المرعى والغزاة …
تاريخ النشر: 28/09/15 | 16:55بدأت ترانيم أجراس الماعز,التي تستظل تحت الخروبة , تتعالى الى الأعالي مبشرة بالأذان , الذي سينطلق بعد لحظات من مئذنة مسجد القرية . شمر الشلفاوي عن ساعديه , دخل المغارة ,وملأ ابريقه وانتحى جانبا , مختفيا عن عيون غنماته , وبدأ يتوضأ محضرا نفسه لصلاة الظهرمن يوم الجمعة , ولما انتهى من وضوئه , توجه للقبلة يكبر للصلاة ,فلفت السكينة والسكون المكان , توقفت أجراس الماعز عن الرنين , ولم تعد تسمع به لا ثاغية ولا لاغية .
توقف عن صلاة ظهر الجمعة في المسجد , لأن الكثيرين من أهل البلد ,تذمروا من رائحة الغنم التي تفوح من جسمه , فقرر ان يصلي – صلاة الجماعة – مع عنزاته , فوجد في ذلك راحة لنفسه , وشعر انها أصبحت أقرب الى خالقه .
وسمي” بالشلفاوي” لأنه كان يستعمل يده اليسرى في القيام بمعظم أعماله وحاجاته, حتى ان أهل البلد نسوا اسمه الأصلي,لأنهم لاحظوا انه يرتاح لسماع هذا الأسم, ولا يطالب بمناداته بغيره . أما المغارة فكانت بيته وبيتا لأغنامه الشتوي, تحميه من رطوبة الشتاء وبرده , اما الخروبة فكانت ظلا لهم , تحميهم من حر الشمس الملتهبة في أيام الصيف, وفي لياليه تهمس بنسمات طرية , تطرب النفس وتنعشها. ” خطيتي برقابكم يا أهل البلد .. ان تدفنوني بعد موتي بالقرب من باب المغارة تحت الخروبة! ” كان الشلفاوي يوصي ما كل يلتقيه من أهل البلد قبل موته.
ما زال أهل البلد يذكرون ,يوم قادت دورية الشرطة, في أيام الحكم العسكري, جماعة منهم الى قبره تحت الخروبة ,وأمرتهم بحفر قبره وأخراج جثته منه , وأعادة دفنها في مقبرة القرية .
كان ذلك اليوم ” حابس ” ,أفرغت فيه السماء كل بحارها وأنهارها على الأرض, و”احتفلت” مع “الشلفاوي” في جنازته الثانية.
لم يرافق نعشه في جنازته ألا القليلون من أهل بلده , معظمهم ” هربوا” من رائحة الغنم التي تفوح منه .. وكان يعلق على هذه الظاهره في أثناء حياته قائلا .. “ان رائحة الغنم هي أحلى رائحة وأحبها الى الله .. أنبياء كانوا رعيان..!؟”
كان يقطف بيده أطراف أغصان السريس الغضة بيده ,ويناولها لغنماته ” فتغفها” من يده لتمضغها بلذة .. ” ما بتعرف انه هذا ممنوع ..!” سمع صوتا ياتي من ورائه , “قطع الشجر البري ممنوع.. قلنا لك هذا ألف مرة ..!” أكمل الجندي تهديداته .
” هذا ممنوع على البشر ,أما للغنم مسموح ..!” رد عليه وهو مستمر في أطعام السريس الطري لغنماته .
كانوا خمسة من العسكر ” تراطنوا ” بلغة لم يفهمها , ولما اتفقوا انهم يلاطمون الصخر ,ركبوا سيارتهم وانسحبوا وتركوه مع عنزاته .
في أحد أيام الربيع المشمسة ,كان كعادته يرعى غنمه , وأذا بزعيق فرامل سيارة, يقتحم السكينة التي كانت تخيم على المكان, وأذا بأحدهم ينزل منها, ويصوب بندقيته باتـجاهه .
” أقتلوني..!أقتلوني.. !ولكن تأكدوا أنكم لن ترتاحوا مني.. حتى بعد موتي ..!عظامي ستبقى غصة في حلوقكم.!” قالها متحديا ومتوعدا .
انزل الجندي بندقيته ,واقتادوه الى مقر حاكم القرية العسكري. ولما وصل الى ساحة المقر , اصطدمت عيناه بمئات من الرجال من أهل القرية ” منشورين ” في ساحة المقر ” تقليهم ” نار أشعة الشمس الملتهبة , كل منهم ينتظر دوره كي يدخل عند الحاكم, لعله يحصل على تصريح يمكنه من النفاذ من الحصار العسكري, المضروب حول القرية , ليتمكن بواسطته , من ايصال مريض, يكاد ان يقتله المرض الى طبيب , أو يحصل به على بضع ايام عمل ,” ينقط “في حلق أطفال له يكاد أن” يقتلهم ” الجوع, أو يستطيع به الوصول الى حقله التي استحصدت غلته , ويمنعه الحصار العسكري من الوصول اليه.
