مجموعة خواطر وقصص بقلم: رانية مرجية

تاريخ النشر: 05/06/25 | 16:18

عيدٌ على هامش الوجع
بقلم: رانية مرجية

كل عام وأنتم بخير… أو كما علّمتنا هذه البلاد أن نقول: كل عام وأنتم أكثر قدرة على الاحتمال.

العيد هنا لا يشبه الأعياد التي نراها في الإعلانات، ولا تلك التي ترسمها المسلسلات، ولا حتى ما تحفظه الذاكرة من طفولات بعيدة.

العيد في بلادنا يأتي محمولًا على أكتاف التعب، يخطو بخجل بين ركام البيوت، ويهمس لأرواح الشهداء والأسارى: “سامحوني، مررتُ خفيفًا… لا وقت لديّ للفرح.”

في عيد الأضحى، لا أعرف بماذا أبارك أولًا:

لأمّ تنتظر ابنها الأسير منذ سنين؟

أم لطفلٍ يحلم بخروفٍ من كرتون وليس من لحم؟

أم لذاك الكهل الذي يبتسم كي لا يُقال إنه كسر بهجة أحفاده؟

العيد الحقيقي لا يُقاس بعدد الذبائح، ولا بكمّ الولائم، بل بقدرتنا على أن نضحّي ببعض من أنانيتنا، أن نتذكّر من نسيهم العيد، أن نُربّت على قلب الآخر دون أن نُدينه، أن نكون بشرًا لا مجرد مستهلكين لطقس موسمي.

أنا لا أكتب لكم تهنئة تقليدية، بل أكتب من قلبٍ يعرف أن الفرح في هذه الأرض مقاومة.

أبارك لكم عنادكم في أن تُحبّوا رغم الخراب، أن تضحكوا رغم وجعكم، أن تضيئوا شمعة في ليلٍ لا ينتهي.

كل عام وأنتم أنتم،

بكل هشاشتكم الجميلة،

بكل جراحكم التي لم تفقد أخلاقها،

بكل إصراركم أن تبقوا رغم كل ما يُقال لكم: “ارحلوا.”

وكل عام وهذا الوطن، الذي لا يعترف بالأعياد إلا من نافذة الصبر، يقرّبنا من بعضنا أكثر…

لعلّ قربنا هو العيد، حين لا يكون سواه

_________________

المرأة الأرثوذكسية بين الموروث والحداثة
بقلم: رانية مرجية

في الزوايا المنسية من بيوت الناصرة والقدس وبيت جالا، وفي تفاصيل الأيقونات التي تزيّن الجدران، كانت المرأة الأرثوذكسية دومًا حاضرة… لا كظل للرجل، بل كضوء يُضيء المسار، وكقلبٍ يُقاوم بصمته، ويؤسّس للغد من دون ضجيج.

المرأة الأرثوذكسية، تلك التي عاشت بين الأيقونة والمذبح، بين التقاليد الصارمة والمحبة اللامتناهية، وجدت نفسها دائمًا على مفترق طرق: أن تبقى وفية لموروثها الغني، دون أن تتنكر لذاتها، وأن تفتح نافذتها للحداثة دون أن تنفصل عن جذورها العميقة في الأرض والكنيسة والتاريخ.

ليست الأرثوذكسية طقسًا فقط، بل هي أسلوب حياة.
والمرأة الأرثوذكسية، بتواضعها وصبرها، كانت دومًا العمود الصامت الذي حمى البيت، وسند الرعية، وروح الكنيسة التي لا تراها العيون لكنها تحسّها القلوب.

في موروثها، تحمل هذه المرأة إرثًا ثقيلاً: خيوط المطرزات التي تحكي سيرة القرى، صوت الجدة وهي تهمس بصلاة يسوعية قبل النوم، دموع العيد، ودم الخبز المجبول بالمحبة والرجاء.

