النكبة، والأرض الفلسطينية: جدلية الذاكرة والهوية
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 06/07/25 | 15:25
يظل عام 1948 نقطة مفصلية في تاريخ فلسطين والأمة العربية بأسرها، ليس فقط لأنه كان العام الذي شهد وقوع “النكبة” الفلسطينية، بل لأنه أيضا شكل بداية فصل جديد في معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة حتى يومنا هذا. من بزوغ شمس ذلك اليوم المشؤوم، تراكمت أحداث، مصائر، وأحزان شكلت جدلية معقدة بين الماضي والحاضر، الذاكرة والهويات المتشابكة، لا تزال تواكبنا في كل لحظة.
قد يكون من المغري، بل من السهل، النظر إلى أحداث 1948 من زاوية معينة: أن هناك احتلالًا وأرضًا سلبت، وأن هناك ملايين من اللاجئين الذين تشردوا ليعيشوا في الشتات، ومجتمعات طالما كان في قلبها حلم العودة. لكن الحقيقة، تلك التي يجب أن نتناولها بعمق إنساني، هي أن هذه الأحداث لم تكن مجرد تقلبات تاريخية، بل تمثل فصولًا من معاناة إنسانية جماعية مستمرة.
فلسطين في 1948: جرح أعمق من الحدود
أرض فلسطين لم تكن مجرد “رقعة” جغرافية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، بل كانت رمزيةً لوحدة تاريخية وثقافية، حيث تداخلت العائلات والعشائر والأديان في سياق عميق من العيش المشترك. لكن مع ظهور الوعد البريطاني وما تلاه من قرارات دولية، فإن الحدود التي فرضتها الأمم المتحدة لم تكن مجرد خط فاصل بين أمة وأخرى، بل كانت فجرًا لانفصال هوية بأكملها عن أرضها.
عام 1948، احتُلت فلسطين، ومع احتلالها لم تكن خسارة الأرض هي الخسارة الوحيدة. كانت هناك خسارة أعمق: خسارة في الذاكرة، في القيم، وفي الحكايات التي تم نقلها من جيل إلى جيل. تم تدمير المدن والقرى، وتم تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين. كانت الخسارة في الأماكن، في التاريخ، وفي وجود شعب كان يعتقد أنه لن يذوب أو يتلاشى تحت وقع هذه القوى الكبرى.
الضفة الغربية وقطاع غزة: الواقع المرير بعد النكبة
أما الضفة الغربية وقطاع غزة، فكان لهما وقع خاص في هذا السرد التاريخي. فبينما كانت الضفة الغربية تحت الاحتلال الأردني، وكان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، ظل الفلسطينيون في هاتين المنطقتين يواجهون واقعًا مريرًا: العيش في ظل القمع والملاحقة، الهويات التي أصبحت مهشمة بين حبال السيطرة السياسية. كانت الضفة الغربية خاضعة لرقابة مشددة من الجيش الأردني، بينما عانى سكان قطاع غزة من تبعات حكم مصري طالما اعتمد على وعود الحماية والاستقرار.
ومع مرور الوقت، لم تعد هذه الأراضي مجرد مناطق جغرافية. بل أصبحت حيزًا يشتعل بالأمل والمقاومة، وحتى اليأس أحيانًا. غزة، مثلا، أصبحت في الذاكرة الفلسطينية “قلب الثورة”، وحجر الزاوية في محاولة الحفاظ على الهوية الفلسطينية رغم كل الظروف الصعبة.
بين العودة والشتات: معركة الهوية الفلسطينية
اليوم، وبينما نعيش في حقبة تتسم بتغيير الواقع الجيوسياسي وظهور تحولات غير مسبوقة في السياسة الدولية، لا يزال الفلسطينيون يصرون على حقهم في العودة إلى ديارهم. هذا الحق، الذي أصبح بمثابة شعار رئيسي لكل من يواجه التحديات اليومية التي تتراوح بين صعوبات الحياة تحت الاحتلال، وبين معاناة المهجرين في الشتات، ما هو إلا استمرار لشعور لا يموت بالانتماء. فالشعب الفلسطيني لا يتعامل مع وطنه كحق مكتسب وحسب، بل كواجب مقدس يجب الحفاظ عليه مهما كانت الظروف.
إن الذكريات التي تركها النكبة في النفوس، والأحلام التي لا زالت تعيش في قلوب الفلسطينيين في أماكن الشتات، لم تعد مجرد أسطورة تاريخية. إنها واقع شعبي متجدد عبر الأجيال. في الشتات، لم يفقد الفلسطينيون ارتباطهم بأرضهم، بل ظلوا يزرعون في أبنائهم قصة العودة، وتظل القرى والمدن الفلسطينية المحررة بمثابة شرايين حية في هذا الكائن الجمعي.
المرأة الفلسطينية: من رمز الصمود إلى صانعة المستقبل
لا يمكن أن نغفل عن الدور البارز الذي لعبته المرأة الفلسطينية منذ 1948 وحتى اليوم. هي ليست مجرد أم، أو زوجة، أو شقيقة، بل هي رمز الصمود الذي أضاء الطريق للمستقبل. في عام 1948، عندما كانت النكبة تجر أذيالها في مجتمعاتنا، كانت المرأة الفلسطينية هي التي حملت أولادها على أكتافها، واحتفظت بحكايات الأرض، وفتحت أبواب القلوب لاستقبال القادم الجديد من العائلة. كانت هي الحاضنة لتلك الهوية التي قد تكون اختفت في اللحظات الأولى من التشريد.
اليوم، في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزة، أو في ظل المخاطر التي تحيط بالضفة الغربية، لا تزال المرأة الفلسطينية تشهد تحولات مدهشة: من المواطنة المقاوِمة إلى الناشطة السياسية، ومن ربة المنزل إلى المهندسة، الطبيب، وربة العمل. هي التي تزرع في جيليها القادم بذور الأمل، وتعزز شعورهم بالانتماء. في كل زاوية من فلسطين، وفي كل مخيم من مخيمات اللجوء، تتجسد قصص النساء الفلسطينيّات اللواتي سطّرن أمثلة فريدة من القوة.
الخلاصة: فلسطين قضية لا تموت
إن ما يميز القضية الفلسطينية عن غيرها من القضايا في التاريخ المعاصر هو أنها قضية مستمرة، تتجدد مع الزمن. ففي كل فترة، تُعيد الأحداث نفسها، وتظهر الروايات، وتستمر معركة الذاكرة. فلسطين ليست مجرد أرض ضاعت، بل هي قصة شعب أراد العيش بسلام، لكن أُلزم على التمسك بحقه في العيش الكريم.
إذا كانت النكبة قد شكلت بداية لما يمكن أن نسميه “جراحًا مفتوحة”، فإن هذه الجراح قد أسست لوعي جماعي فلسطيني لم يتوقف عن النضال. النضال ليس فقط من أجل الأرض، بل من أجل الهوية، ومن أجل المستقبل الذي يأمل فيه كل فلسطيني في العودة، وفي أن يرى هذه الأرض حرة مستقلة.
ومن هنا، تبقى فلسطين ليست مجرد “تاريخ” بعيد، بل هي فعل حاضر ومصير مستقبلي.