هنا ينتهي تمثيلكم
قصة قصيرة بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 10/06/25 | 6:07
في الحارة السفلى من المخيم، حيث البيوت تأنّ من وزن الغياب، لا من وزن الحجارة،
وحيث النوافذ معلقة على صدى صفارات الإنذار أكثر من تعلقها بضوء النهار،
كان الطفل عامر يجمع أوراقاً تطايرت بعد زيارة خاطفة للدبابات، كأنها نسيت بعض أوراقها الرسمية في عجلة القصف.
بين الأوراق المبعثرة، كانت هناك واحدة نظيفة جدًا، لا دم عليها، ولا غبار…
غريبة، كما لو أنها سقطت من طاولة مسؤول، لا من سماء الله.
قرأ عامر بصوتٍ متهدج، كأن الكلمات تخاف أن تُقال:
“ندعوكم لحضور ندوة جماهيرية في القاعة الكبرى، لبحث هموم الناس ومشاكل الحي والمخيم. الدعوة عامة. الدخول مجاني.
بتوقيع: ممثلو الشعب.”
هرول عامر إلى أمه، التي كانت تلاعب موقد الكاز كأنه طفل مريض.
ناولتْه رغيفًا يابسًا، وسألته: “شو هالورقة اللي بتمسكها كأنها كنز؟”
ضحك، ضحكة أقرب إلى الشهيق، وقال:
– بدهم يعقدوا ندوة عن همومنا.
– معنا؟
– لا، عنا.
ابتسمت الأم ابتسامة لا تشبه الأمهات، بل تشبه ذاكرة امرأة خذلتها الدولة، والحزب، وحتى الجمعيّة.
تمتمت، وهي تمسح يديها بمريولها القديم:
– قول لهم: لا مكان لكم بيننا.
في القاعة الكبرى – وهي مدرسة حُوّلت بقرار من البلدية إلى قاعة مناسبات قومية – كانت الكراسي مصطفة بانضباط عسكري، والوجوه مصقولة بعناية المرايا.
دخل النواب بحفاوة اصطناعية، تبادلوا قبلات الهواء وكلمات منمقة كأنها اقتباسات من برامج انتخابية منسية.
وقف المتحدث الرسمي، وهو يعتلي منصة خشبية صدئة، لكنه كان يظنها جبل الكرمل.
قال بصوته النشاز:
– جئنا نسمع الناس… نلمس همومهم… نعيد بناء الثقة.
لم يكن في القاعة أحد من الناس.
لا أم شهيد، ولا عامل يومي، ولا خريجة مكسورة.
فقط صحفيون، ومُصففو كلمات، وأشخاص يتقنون التصفيق أكثر من اللغة.
من بين الحضور، سُمع صوت شاب يصرخ:
– وأين الناس؟!
فردّ نائب ببساطة مريبة:
– نحن نمثلهم.
من خلف النافذة، كان عامر يراقب المشهد.
كان قد تسلل خلسة إلى المدرسة القديمة، يعرف زواياها كما يعرف خدّ أمه.
تمتم، بصوتٍ لا يسمعه إلا الله:
– تمثلوننا؟ أنتم تمثلون ما تبقى من قبح الكذبة.
وفي اللحظة التالية، غادر بصمت.
في صباح اليوم التالي، كانت الحارة على موعد مع فضيحةٍ لا تُمحى.
عبارة كُتبت بالفحم على جدار المسجد المهجور، بخطٍ مرتجف كصوت الحقيقة:
“لا مكان لكم بيننا.”
هَبّت البلديّة، وأرسلت سيارة دهان.
حاولوا الطلاء، لكن الحبر تسرب في الشقوق، وكأن الجدار هو من كتبها.
حتى المارة كانوا يمرون أمام العبارة ويخفضون رؤوسهم، لا خجلاً منها، بل احترامًا لها.
سأل أحد الصحفيين ذلك اليوم:
– من كتب العبارة؟
فقالت امرأة من الحي، كانت تبيع الخبز اليابس بثمن الكرامة:
– كتبها من لم يجد مكانًا له بينهم.
كتبها عامر… أو ربما كتبتها كل أمٍ لا يطرق بابها أحد إلا في موسم الانتخابات.
كتبها من ما زال يعتقد أن الوطن ليس كرسيًا ولا منصة ولا صورة على فيسبوك.
وفي المساء، جلس عامر وحيدًا تحت شجرة التين اليابسة، ورسم بالحجارة على الأرض ذات الجملة، كأنها صارت نشيده الوحيد:
لا مكان لكم بيننا.
ولم يعد يضحك كالأمس،
بل بدأ يكتب.