لكنها، في الوقت ذاته، لم تكتفِ أن تكون حارسة للتراث فحسب.
لقد بدأت، في العقود الأخيرة، تكتب قصتها بأحرف جديدة. دخلت الجامعات، وتبوأت مراكز قيادية في المجتمع والكنيسة، وأصبحت فاعلة في المجالس والمؤسسات.
لا لتغيّر وجه الكنيسة، بل لتكشف وجهها الأعمق: وجه العدالة، والرحمة، والشراكة.

المرأة الأرثوذكسية ليست محكومة بالنمطية. فهي ليست فقط الأم المربية، أو الراهبة الصامتة، أو العجوز التي تصلي في الصفوف الخلفية.
بل هي أيضًا الكاتبة، والباحثة، والمحامية، والناشطة، والمُعلّمة التي تُربي أجيالًا من الحالمين في مدارس الكنيسة.

لقد خرجت من عزلتها، لا كتمرّد، بل كاستعادة لصوتٍ لم يكن غائبًا، بل كان يُهمَّش.
واليوم، ها هي تتقدم الصفوف في ساحات الكنيسة، لا لتحتج، بل لتشارك.
لا لتهدم، بل لتبني.
ولا لتلغي الرجل، بل لتكمّله كما كانت تفعل منذ قرون في ظل الأيقونة.

لكن التحدي ما زال قائمًا.
فبين موروثٍ جميل لكنه أحيانًا يُقيد، وحداثة منفتحة لكنها أحيانًا تُفرغ المعنى، تقف المرأة الأرثوذكسية اليوم أمام سؤال وجودي:
كيف تحمي جوهرها دون أن تُجمّد ذاتها؟
وكيف تواكب زمنها دون أن تفقد نكهة ماضيها؟

الجواب ليس بسيطًا، لكنه موجود في عيني كل امرأة تقف بثوبها الأسود أمام مذبح الكنيسة، وتشعل شمعة من أجل كل العالم، ثم تعود لتُعدّ خبزًا لأولادها، وتتابع دروس ابنتها، وتكتب ملاحظة لأحد كهنة الرعية تُطالبه بأن يسمع النساء أكثر، لا لأنهن نساء، بل لأن لديهن ما يُقال.

نحن، في المشرق، لا نحتاج فقط إلى الاعتراف بدور المرأة الأرثوذكسية، بل إلى تعظيمه، لأن أي كنيسة لا تُنصف نساءها، لا تُنصف نفسها.
وأي مجتمع يُقصي هذه المرأة، يخسر وجهه الحقيقي.

في لحظات التحول هذه التي يعيشها العالم، تبرز المرأة الأرثوذكسية كجسر بين الأصالة والحداثة، بين الصمت والكلمة، بين التاريخ والمستقبل.
وهي، إن بقيت وفية لذاتها، ستكون مفتاح التجدّد الحقيقي للكنيسة والمجتمع معًا.
__________________
غزة… حين تُغني الجراح بصوت البحر
بقلم: رانية مرجية

كلما ذُكرت غزة، أشعر أن قلبي يغوص في موج متلاطم، لا ساحل له ولا شاطئ. مدينة تحفر في صدري أخاديد من الحنين والحزن والعجز، لكنها في كل مرة تنهض من الركام، كما في الأساطير، كطائر الفينيق، تزيل الرماد عن أجنحتها، وتعلو فوق الخراب.
غزة، يا وجه الوطن المضمّد بشظايا الصواريخ، كم مرة متِّ وقُمتِ؟ كم مرة وُئدتِ في وضح الحصار، ثم تنفستِ من شقّ نافذة في جدار؟
أكتبكِ اليوم يا غزة لا لأنكِ قصة، بل لأنكِ الحقيقة التي نخجل من مواجهتها، أنتِ ضميرنا المصلوب، جرحنا المفتوح، صمتنا الفاضح، وذاكرتنا التي ترفسنا كل صباح.

