عندما أعددت مختارات من الشعر الفلسطيني
تاريخ النشر: 05/01/15 | 8:19مقدمة عن الشعر الفلسطيني
*********************
ارتأت هيئة تحرير مجلة مواقف أن تصدر عددين خاصين يضمان مختارات من الشعر الفلسطيني في مختلف مواقع، وذاك تحت عنوان “شعراء فلسطينيون ما زالوا يكتبون”.
وقد عهدت إلى هيئة التحرير –مشكورة- أن أشرف على إصدار القسم الأول، بحيث لا يتجاوز عدد الشعراء خمسة عشر: خمسة منهم مقيمون في الجليل والمثلث. وخمسة منهم في الضفة والقطاع، وخمسة آخرون في الشتات الذي لا بدّ له من نهاية.
….
ولما أن شاعرنا محمود درويش يشارك في هذه المحاور الثلاثة –بصورة أو بأخرى- فقد جعلت العدد ستة عشر مبتدئَا به لكونه شاعرًأ محليًا، و”شاعر الوطنية” كما وصفه الشاعر يوسف الخطيب.
…
أعترف أن المهمة ليست يسيرة، إن لم تكن جسيمة او خطيرة، فقد ذقت على جلدي معنى أن يُذكر هذا ويعتّم على ذاك، وعرفت حساسية الشعراء التي لا بد منها، وقلت إن هذه المسألة لا يمكن أن تدرك كغاية رضا الناس. فكان اختياري ذوقيًا محضًا في ظرف معين وفي وكد معين، يرفد ذلك سبب أو أكثر مما سأتناوله في هذه العجالة.
وقد سبق لي أن اخترت ست عشر قصيدة لستة عشر شاعرًا من الداخل فقدمتها وحللتها، وقلت في مقدمة كتابي “قصيدة وشاعر”:
“… غير أنني لا أنكر أن هناك شعرًأ آخر يستحق أن يكون في هذه الإضمامة…. مدركًا أن هناك حسانًا أخر”.
كان يحضرني في اختياري لهذا العدد قول لعزرا باوند أتملاه كثيرًا:
“الشعر نوع تشحن فيه الكلمات فوق مستواها العادي، ونوع تطرح فيه الصور على الخيال المرئي، ونوع يرقص فيه العقل بين الكلمات” (مجلة سطور. عدد 41، ص 104)، وكل هذه أمور نسبية لا تحديدية. ويعلم الله أنني انتقيت هذه الأسماء بسبب سيرورة أشعارهم، وكثرة ما كتب عنهم، وبسبب انتهاجهم الحداثة على اختلاف صورها، وكذلك بسبب استمرارهم في العطاء الأدبي فكرًا ونشاطًا وأداء.
…..
ثانية أعيد القول: ثمة شعراء آخرون أهل للإشادة بمجهودهم، والإشارة على مردودهم، ولكن لا بد لحجم المجلة من حد.
ولم أسلك – كما قال ابن قتيبة- “فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من استحسن باستحسان غيره” أو استبعد شعرًا لأن غيره استهجنه.
***
أما اختياري -شخصيًا – ضمن المجموعة فقد يسبب لي حرجًا، لكن كرم المحررين حنا أبو حنا و د. فهد أبو خضرة أصر على ألا أغمط نفسي، وبدعوى أن غيري ممن اختار مختارات هنا وهناك كان قد جعل لنفسه حظًا كسلمى الجيوسي وزكريا محمد وطراد الكبيسي وعلى جعفر العلاق ومحمد بنيس وهلمجرا- الأمر الذي حفزني على اختيار قصائدي.
فأرجو أن أكون ضيفًا وأنا المضيف، وإلا فلن يخسر هذا القارئ المنكر المستنكر شيئًا إن تجاوز عن صفحات قصائدي.
***
في اختياري –كما ترون- لم أكتف بقصيدة واحدة لكل شاعر، بل عمدت الى اختيار بضع قصائد للشاعر الفرد، حتى تُستجلى صورة عامة لأسلوب كتابته ولنزعة التجديد والتجريب لديه، ومدى الحداثة في الكشف والإضافة فيه. ولا مشاحّة أن الاختيار بحد ذاته مهمة عسيرة خبِـرها جدّي أبو تمام من قبل.
