بدر شاكر السياب 1925-1964
تاريخ النشر: 04/05/15 | 10:57عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السَّحر
أو شرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبْسمانِ تورق الكروم
وترقصُ الاضواء كالأقمارِ في نهر
العيونُ نوافذُ الجسد، وشَفْرَتُهُ التي تحملُ خفايا وأسرارِ الجسد، وهي التي تبوحُ بما لا تستطعهُ الألْسن، أحياناً. فما أكثرَ العيونَ التي تَعلَّقَ بها شاعرُنا المتَيَّمُ، وما أكثرَ اللياليَ التي قضاها ساهراً سامراً مع عيونٍ أرهقتهُ وقضَّت مضْجعهْ. “هويلة”، أم “وفيقة”، أم “إبنة الجلبي”؟ أم من غير بني الجلدة؟
لا شك أن السَّيابَ كان مرهف الحس، عاشقا للجمال. فقلبه الغضُّ يخفق، و تسارعُ ضرباتُه حينما يباغتهُ الطرف الآخر، ولكنْ – على ما يبدو- لم يحالفْهُ الحظُّ في الارتباط بمن اجتاحت نسائِمُهُ سهولَها، فتزوج من إحدى قريباتِه، وكان زواجاً تقليدياً من ترتيب الاسرة؛ وكانت الزوجة خير رفيقٍ في حياته، سواء في حال صحته، أم حال مرضه ومعاناته حين كان يصارع الموت في كل حين.
يُعتبرُ ونازك الملائكة من رواد التغيير في مجال الشعر. فقد شهد عام 1948 تحولاتٍ كثيرةٍ في جسد الوطن العربي، أدت في مجملها الى فرض تغييرات كثيرةٍ تنادي بالحرية والتحرر من حياةٍ تقليديةٍ رتيبةٍ جثمتْ على صدر العرب طويلا. لحقت نيرانُ التغيير ثوبَ الشعر العربي التقليدي، فانبرى البعض بالسير على نهجٍ جديد يختلف عن نهج الفراهيدي ومدرسته، ودعَّم ذلك التغيُّرُ الانفتاحَ على الأدبِ الغربي( الإنجليزي والفرنسي) والتأثُّر به. فبرز هنا ما يسمى بشعر التفعيلة، وأخذ يسري في وجدان الكثير من أصحاب الأقلام الأدبية. البعض يرجِّحُ بداية شعر التفعيلة الى آخرين سبقوا
السياب والملائكة؛ د. لويس عوض وعلي أحمد باكثير.
اعتبر الوسطُ الادبي المحافظُ والتقليدي آنذاك هذا الضَّربَ من الشعر نَسْفاً لما تربَّوْا عليه من ابداع ضمن قوالبَ وأوزان دقيقة تضربُ جذورها في أعماق الأدب. فتعالت الاصوات رافضة هذا اللون من الشعر، بينما أيَّدهُ آخرون ممن اعتبروا الشعر العمودي بمثابةِ الكابح لجماح تحررهم وانطلاقتهم نحو الابداع. فهي عملية- في نظر الغير- ايجابية رغم غرابتها.
مما كتبته نازك الملائكة: “في عام 1962 صدر كتابي هذا وفيه حكمْتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف الى أقطار الوطن العربي ولم أكن يوم أقرَرْتُ هذا الحكمَ أدري أن هناك شعرا حرا قد نُظم في العالم العربي قبل 1947 سنةَ نَظمي لقصيدة الكوليرا، ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ 1932 وهو امر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعدُ تلك القصائد في مصادرها. وأن أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي باكثير ومحمد فريد أبي حديد ومحمود حسن اسماعيل وعرار شاعر الاردن ولويس عوض وسواهم. ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر شاكر السياب للشاعر بديع حقي وهذا مطلع منها:
أي نسمة
حلوة الخفق عليلة
تمسح الاوراق في لين ورحمة …الخ”.
ونستطيع القول أن تلك التغيرات في الشعر العربي قد شجعت الكثيرين على خوض غمارها ومنهم على سبيل السرد لا الحصر عبد الصبور وعبد المعطي حجازي. فالسياب قد تجلى وأبدع في الكتابة بطريقة التفعيلة وقد قدَّم للقارئ الكثير من روائع ومذهبات الشعر أمثال: شناشيل بنت الجلبي/ فجر السلام / قيثارة الريح / حفار القبور / انشودة المطر ، وغيرها الكثير. كما قدم ترجمات نثرية و شعرية منها ترجمته لبعض قصائد الشاعر التركي ناظم حكمت.
” إن السياب رمز شعري وأدبي متميز ترك ارثاً لافتاً متصلاً بثورته الشعرية وريادته لنمطٍ وشكلٍ شعريٍ كان أحد رموزه ومؤسسيه”.( الكاتب والإعلامي علي حسين، مدير تحرير صحيفة ” المدى “.
رغم ابداعه في مجال الشعر الحر شكلا ومضموناً في تناول الهمِّ المحلي والعربي، هل كان السياب متفاعلا مع ما يتضمنه شعر الغرب؟ لربما الإجابة هنا تأتي على لسان سمير عطا في جريدة الشرق الاوسط تحت عنوان” انشودة الشعر وديوان الحزن”:
(عاش بدر الى فترة جزءاً من حركة شعر في بيروت. غير أن شعره ظل غنائياً. وفيما يتأثر الآخرون بشعراء الحداثة في الغرب، روحاً والقاً وإمالة نحو النثر، يبدو أنه لم يتاثر إلا بنفسه، ولا خرج من عالمه العروبي الموشّى بالتعب وأعالي النخيل. ولقد أحببت شعره الذي يجدد ذاته في النفوس مثل جميع أعمال الرواد. وأرجو أن أُسامحَ على رأيٍ شخصيٍ وذائقةٍ ربما مخطئة، ولكن بدر كان شاعر العراق في القرن الماضي، كان الشعر يأتيه ويخرج عنه كما يهطل المطر على الأرض ويطلع منها في شكل زهرة أو فراشة. انشودةَ الشعر والمطر كان السياب، وديوان الحزن العربي”.
قضى السياب عام 1964؟ بعد أن أقعده المرض في إحدى مستشفيات الكويت، ونقل الجثمان النحيل الى البصرة تشيعه السماء بدموع منهمرة، ربما لتغسله من ادران الدنيا وحطامها وتقدمه طاهرا نظيفا الى دار الحق.
يونس عودة/ الاردن