غزة لا تُكتب كما تكتب المدن الأخرى. لا تصلح معها لغة التجميل ولا مفردات الغزل البارد. هي ليست قصيدة حب، بل عويل أم، وارتعاشات طفل يرتجف تحت بطانية مهترئة في ليلةٍ بلا كهرباء.
غزة لا تعرف النوم، وإن نامت، تنام على زئير الطائرات، وعلى أصوات انهيار البيوت. وإذا حلمت، فإنها تحلم بالنجاة، لا بالبحر ولا بالشِعر.
في غزة، لا أحد يسأل: “ماذا ستفعل غداً؟”، لأن الغد، هناك، ترف لا يملكه أحد. الغد في غزة فكرة افتراضية، مؤجلة على الدوام، مرهونة بهدنة لا تدوم أكثر من نشرة أخبار.

في غزة، لا تمشي الحياة على قدمين، بل على عكاز من صبر، وعلى قلب مكسور يُعاد لَحمه كل فجر بصوت المؤذن، وركعة مقاومة.
في غزة، تقف الفتاة الصغيرة أمام المرايا المكسورة، تسرّح شعرها المتشابك بأصابعها، وتعدّ الأيام حتى يعود والدها من السجن أو الحرب، أو من الغياب الذي لا عنوان له.
وفي غزة، حين يولد طفل، لا يُسأل عن وزنه ولا عن ابتسامته الأولى، بل عن مكان ولادته: هل كانت في بيتٍ مهدم؟ في مدرسة؟ في خيمة؟ أم في حُلم؟
كل طفل في غزة شاعرٌ قسراً، ومقاوم بالفطرة، ونازفٌ دون أن يعرف ما هي الطفولة.

زرتُ غزة مرة، أو هكذا خُيّل لي، عبر ذاكرة صديقتي التي كانت تسكن شارع الوحدة، ونجت بمعجزة من القصف. كانت تحكي لي عن علبة الحلوى التي لم تفتحها، لأن الطيران سبقها، وعن شجرة الليمون التي كانت تسقيها جدتها كل صباح، ثم تسقيها الدموع كل مساء.
قالت لي: “في غزة، يا رانية، نمشي بين القبور كأنها أرصفة. نعدّ أسماء شهدائنا كما تعدّون أنتم أسماء موائدكم في الأعياد”.
فهمت عندها أن غزة لا تتحدث بالعربية فقط، بل بلغة الدم والملح والصبر الأسود.

هل تعرفون ماذا يعني أن تكون غزيًّا؟
يعني أن تتقن فن العيش بلا ماء ولا كهرباء ولا ممرات آمنة، أن تُشعل الشمعة كي تدرس، وتُطفئ الحلم كي تعيش.
أن تحب وأنت تعرف أن من تحب قد يختفي في لحظة.
أن تمشي نحو البحر، لا لتستجم، بل لتصرخ…
غزة ليست معزولة عن العالم، بل العالم هو من عزل نفسه عنها. غزة ليست محاصَرة، نحن المحاصَرون في خذلاننا.
غزة لا تفتقر إلى الحياة، نحن الذين افتقرنا إلى ضمير يُنقذ الحياة فيها.

أكتبكِ يا غزة، لأني أخجل من صمتي ومن عجزنا الجمعي.
أكتبكِ لأنكِ لست مجرد جغرافيا من نار، بل كينونة كاملة من المعنى.
أكتبكِ، لا لأرثيكِ، بل لأشهد أنكِ الحيّة في زمن الأموات.
أكتبكِ لأقول إنكِ لست مأساة فقط، بل مقاومة. لست خرابًا فقط، بل عِمارة من الأمل.
أكتبكِ لأني أحبكِ، ولأن حبكِ وجع، ووجعكِ كرامة، وكرامتكِ لا تُشترى.

في آخر الليل، حين يسكن الضجيج، أسمع همسكِ من بعيد،
يا غزة…
صوتكِ يشبه صلاة، أو صراخاً، أو ربما وطنًا يناديني من وجعه.
وكلما حاولت أن أهرب منكِ، وجدتني أكتبكِ أكثر.
لأنكِ الحقيقة التي لا يمكن نفيها،
ولا يمكن إسكاتها،
ولا يمكن إلا أن نحبها… حتى الرمق الأخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة