إطلالة على بعض ميّزات شعر صلاح الفقيه قصيدة ” هاجس الحبّ والرحيل” أُنموذجًا

صلاح الفقيه شاعرٌ أخضرَ الصوت والحضور،
يُخلص للشعر ويحمل هم فلسطين، بعيدًا عن ضيق السياسة وتقلباتها وبؤس سادتها…
فنراه في شعره كأنه يعيش اللحظة في لحظتها ويُبعثر الزمن والرؤى والذكريات ليستعيد حرارة الأشياء ومذاقاتها الطازجة.
فتجربته جزءا من تجربة الفلسطينين كلهم،
حيث فرَضَ اضطراب مجرى الحياة أن يؤثر على الحياة الشخصية لكل فرد، فكيف إذا كان هذا الفرد شاعرٌ يمضي في الكتابة بوهج،
ويضع المتلقي – الذي يفتش عن الشعر في القصيدة كما يفتش عن نفسه فيها- نصب عينيه.
فجاء شعره مُشتبكًا مع سؤال الوجود والمأزق الإنساني مع الدائم الإنساني.
” هاجس الحبّ والرحيل”

عنوانٌ، وحده حمل حكاية القلق
وحيرة سؤال الموجود والمأزق الإنساني مع الدائم الإنساني.
عنوان عبّر عن نسيج شعوري يتركب من الصراع بين حركتين نفسييتين متقابلتين، تتمثل اولاهما بالحب والحق بالحب والوجود.

“لم يكن يعرف أن الحبّ لغزٌ أعجز الكهان حلّه
يزرع الأرض أغاني ونجوما وأهلّة
ويحب امرأة تنسج من خيوط شروق الشمس حُلّة”
بينما تتمثل الثانية بالمأزق الإنساني” الرحيل”
وهل أقسى وأبشع من الرحيل؟!
الرحيل عن الحب، عن البيت، عن الوالد والولد
الرحيل عن الوطن ، رغم فداحة التضحيات،
أمام صمت إنساني دائم
“-
“طالت الرحلة والزادُّ قليل

لم يجد شيئًا لكي يملأ رَحْلَّه
إنتظارٌ في انتظارٍ في انتظار
كان للباطل جولة
صار للباطل جولةٌ ثم جولةٌ ثم جولة”

يحرص الفقيه على استنهاض عمق الوعي الجمعي بشعره بدينامية فاعلة، ساكنة، ومتحركة.

“فإذا اشّتد الغبار
لم يجد شيئًا لكي يرفع في وجه الحصار
غير نعلّه
يرفع النعل إلى وجه السلاطين
لكي يبني دوله”

“كأنك جئت من الخاتمة
لتعلن دولتك القادمة
من البحر للنهر

لا شيء فيك
سوى قاتليك
وارض تذوب
كقطعة سكر
وانت تعيد بناء الرتوش
لتصعد جوهرة في العروش
وتعلن من خيمة عاصمة”

كما يحرص الفقيه أن يشمل نصّه دائما شيئًا من الخالد في الذائقة والذاكرة والإيقاع العاطفي، لإدراكه إهتمام المتلقي بتاريخية النص وجماله.

” باردٌ كان اشتياق الروح للروح
وبرد الروح قارس
واعتذار القمح للمنجل زلّة”

أيّ صورة باكية في قلب النص بحرقة!
فكيف للشوق أن يكون باردا!؟

وصورة المنجل والقمح، أجمل ما يحفظ الفلسطيني في ذاكرته، فكيف للقمح أن يعتذر للمنجل؟!
إنّه الموت والموات…

لا يرسم الفقيه فجيعته باللغة وتكثيف الأسى
بل بأحداث تشهق لما فيها من ألم محسوس ومُدرك.
”
“وتسال حين تمر النعوش
إلى اين تمضي بك الخاتمة
وكيف سيظهر وجهك للراجعين من الموت دون رتوش
وكيف ستخرج دون خدوش
وماذا يدور بذهن الخنادق حين تغادر منها الجيوش
وكيف ستنجو الغزالة من حتفها
والقضاة وحوش”

لا يخنق الفقيه بشعره التجربة الشعرية بل يتركها تتبلور في الشكل الذي تمليه عليه سلسلة أحاسيسه الزاخرة، ولا يتوارى خلف الكلمات للتعبير عن حساسيته المفرطة، ولا يتردد في التعبير عن الخسائر الفادحة

“طالت الرحلة والزادُّ قليل
لم يجد شيئًا لكي يملأ رَحْلَّه
إنتظارٌ في انتظارٍ في انتظار
كان للباطل جولة
صار للباطل جولةٌ ثم جولةٌ ثم جولة
آن للرب أن يُظهر عدله”

يُرسل الفقيه شعرا يتقصد الحثّ والتحريض بهمسة شاكية قادرة على اختراق الكل اختراقا
يصل الشغاف وأكثر، مستعملا تناقض الصور
في أكثر من مرة ومكان.

