفن معها، العملَ كخادمةٍ مقيمةٍ في بيت السّت بديعة في منطقة الاشرفية في بيروت، لم تتردد في قبول هذا العرض الذي سيوفر لها المسكن والراتب في آن واحد…
ودَّعَت حليمة الطاقمَ الطبي الذي اعتنى بها، ثم استقلت سيارة الاجرة التي ارسلتها اليها الست بديعة. كانت حليمة خاويةَ اليدين باستثناء شنطة صغيرة بها بعضُ الملابس ووثيقةٌ تحريرها من المستشفى، التي توجز فترةَ إقامتِها هناك. شعرت وكأنها تُبحِر الى عالم المجهول. كانت غارقة في افكارها ودموعها، فلم يسترعِ انتابهَها شيءٌ من المناظر التي على جانبي الطريق. كانت تتحسر على ما آلت اليه اوضاعُها، فلم تشعر بمرور الوقت، إلا عندما قال لها السائق: “لقد وصلنا”.. ترجلت من السيارة، فبدت امامها عمارة متعددة الطوابق… وقفت تُجيل النظرَ فيما حولها، ريثما تمكَّنَ السائقُ من ركن السيارة، ثم تبعتْه باتجاه باب العمارة الرئيسي المؤدي الى المصعد. رفّ قلبُها عندما رأت السائق يضغط على الرقم 6 فتداعت الذكريات الى بيتها في الطابق السادس في عمارة آل سلام في حيفا، والى حيفا البيت، والى عصام والجدين الشهيدين و..و… فاستولى عليها من جديد، إنقباضٌ لم تبدّده ابتسامةُ الست بديعة وهي تستقبلُها وتعرّفُها على البيت تاركة لها فرصة الاستراحة في الغرفة المعدَّة لها. لكن هيهات لكتلةٍ ملتهبةٍ من المشاعر ان تهدأ وتستريح. فما ان اقفلت الباب خلفها، حتى القت بنفسها على السرير، مطلقةً العنان لدموعها المتدفقة…
حاولت حليمة، بعد موجة بكاء خالٍ من نحيب مسموع لئلا تزعج الست بديعة، ان تستعيد قواها وتتمالك نفسها. تناولت منديلا ورقيّا لتجفيف دموعها فحانت منها التفاتةٌ الى الحائط المقابل لسريرها، فرأت منظرا هزّ مشاعرها..
فماذا رأت حليمة؟ وماذا كانت أبعادُ ذلك عليها ؟….عن ذلك وغيره ساحدثكم في الاسبوع القادم…
د.حاتم خوري