قراءة في رواية “طيور المساء”
بقلم: الاسير هيثم جابر من سجن النقب الصحراوي
تاريخ النشر: 24/06/23 | 12:09رواية طيور المساء للأديبة “أسمهان خلايلة”، من الروايات المميزة والنادرة بموضوعاتها ورسائلها الفنية والوطنية التي قرأتها حتى الآن، وبما أن الموضوع الرئيسي في هذه الرواية هو مجزرة كفر قاسم البشعة، التي نفّذها قتلة أبعد ما يكون أن يتم وصفهم أنهم بشر. ربما تناول الأدباء والشعراء موضوع كفر قاسم نثراً أو شعراً، وقد قرأت الكثير من الشعر، وكتبت الكثير أنا شخصياً شعراً لكفر قاسم، وجرحها، الذي لا يندمل ولا يجوز له أن يندمل، بل يجب أن يبقى أبد الدهر حياً لا يموت، القتلة واللصوص لا زالوا يُحيون ما فعل بهم النازيون على حد زعمهم حتى اليوم.
والأجدى بنا نحن أصحاب الحق والأرض أن نبقى نحيي كفر قاسم وكل مجزرة مثلها الى يوم القيامة.
رواية طيور المساء هي الرواية الوحيدة التي مرت عليّ وتناولت مجزرة كفر قاسم، لذا قرأتها بشغف واهتمام واستمتاع، وما ميز طيور المساء هو أنه كان هناك كرسي للقارئ داخل الرواية، فلم تكتفي الكاتبة بالسرد أو استخدام اسلوب “الفلاش باك” أو فن الاسترجاع عن طريق الحاجة “هَنَاْ” التي عاشت المجزرة وكانت من الناجين منها، كانت الكاتبة تسرد بأسلوب الراوي العليم كلّي المعرفة والذي من شأنه ان يزيد قناعة القارئ بأحداث الرواية ويجعله جزء منها، الكاتبة ابدعت في استخدام اسلوب الاسترجاع، أي العودة من الحاضر الى الماضي، على لسان من عاش هذه التجربة المريرة، الأمر الذي يزيد من مصداقية المعلومات والأحداث التي سترسخ رسوخ الجبال في ذهن القارئ.
كان لي مكان فارغ وشاغر في الرواية بصفتي قارئ، وهذا هو الابداع الفني لأي روائي يحترم قارئه ويريد ان يقنع القارئ بأحداث روايته ومصداقية ما جاء فيها؛ كنت أشاهد رصاص القتلة وهو يحصد النساء والأطفال، وكنت أقف معهم في طابور الموت والإعدام وأرى الدماء وهي تسيل من الشهداء. عِشتُ الرواية واحداثها، أبكي كما كانت الحاجة “هَنَاْ” تبكي وهي تروي أحداث المجزرة لفارس. ابدعت الكاتبة في اسلوبها وزمنها السردي، لكن الإبداع ايضاً كان في خلفيّة المكان، المكان كفر قاسم، والموضوع الأساسي المجزرة، في الخلفية الزمنية كانت الحياة البسيطة لأبناء كفر قاسم وأبناء القرى والفلاحين، وتضامن الناس مع بعضهم البعض، فما أن تم منع التجوال حتى تم إرسال الأطفال لإخبار الناس من هم خارج القرية بما يحدث، ويعود هؤلاء مع الشهداء ويرحلون الى الله، اذاً كانت خلفية المكان كفر قاسم والنكبة الفلسطينية، فإن خلفية الزمن هي حياة الناس واسلوب عيشهم بحلوه ومره، تصوير حياة الناس وطبيعة عيشهم بكل ما حل بهم من نكبات، استخدمت الكاتبة في هذا التصوير الفني الإبداعي الأغنية التراثية التي يغنيها الفلاح الفلسطيني وقت الفرح، ووقت المصائب، ووقت الثورة، ووقت سماع الراديو، وخطابات الرئيس “جمال عبد الناصر”. كانت الرواية تدب بالحياة، والمشاعر، والأفراح، والأتراح، والعنفوان.
كنت أعيش في كفر قاسم سنة 1956، وكنت أرى الناس وهم يذهبون ويلعبون، يفلحون ويكدون، والمرأة الفلسطينية بطلة الرواية بل هي كل الرواية، المرأة الحرة التي ترفض المساومة على شرفها مثل “حورية”، المرأة المكافحة الشاهدة والشهيدة اللواتي كن يعلن أطفالهن ومنهن من تعيل زوجاً مريضاً، وكانت نماذج البطولة والكد والتعب مثل فاطمة صرصور وزغلولة وزينب، واذا أردنا وصف العلاقة بين المكان والزمان والمرأة، نقول أن الرواية تجسد وتظهر بطولة تلك المرأة الفلسطينية الفلاحة والمثقفة بالفطرة مكانياً وزمانياً، كانت خلفية المكان والزمان في الرواية لوحة فنية أو شريط ذكريات يشاهده القارئ ويمر أمام عينيه في تلك اللحظات التي تقرأ فيه الرواية.