“هادئ لولا المنافي
صامتٌ لولا ضجيجِ القّهر حولَه
والذي أنبّتهُ من وردةٍ عطشى
وأضناهُ الحصار
والذي سمّاهُ قبل الماء
قبل الانكسار
والذي أرسّاه في الأرضّ
وأرسى في ندى الزيتون نَسْلّه
لن يمروا
طالما كان الدم الغزي شُعلة
3-
هادئ والأفق نار
وكلاب الأرضّ تعوي
وهو نخلة”

قصائده دائما ما تكون ذات خطة بناء مُحكمة، تمنعها من الاسترسال والاستطراد المجاني.
فنراها مُجّزأة لأجزاء تتنساب مع زفرات روحه

ووثبات ذهنه.
وهاجس الحب والرحيل توقفت عند الجزء الثامن
يشعر المتلقي أنها تلبس ثوبها المناسب لها
لا حاجة به الى الإطالة أو التقصير، ولا التوسيع
أو التضييق.

يمتاز شعر الفقيه بالتوازن الصوتي والايقاع الداخلي، الناتج عن انسجام وتجانس تراكيب
كل بيت.
” صابرٌ والصبر بعرف الفقر عادة
لأن الفقر للجوعى عبادة”

أسلوب الخطاب، إذ يعكس التفاعل والخطاب
الموجه للدلالة التراثية أو الواقعية، للرمز…

“ماذا تريد الطائرات
وهل سنسقط ام سنصعد حين تكتمل المسيرة

يا ابي
في الأمر حيرة
الموت ابلغ منك
مني
من تقاليد العشيرة
فاصبر…لنبصر ما تشوه في البصيرة
8-
رفقا بقلبك يا ابي
عطش كثيف
والندى هو ما يرطب ريقنا
لا ماء نلعقه لنطفئ بالرذاذ حريقنا
والطائرات تموء تنهشنا
فصبرا يا ابي
قمنا بخلق الحلم”
وكان الرمز هنا في صورة الأب المُخاطب
والذي يعني جيلا بأكمله إن لم يكن أجيال
جيل عاش الهزيمة حتى النخاع وشرب العطش
وأكل الذل وقلة الحيلة

التجديد في استعمال اللغة:
دأب الفقيه في معظم قصائده على اللعب باللغة يأخذها لاتجاه جديد نحو مدى أرحب
عبر إعطائها موضوعا أو معنًا مختلفًا.
” وكيف ستنجو الغزالة من حتفها
والقضاة وحوش”
وأعتقد أن الغزالة هنا تعني الشعب، وقد أخرجها
الفقيه من إطار صفة الجسد النمطية التي اتبعها
الكثيرون لوصف خفة المرأة ورشاقتها .

يهتم الفقيه في شعره ببعث خيط من نور
وسط قصيدته ليخرجها من ثقل الهم قليلا
“والذي أرسّاه في الأرضّ
وأرسى في ندى الزيتون نَسْلّه
لن يمروا
طالما كان الدم الغزي شُعلة”
يعود ليصعد المشاعر ويؤججها، حتى اذا ما وصل النهاية خفف من حدة التوتر ، وأوجد

خيطا للامل يلمع واعدا بغد أجمل
” وفي السواد بريقنا”

يبرع الفقيه في التنوع بين استخدام الأساليب الخبرية والانشائية، بطريقة تساعد على جذب القارئ ، وأيضا التموج بين استخدام أساليب الاستفهام ، وحضور الافعال المضارعة التي تفيد استمرارية الفعل والحدث.
” اشتهاءات فتى
لم يأخذ الشارع عقله”

” طالت الرحلة والزاد قليل
لم يجد شيئا لكي يملأ رحلّه”

” إلى أين تمضي بك الخاتمة؟”

” ونحن يأكلنا السواد”

يختار الفقيه ألفاظه بطريقة دقيقة للغاية، لكي يحافظ على سلاسة الموضوع، وعرض الأفكار بطريقة سهلة ومميزة للقراء، لأنه معنيٌّ بأن يصل المغزى من وراء كلماته للمتلقي، وهو يخاطبه بأرق الكلمات والتراكيب التي لها وقع محبب على الأذن القلب.
” طائر الشمس ينير الشمس قبله
وعلى قيظ صحارى روحه يبسط ظلّه”

للشاعر صلاح الفقيه أطيب أمنيات الخير والتوفيق
دمت محلّقُا في سماء الشعر والجمال
تأتينا بنجومه وسر سحر تكوينه
احترامي وتقديري

خالدية أبو جبل
كانون الثاني 2024