*تفجيرات سوريا والعبث بأمنها.. جريمة في حقّ الوطن والإنسان*

*الشيخ صفوت فريج* *رئيس الحركة الإسلامية*

تاريخ النشر: 06/07/25 | 15:30

في زمنٍ تتعاظم فيه الحاجة إلى تماسكٍ وطنيٍّ ووحدة صفّ، تأتي حادثة تفجير الكنيسة في سوريا كطعنةٍ غادرة في خاصرة الوطن، ومشهدٍ جديد من مشاهد العبث بدماء الأبرياء وترويع الآمنين. هذا الفعل الإجراميّ لا يستهدف طائفة بعينها، ولا دار عبادة فحسب، بل يضرب في عمق سوريا نفسها، أرضًا وشعبًا، تاريخًا وحضارةً، ونسيجًا إنسانيًّا ضاربًا في العراقة، كان ولا يزال رمزًا للتنوّع الأصيل والعيش المشترك الّذي لن تقدر عليه رياح الفتنة بإذن الله. من قام بهذا الفعل الجبان، أيًّا كان انتماؤه، “كأنّما قتل الناس جميعًا”، مصداقًا لقوله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}.
إنّ استقرار سوريا، وصون أمن جميع أبنائها، مسلمين ومسيحيّين، عربًا وكردًا وغيرهم، لا ينحصر في كونه مطلبًا إنسانيًّا لازمًا، بل هو ركيزة أساسيّة في سيرورة الحفاظ على وحدة البلاد، وحماية هويّتها الجامعة من محاولات التفكيك والتقسيم وإشعال نار الفتنة. فلا سيادة تُبنى على خوف، ولا كرامة تُصان في ظلّ رعب يُزرَع في قلب طفل، أو كنيسة تُفجَّر فوق رؤوس المصلّين، أو بيت يُهدم على ساكنيه. الكرامة والسيادة لا تنبتان في أرضٍ يُروى ترابها بالدم، بل في وطنٍ آمن تُظلّله العدالة، ويحميه العيش الواحد المشترك.
حين هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، عمل على إرساء قواعد الدولة الإسلاميّة، وبدأ أوّل ما بدأ بكتابة “وثيقة المدينة”، وهي أوّل وثيقة مدنيّة في التاريخ، تساوى فيها المسلم وغير المسلم أمام حقّ المواطنة والحماية، ووُضِعَت فيها أسس العدالة والوحدة، رغم اختلاف الانتماء الديني والقومي، وكان قوام الصحيفة قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
إنّ شركاء الأرض والهمّ والمصير لا يلتقون صدفة، بل يتشاركون مسؤوليّة الحماية والدفاع، ويُسنِد بعضهم بعضًا في وجه المخاطر والتحدّيات. الصمت عن الجرائم خيانة للضمير، وتبريرها جريمة أخرى، فالموقف الأخلاقي والإنساني والسياسي والديني لا يمكن أن يتجزّأ، بل يفرض علينا أن نرفض هذه الجرائم بوضوح، ونُدينها بلا تردّد ولا تلعثم. ما حدث في سوريا لا يمكن اعتباره حادثًا عرضيًّا عابرًا، بل اعتداءً آثمًا على الإنسان السوري بكلّ مكوّناته، ومحاولة خسيسة لزرع الفتنة، وتمزيق الصفّ، وتفجير الوطن من داخله، وواجب أهلنا هناك من كلّ الطوائف أن يكونوا سدًّا منيعًا في وجه هذا الانهيار، لا متفرّجين على حطامه، فالفتنة حين تقع لا يسلم منها الصالح ولا الطالح، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً}. قال الزبير رضي الله عنه معلّقًا على هذه الآية: “نزلت فينا وقرأناها زمانًا، وما ظننّا أنّا أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها”!.

