من تجلّيات الاستعمار
تاريخ النشر: 26/01/15 | 11:22انه من الواجب التأكيد مجددا على أن تحميل الاستعمار كل ما يحصل لنا هو خطأ وتشويه للصورة الواقعية تماما كما يحدث عندما نُحمّل أنفسنا وشعوبنا كل ما يحصل. ولكن كيف يتجلّى الاستعمار؟ وأين يمكننا أن نراه؟
“الاستعمار هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب منظم لثروات البلاد المستعمرة، فضلا عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة”. اذا ما نظرنا الى واقعنا واستعنّا بالتعريف أعلاه، يمكننا أن نجد تجلّيات كثيرة للاستعمار. ان من أولى خطوات الاستعمار هو تصنيف دول العالم حسب قواها، فتلك دول عظمى تملك حق “الفيتو”، وتلك دول العالم الأول وأخرى دول العالم الثالث. ان هذا التقسيم الطبقي يضع العالم العربي بأكمله في العالم الثالث، فكأنها وصمة لازمت عالمنا العربي وأنّى له أن يتحرّر منها.
ورغم غنى الوطن العربي بالثروات الطبيعية كمثل النفط، الا أننا لا نجد لمثل هذه الثروات استثمارا داخليا وانما يتمّ بيعها بأسعار زهيدة الى دول “العالم الأول”، ولربما يحصل البائع بالمقابل على أسلحة حديثة. مثل هذه الصفقات هي من أوضح تجلّيات الاستعمار، اذ أن ثروات البلد تُهدى أو تُباع ولا يتمّ تشغيلها في عجلة الانتاج المحلية، وتزيد الهِبة التي يحصل عليها البائع من عمق الاستعمار، اذ يأتي السلاح وتأتي الأجهزة المتطوّرة من الخارج ولا يُبذل أي جهد في محاولة انتاج أمثالها.
وهكذا يهدي وطننا العربي أغلى ما يملك لدول “العالم الأول” وعلى طبق من ذهب ويظنّ نفسه حذقا أو ذكيا عندما يأخذ بالمقابل أجهزة أو أسلحة حديثة في حين أنه يجعل من الوطن سوقا استهلاكيا يبيع فيه المُسيطر ما يُنتج. انه يُبقي الوطن العربي مُستهلكا و”العالم الأول” مُنتجا، وبطبيعة الحال فإن من يستمسك بالإنتاج سيحافظ على قوّته وريادته وسيبقى المُستهلك رهينة عنده يسعى وراءه كلما أراد منتجا جديدا. والمُنتج يملك أسرار المعرفة التي تُمكّنه من انتاج ما أنتج وهو يسعى دائما الى تطويرها كيما يُحسّن ويطوّر من انتاجه، أما المُستهلك فإنه لا يحتاج الى هذه المعرفة لأن عجلة الانتاج عنده واقفة وبالتالي ستبقى معرفته حبيسة النظر. واذا ما استمرّ هذا الحال فلن تكفّ الفجوة عن التعمّق والترسّخ، فـ”العالم الأول” سعيد بسيطرته على سبل الانتاج والعالم الثالث يأخذ ما يصنعه له الآخرون “على المتريّح”.
ويتبع هذا الخضوع للإنتاج الخارجي منّاً وغسيل دماغ، فالمُستعمِر يمنّ على المُستعمَر بما يصنعه له ويُعطيه ذلك الشعور أنه عالة على الأمم، متجاهلا (ومستغلا غفلة دولنا العربية) دوره الأول في سرقة ثرواتنا. واذا ما بلعنا تثبيط العزائم هذا، فإن عملية غسيل الدماغ تستمرّ في تثبيت الاستعمار، ليبدأ القوي يقنع الضعيف أن نهجه (نهج الضعيف) وأسلوب حياته هو غير صحيح على الإطلاق مما يُعطيه احساس بالدونية تجاهه، وأن أسلوب حياة القوي هو الأمثل وهو الأنجع والإثبات هو الواقع (القوي يمُرّر الرسالة الآتية: لو لم أكن أنا على حق، لما رأيت علومي مزدهرة وحضارتي وثقافتي في أوجها). عملية غسيل الدماغ هذه قاتلة وبالغة الأثر، وهي كذلك لأنها لا تأتي بشكل جلي، وانما متخفيّة مُقنّعة تتسرب الى لا وعي شعوبنا من خلال أشياء كثيرة كالإعلام، والقلة هم من يكونون واعين لتأثيرها. انه عندها يظهر الاتباع والتقليد الأعمى لثقافة المُستعمِر من استنساخ نمط الحياة الغربي الى الركض وراء قصات الشعر وماركات الملابس.
محمود صابر زيد
ماجستير في علم النفس