” أرفع يدك وحيي علم دولتك ..!!” صاح به أحدالجنود الواقفين عندما وصل ساحة المقر,وهويشيرالى العلم المرفوع على سطح البناية . ” ألا تفهم ما أقول لك ..!!؟” أكمل الجندي مهددا , عندما رأى ان أوامره قد أصطدمت بصخرة جامدة لا تتحرك .
كانت عيون جميع الواقفين تنصب باتجاهه, وبأتجاه العسكر الذين يقفون حوله, منتظرين عما سيسفر عنه هذا المشهد من نتائج.. تقدم منه أحد الجنود قاصدا ضربه بهراوة كانت بيده, فأوقفه آخر وهو يقول : ” أتركه انه لا يهمه الضرب, انه مثل التيوس التي يرعاها ..!” .
ولما أدخلوه الى غرفة الحاكم العسكري صاح به :” مرة أخرى أنت ..!؟ كل يوم أنا بدي اشوفك !؟”واكمل متوجها الى الجندي الذي أدخله ” ماذا فعل هذا اللعين في هذه المرة .!؟”
” منعنا من اعتقال الحطابات, أشغلنا حتى هربن منا .!” رد الجندي شاكيا .
” أخرجوه..أبعدوه .. لا لأريد أن أرى وجهه !! ” صاح بالجندي . “ماذا نصنع به يا سيدي !؟” سأله الجندي .
“أبعدوه عني واصنعوا به ما شئتم ..أريد فقط ان تبعدوه عني!” رد بصوت سمع من مسافات بعيدة .
رموه في معتقلهم عدة أيام , فأخرجوه بعد ان يئسوا من الوصول معه الى شيئ ,ورجع الى عنزاته اللوتي كن ينتظرنه.
وما زال أهل البلد يذكرون قصته مع المتسللين, الذين قرروا المخاطرة والعودة الى بيوتهم في بلدهم, بعد ان جربوا مرارة الغربة في بلاد الشتات .
كان “الشلفاوي” يرعى غنمه بالقرب من الحدود التي فرضتها قوات الجيش , وتطلق النار على كل من يحاول من أهل البلاد ,العودة الى بيته الذي تركه مجبرا, واذا به يرى مجموعة من المتسللين تجتاز الحدود , ولما كان قد راى قوات من الجيش تتجول في المنطقة ,تأكد انهم اذا استمروا بالسير متجهين الى البلد, سوف يقعون في الفخ الذي عادة ما ينصبونه لهم, ويكون مصيرهم الموت المؤكد, فقرر ان يحاول انقاذهم , وكما كان يفعل عادة في مثل هذه الحالة , تقدم منهم وأشار لهم بيده ,ولما اقتربوا منه, ناول كل واحد منهم جلد عنزة ,كان يستعملها فراشا لمغارته ,وطلب منه ان يغطي بها رأسه وظهره , فانحنوا بين الغنمات , ومشوا معها حتى وصلوا الى بيوتهم في البلد .
اما قصة قبره فلها روايات بمقدار الألسن التي ترويها.
يقول حسن السعدي:” جفاني النوم في ليلة قمرية ,فتوجهت الى المقبرة لأقرأ الفاتحة على قبر أبي, الذي كان قريبا من قبر الشلفاوي ,فرأيت مشهدا لن أنساه أبدا , رأيت قبر الشلفاوي يتصدع وينشق, ويخرج منه رجل ذو جناحين ويطير عاليا في السماء , ولما عدت بعد أيام ,وجدت القبر كما هولا أثر لتصدع أو انشقاق , فازددت دهشة واستغرابا , فحبست الأمر في سري, خوفا من اتهم بالتخريف والجنون .”
أما سعاد الهلال فتقول :”في ليلة القدر, صعدت الى سطح بيتنا تقربا من الله , فرفعت يدي وعيني الى السماء , فهالني ما رأيت .. رأيت رجلا له جناحان يطير فوقي في السماء , فاعتقدت ان هذا ملاك الله, نزل ليحقق امنيات عباده المؤمنين.”
اما جابر الحسن فيقول :” كما تعلمون فقد اتخذت من مغارة” الشلفاوي” وخروبته مأوى لي ولغنمي بعد مماته , وبينما كنت جالسا تحت الخروبة , أسهر مع غنماتي , واذا بطائر كبير ,لم أشاهد مثله من قبل , يهبط من السماء على قبر الشلفاوي , ولما أمعنت النظر فيه, لاحظت انه انسان له جناحان , حفر تراب القبر بسرعة البرق , وتمدد في القبر , وهال على جسمه التراب الذي حفره حتى دفن نفسه تماما. ولما أفقت من الصدمة , تأكدت من ان الشلفاوي رجع الى بيته , فقمت من مكاني , وتقدمت من القبر , وقرأت الفاتحة عليه , ومن ثم رتبت حجارته كما كانت قبل ان ينبش من قبل قوات العسكر ,حين أجبروا أهل البلد ,على نقله الى مقبرة القرية ” .
أما محمود الجبلاوي فيقول : ياأهل البلد.. قولوا عني مجنون ..!! اني على يقين , ان الشلفاوي سيخرج من قبره , “ويلحق” عنزاته ويعود الى مغارته وخروبته !!
يوسف جمال -عرعرة