تتطرق كذلك الكاتبة الى تاريخ الأحزاب السياسية الفلسطينية التي كانت ناشطة في تلك الفترة الزمنية والمكانية، مثل نشاط الاستاذ مروان من خلال الحزب الشيوعي دون التصريح بذلك، إضافة الى محاولة سلطات المحتلين وعملائهم التخويف والتشويه ايضاً للمثقفين مثل مروان وكل نشاط سياسي توعوي وتربوي من شأنه تنوير الناس بعدالة قضيتهم، المختار الذي راح يحذر من خطر الشيوعيين والاستاذ مروان وتجاهل خطر المحتلين والاحتلال الذي فرق الأرض وشرد الشعب.
كما أن الرواية مليئة بالرسائل السياسية الرمزية، من خلال صورة المحتل القذرة في شخصية “موشيه” الانتهازي الذي يغير وجهه عند حضور العاملات الفلسطينيات للعمل في حقل مسروق من أباءهن وأجدادهن، كذلك صورة “دافيد” القذر الانتهازي الذي يكره العرب وأراد أن يعتدي على “حورية” لولا تدخل فارس والعناية الالهية التي ارسلت “دافيد” إلى جهنم، إذاً صورة المحتل كانت كما يستحقها، لم تجمّل ولم تداهن الكاتبة أحداً من الصهاينة حتى لو كانت الفلسطينية التي تعيش في مجد الكروم في فلسطين المحتلة عام “48”، أما إذا أردنا ان نسمي الرواية باسم غير “طيور المساء” فنستطيع أن نسميها كما أرادت ان تقول الكاتبة رمزاً “رحيل الشهداء”، فالشهداء هم طيور رحلوا في مساءات كفر قاسم الحزينة، وقعت المجزرة في ساعات المساء وتهاجر الطيور مع المساء لتحلّق في المدى البعيد، تبحث لها عن شجرة تنام عليها حتى الصباح، لكن طيور المساء في كفر قاسم كانت ترحل الى الله بالجملة، اسم الرواية كان باسم الشهداء، كان ينطق باسم كل شهيد وشهيدة، فاختيار الاسم كان في قمة الإبداع وفيه الكثير من الإيحاء واحترام ذكاء القارئ.
النهاية ايضاً كانت ابداعية بامتياز وتقدم رسالة وطنية تمردية ثورية ضد المحتل، ضد الظلم، وحتى اللحظة لا زال هذا المحتل ينكّل بأبناء شعبنا في كفر قاسم وغيرها، كانت النهاية تقول ان إحياء الذكرى يجب ان يكون يوم عرس وطني، ومن خلال الفرح والرمزية التي استخدمتها الكاتبة أن اعراسنا هي أعراس الشهداء، عرس فارس وعرس 49 عريس وعروس في ذلك اليوم، من خلال عرس جماعي بعدد شهداء المجزرة. تقول الكاتبة أن الشهداء لا يموتون، تبقى أرواحهم فينا إلى يوم القيامة، أرادوا قتل كفر قاسم، فانتفضت بالأعراس والشهداء، توزع الحلوى والذكرى في كل عام من تشرين، نحن شعب لا نقتل ولا نقبر، نجعل شهدائنا اقماراً نهتدي بنورهم في ليالي الصيف الدامية وليالي الخريف الحزينة وتنهي الكاتبة روايتها في “التاسع والعشرين من اكتوبر” ليكون ذلك اليوم خالداً في ذاكرة الأجيال لا ينسى، لأننا لا يجب ان ننسى أو نغفر لهؤلاء القتلة.
في الحقيقة رواية “طيور المساء” من الروايات المميزة المليئة بالثيمات الإبداعية والرسائل الوطنية التراثية والتاريخية والفنية والإنسانية، إنها رواية مميزة وقمة في الإبداع.
كل التوفيق للأديبة اسمهان والتي اثرت الادب العربي من خلال العديد من اصداراتها الروائية والقصصية وذروة هذا الإبداع “طيور المساء”.
***وصلت الرواية للسجن ضمن مبادرة المحامي الحيفاوي حسن عبادي “لكلّ أسير كتاب”