إن ما يدعوني إلى مصاحبة الشعراء من المواقع الثلاثة يعزف على الأوتار التالية:
…
• إن هذا الشعب هو واحد- على الصعيد الاجتسياسي- فالشجرة الباسقة نبتت فيها ثلاثة فروع وظلّ أصلها ثابتًا، نسغه التجربة والمعاناة، وسيظل فرعها في السماء شامخًا مهما تناوحته التدابير والأعاصير.
……
• إن الشعراء في مواقعهم المختلفة يمتحون من الحداثة، كل ودلوه التي يغترف بها، فلا بد أن تكون هناك إشارات أو نظرات مشتركة – تاريخًا- وجغرافية ولغة- حتى ولو كانت الاتجاهات الوجودية الفلسفية، ثم إن “ما بعد الحداثة” تحول دون هذه الأطر أو النمذجة المفترضة.
….
• إن الشعراء الفلسطينيين يستطيعون –انتماء- أن يكونوا رافدًا يصب في النهر العربي الذي يجري دفاقًا في الأدب بزخم لا يعادل سيرورة الحياة العربية وصيرورتها حداثيًا –الأمر الذي يصوغ صورة لها خطوطها وخيوطها ضمن النسيج العام.
***
هذه القصائد –بمجملها- فيها توتر إيقاعي، والتكرار فيها يؤدي نغمة موسيقية أسيانة، كل شاعر كان “الراوي الشاعر” لديه يتدفق في أفكار ومشاعر، ويصور الأشخاص والأصوات والمواقف، يقطر اللحظة آنا، وآنا يثرثرها، ويستخدم الديالوج والمونولوج والمونتاج وما إلى ذلك.
بعض الشعراء كانت غنائيتهم مألوفة رغم التكثيف هنا وهناك، وذلك بسبب صدقهم إزاء المكان وفي التعبير عن الألوان، بعضهم لجأ إلى “سيدنا” كنعان، فأخذ يحاولا ويداور، ولبس أكثر من لبوس إمعانًا في الانتماء.
…
شعراؤنا هنا – شأن الشعراء الفلسطينيين- نتاج الحساسية الجماعية التي عانت وذاقت على جلدها كل هزة، فاذا كانت ثمة ضرورة للمباشرة، فلا ريب أن هناك أيضًا احتيالات للخروج عنها وعن التقريرات، فالشاعر صياد يبحث عن السمكة الذهبية التي يغني لها، ويرقص مع دنوها، ويفكر في ضياعها، بل يبكي عليها في شجن.
…
وحتى يظل الشاعر حداثيًا هنا في انطلاقته وبوحه فإنه يحاول أن يخفف من حدة التركيز الحاد الذي تفرضه الأبعاد الوطنية والقومية، وصولاُ إلى الفلسفية، لذا فإنه يستخدم التراث، ويستحضر التاريخ حتى يبعث تاريخًا آخر- هو أزهى وأبهى. إنه يجترح الماضي بمفرداته وقاموسه فيعابثها، ويراوغها ليراكم المعرفة الجمالية المستجدة، وليتغلغل في المستقبل، وقبل ذلك ليقدم شكوى الحاضر أمام نفسه أولاً، وأمام الزمن.
…
إذا قرأنا القصائد –بمعنى قرأناها- فلا ريب أن هناك الكثير من المؤتلف بينها، والمختلف فيما بينها، وهذه دلالة فعالية وإبداع.
…
يقول أحمد دحبور –إن الشعراء، في كل موقع كالجزيرة المستقلة، ولكنها من قارة واحدة “لوحتها شموس واحدة، وجرت فيها الأنهار ذاتها….” (الكرمل، العدد 45، ص 190).
إذا مضينا في هذا التشبيه، فليس لنا إلا أن نتدارس طبيعة كل جزيرة، أو نرتادها وفقُا لرغائب رحلتنا الأدبية، وقد تكون الجزيرة مفردًا، وقد تكون جمعًا، لكنها تظل واحة البحر.
أمتعكم الله بها، وجمّل لكم الإقامة فيها!
…..
*مقدمة عدد مجلة مواقف الخاص بالشعر الفلسطيني- العدد 24/25/2000
ب.فاروق مواسي