*ملاحقات ومحاكمات واعتقال إداري..*

واقع يتكشّف عن وجهه الحقيقي:
ملاحقة الجمعيّات الإغاثيّة ووصمها بالإرهاب، محاكمة الشيخ كمال الخطيب، والاعتقال الإداري للأخ رجا إغباريّة، وملاحقة واعتقال العديد من شبابنا وإخواننا في مجتمعنا العربي، ليست سوى تصعيد واضح لسياسات عنصريّة تنتهجها حكومة فاشيّة تُضيّق الخناق على كلّ صوت حرّ، وترفض أيّ نشاط إنساني اجتماعي مستقل أو خطاب ديني وطني أصيل لا يروق لها.
يأتي ذلك كلّه في سياق أشمل من قمع الصوت، وبما يشمل: هجمة شرسة على النوّاب العرب في الكنيست، استهداف القيادات الوطنيّة والدعويّة، استمرار سياسة هدم البيوت ومسح قرى كاملة في النقب، تزايد الاقتحامات للأقصى المبارك، تواطؤ أجهزة الأمن في تغذية العنف الداخلي وتركه ليأكل مجتمعنا من جوفه، وتصاعد الاعتداءات البوليسيّة المتكرّرة في القدس والمثلّث والنقب والجليل، وسط غياب كامل لأيّ محاسبة أو رادع قانوني. ما نشهده اليوم ليست إجراءات أمنيّة، بل محاولة منهجيّة لخنق الوعي، ونزع الإرادة، وتفريغ الساحة من كلّ من يُحاول إقصاء اليمين الفاشي من الحكم.
لا يمكن النظر إلى هذه الممارسات على أنّها أحداث معزولة عن المناخ العنصري العام في البلاد، أو باعتبارها “تجاوزات فرديّة”، بل هي امتداد مباشر لعنصريّة بنيويّة متجذّرة في مؤسّسات الدولة وأجهزتها المختلفة، تتغذّى من عقليّة استعماريّة، وتُدار بأدوات قانونيّة وأمنيّة مختلّة. وما أشبه ما يجري أمام أعيننا عمّا شهدته جنوب إفريقيا تحت نظام الفصل العنصري، حين كانت السلطة تشرعن التمييز، وتُقسّم المجتمع عمدًا، وتُغذّي العنف الداخلي لتكريس السيطرة. يومها كان “الأبارتهايد” مجرّد كلمة، حتّى صار وصمة على جبين التاريخ. اليوم تتكرّر الأدوات، وإن اختلفت المسمّيات.
تترافق هذه السياسات مع تصاعد غير مسبوق في عنف المستوطنين وتحريضهم الممنهَج، ليس فقط في الضفّة الغربيّة وغزّة، بل في الداخل كذلك، حيث يُعامَل المواطن العربي كغريب في وطنه، ومشبوه في بيته، ومُستهدف في كينونته. ما يجري ليس لحظة اختلال عابرة، بل سياسة مدروسة تُحاول إبقاء مجتمعنا في حالة إرباك دائم، وتفريغ وجوده من مضمونه الوطني والإنساني، لتُحوّله إلى كتلة صامتة، بلا صوت ولا فعل ولا ذاكرة، في مواجهة آلة لا ترى في هذا المجتمع شريكًا، بل عبئًا ينبغي تطويعه أو محاصرته.
ما يعانيه مجتمعنا اليوم هو نتيجة مباشرة لسياسة ممنهجة، وبالتالي لن يتغيّر هذا الواقع إلّا بالفعل السياسيّ الواعي والمنظّم. لقد فهم مجتمعنا هذه المعادلة جيّدًا: أنّ الصمت لم يعُد خيارًا، وأنّ الغضب وحده لا يكفي. المحاسبة السياسيّة قادمة، والفرصة المقبِلة لن تُفَوَّت. فكلّ من كان شريكًا في تعميق البؤس، أو ساهم في تفشّي الجريمة، أو حاول هدم مستقبل أبنائنا، أو ضيّق علينا حقّنا في التعبير والكرامة والموقف، سيُسأل ويُحاسَب حتمًا، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة