واحد قهوة وتنين سكر وواحد ساعة من الحرية

تاريخ النشر: 01/10/12 | 17:50

لا احد يعرف قيمة الحرية إلا الذي يفقدها، وكثير من الأشخاص فاقدي الحرية يصابون بالتعاسة وهم لا يعرفون أن سبب تعاستهم هو عبوديتهم لكل شيء من حولهم، فأنا مثلا، كنت أتمتع بمساحة كبيرة من الحرية قبل سنوات عديدة إلى أن تزوجت وأصبح عندي أطفال، وفي نفس الوقت أعمل لست ساعات في وظيفتي كسكرتيرة في مركز طبي يضم عدة تخصصات طبية في مجال الطب النسائي والعيون والجلد والأنف والأذن والحنجرة والطب العام.

أبدأ ممارستي للعبودية من اللحظة الأولى لاستيقاظي.. ترن ساعة المنبه بصوتها المدوي وكأنها صوت السجان الذي يوقظ أسراه ليبدأ باستعبادهم.. قبل أن أغسل وجهي أضع الحليب على النار، ثم أغتسل، وأعود للمطبخ لأحضر “الزواويد” لجميع أفراد العائلة بما فيهم أنا، وبعدها أحضر الفطور للجميع وطبعا بما فيهم أنا، وبمجرد انتهائي من ذلك، أمر على جميع أفراد العائلة- باستثنائي- لأوقظهم، وخلال تناولهم الفطور أكون قد حضرت لهم الملابس النظيفة والمكوية، وعندما يرتدونها، أتناول فطوري، ينطلق الجميع إلى أهدافهم، فيتبقى لدي وقت قليل لأجهز نفسي للانطلاق إلى العمل.. أصل للعمل قبل خمس دقائق، أرتدي الروب الأبيض، وخلال ست ساعات من الدوام، أستقبل المرضى على جميع أنواعهم وأشكالهم وأعمارهم، أسجل هذا وأشرح لذاك أنظم أوقات الزيارات القادمة وأتلقى المكالمات، بالإضافة لتحضير المشروبات الساخنة للأطباء المناوبين، وكل له طلبه الخاص، فهذا يحب النيسكافيه مع الحليب وبدون سكر، وهذا بدونها ومع سكر، وذاك القهوة العربية المهيلة، وتلك الشاي مع الليمون.. وهكذا.. ثم أعود إلى البيت وأستكمل ما بدأته في الصباح، أسخن الطعام الذي حضرته للغذاء، وأقدمه لأطفالي، ثم أجهز الغذاء لزوجي الذي يصل بعدهم بساعتين، أتناول غذائي بسرعة وأبدأ بمساعدة أطفالي على واجباتهم المدرسية، انتهي من كل ذلك، فيخرج أطفالي للعب مع أترابهم، وزوجي يأخذ قيلولة العصر، فأبدأ بتنظيف البيت وتحضير وجبة خفيفة للعشاء لجميع أفراد العائلة بما فيهم أنا، وما أن ينتهي يومي من العبودية حتى أشعر بانهيار تام، باختصار لا يتبقى من يومي دقيقة واحدة من الحرية فحتى في نومي تراودني أحلام تتعلق بواجباتي تجاه الآخرين، لم اكتشف فقداني للحرية في سنواتي الأولى من الزواج وعندما علمت أن سبب كآبتي هو ما ينقصني من الحرية، قررت أن امنح نفسي كل يوم ساعة واحدة من الحرية على الأقل.

يتوجه أولادي إلى المدرسة البعيدة نسبيا عن البيت عند الساعة السابعة صباحا، ويبدأ دوامي في العمل عند الساعة الثامنة، انهض من فراشي عند الساعة السادسة احضر لهم لوازمهم واحضر نفسي للذهاب إلى العمل وفي الساعة السابعة أكون قد وصلت إلى مقهى “نيتسه” في الهدار وهناك، اقضي ساعة كاملة بحرية تامة دون أن اشغل بالي في عملي أو في بيتي، فأطلب واحد قهوة مع معلقتي سكر وساعة من الحرية.

يوما بعد يوم أصبحت أدمن على هذه العادة وبدأت اشعر بأني مرة أخرى عبدة لشيء جديد، لكني لم أكن مستاءة من هذه العبودية فهي باختياري وتجلب لي سعادة ما.

في أيامي الأولى التي بدأت بها أتعاطى القهوة مع الحرية، جاءني بائع متجول من المناطق الفلسطينية المحتلة، من الذين يطوفون بين المقاهي والبيوت يبيعون أغراض مختلفة، غالبا ما تكون مزيفة ورخيصة جدا مثل الساعات والأقلام والأدوات الكهربائية البسيطة.. عرض البائع بضاعته، فلم يعجبني شيء منها ولفت نظري حزمة من الدفاتر عليها غلاف “تشي جيفارا”، فسألته ما هذا؟ فقال لي: إنها دفاتر للكتابة، وعندما انتبه بأنني استحسنت الصورة قال لي: “خذي هذه الدفاتر وليكن هذا استفتاح، أنت زبوني الأول”.. وكان يشعر براحة وهو يتكلم معي بالعربية وسط مدينة حيفا.. فقلت له: ما حاجتي للدفاتر؟

– اكتبي عليها أي شيء.

– ماذا اكتب، فأنا اعمل سكرتيرة

– اكتبي مذكراتك (قال وهو يبتسم)

– أنا اهرب من الذكريات ومن كل ما يربطني بهذه الدنيا أريد ساعة من الحرية..

– تجلسين هنا لوحدك.. ساعة من الزمن وتشربين القهوة فقط؟!

– نعم..

– انه مكان جميل ولو كنت مكانك لاخترت ذلك الكرسي في الزاوية، فهو مكان استراتيجي، تستطيعين من خلاله مراقبة كل المارة، والزبائن من حولك وتدونين كل شيء في دفاترك هذه.

– يبدو انك بائع شاطر، فرغم انك لم تقنعني بكلامك إلا أنني سأشتري هذه الرزمة من الدفاتر تشجيعا لك..

ناولني الرزمة واخرج من جيبه قلما وقال: هذا هدية مني لتكتبي ملاحظاتك، ابتسمت له شاكرة، سألته ما اسمك ومن أين أنت؟ فقال: جبر من طولكرم..

سار الشاب إلى رزقه، بدأت افتح الدفاتر وأتأملها، غلاف أنيق وصفحاته البيضاء مغرية جدا للكتابة ولم اشعر إلا وأنا اكتب تاريخ اليوم وما حدث مع هذا البائع ومن يومها بدأت هذه الصفحات تمتليء بالملاحظات والقصص والحوادث التي أشاهدها من ذلك الكرسي الذي اختاره لي البائع وها أنا انتزع بعض الصفحات المميزة وأقدمها لكم مع فنجان قهوة وملعقتي سكر ولا مانع من سيجارة إذا كنتم تحبون ذلك.. فأنا أترك لكم الحرية الكاملة في تناول أي شيء..

بقلم:مبسون اسدي

‫4 تعليقات

  1. عزيزتي ميسون

    شرح وافي وتجسيد متقن لحياة المرأة العربية العاملة

    فنعم لفنجان قهوة مع ساعة من الحرية كل صباح

    بدلاً

    من شربه في السيارة وقت القيادة

    يا ريت موجود مثل هذه الكرسي الموجودة في زاوية المقهى

    نحن شعب نعمل لنعيش لا نعيش لنعمل……

  2. كلنا عبيد! وكل منا مسؤول عن عبوديته!

    شكرا لميسون أسدي على هذا النص الجميل وشكرا لبقجة على نشره.

    قرأته فأثار بي من المشاعر ما تناقض ومن التساؤل ما يكفي ليشوقني الى ما سوف يكتب لاحقا. فقد انتقلت من شعوري بالتضامن مع هذه الام العاملة-الموظفة وعن ساعاتها الصباحية المحملة بكم كثيف من النشاطات الصغيرة، والتي وصفتها بدقة تمكننا من تخيلها في حركة شبه متواصلة ولكنها لا تخلو من رتابة. أقول انتقلت الى شعور يرفض طرحها لانه يخلو من التطرق للآخر، ابناءها، زوجها، مرضاها، ….. فهي من هذه الناحية تنتقل من النقيض الى النقيض، من الام والزوجة المتفانية، الى امرأة Egocentric – مركزية الانا لا تنظر الا بعينيها ولا تفكر الا بنفسها.

    فنحن من خلال هذا النص لا ندر كيف قابل اولادها او زوجها صنيعها، هل شكروها على ما قدمت لهم؟ هل رأوا بذلك محبتها لهم وكافأوها بالمحبة؟ هل يشكرها مرضاها على حسن معاملتها لهم؟ على تفهمها لمشاكلهم الصحية؟ وما نوع العلاقة بينها وبين الاطباء؟ هل هم ممتنون لها على مساعدتهم في تنظيم وقت دوامهم؟ في انها تفسح لهم المجال لمعاينة مرضاهم بشكل كاف؟ وتضمن خدمات طبية لائقة؟ كل هذا لا نعرفه من النص الحالي ويبقى ينتظر الاجابة مع العديد من الاسئلة التي امتنع عن ايرادها في هذا الوقت.

    أعجبني انها وجدت الطريق لتدخل بعض التغيير في روتينها وذلك لسببين اساسيين:
    1. ان هذا ما أدى بها الى الكتابة والتواصل معنا في نهاية المطاف
    2. لأن الوقت محدود امامنا جميعا ويبقى الشيء الاساس هو “ماذا نفعل بهذا الوقت المحدود؟” والحكمة، ان نأخذ الوقت، او كما اقول عادة، ان نسرق الوقت ونخصصه لما نراه مهما، ننجز فيه ما نحسبه ذا أولوية الآن، على حساب امور أخرى. فنحن هنا امام موضوع شيق يتعلق بتحديد سلم اولوياتنا وتخصيص الوقت لانجازها.

    في وصفها للقائها مع البائع الكثير من الايحائية: فلماذا هو من الضفة؟ ولماذا صورة تشي جيفارا؟ ولماذا كان البائع هو من ارشدها الى مكان جلوسها والى موضوع مهمتها الكتابية: مراقبة الشارع والمارة؟

    لا اريد ان اطيل الا ان في البال اسئلة وفي المخيلة مشاهد نجح هذا النص في تعويمها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة