رواية “حارس الفنار” في اليوم السابع

تاريخ النشر: 22/09/22 | 20:04

القدس: 22-9 -2022 من ديمة جمعة السمان: ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافية الأسبوعية المقدسيّة رواية”رحلة الفنار” للأديب نافذ الرّفاعي، صدرت الرّواية عام 2021 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع في 218 صفحة من الحجم المتسّط، ومنتجها وأخرجها شربل الياس.

افتتحت الأمسية مديرة النّدوة ديمة جمعة السمان فقالت:

“حارس الفنار” رواية لخصت أهم مراحل ” الخذلان” الذي مرّ به الوطن والمواطن الفلسطيني.رواية تحمل عنوانا جاذبا كما هو دوما صاحبها، يتقن اختيار عناوين رواياته.

ترى لماذا استعان بمصطلح المنارة، وهو أكثر استعمالا من الفنار؟

المنارة هي موضع النور، ويطلق الاسم على كل برج مبني يقع بالقرب من الشاطئ أو في عرض البحر، ويبعث الضوء من منافذ في أعلى المنارة عن طريق مصدر ضوء كالفوانيس والمصابيح أو الكشّافات.

الفنار يعني الفانوس، وهو آلة مدورة ذات أضلاع من حديد، مغشاة برقيق الكتان الصافي البياض، يغرز في أسفل باطنها شمع للاستضاءة، ويطلق الاسم على مجموعة الإضاءة في المنارة. ويخلط البعض بين المنار والفنار، فيسمون المنارة فنارا.

فماذا قصد الكاتب هنا؟ هل قصد ذلك الجزء الصغير(الفنار) الذي يتوحد مع باقي الفنارات فيطلقون مجتمعين إضاءاتهم، لتشكل مجتمعة إضاءة قويّة، تخرج من نوافذ المنارة، تكون بمثابة الخلاص لكل من تاه عن الطريق، بالمعنى المجازي. أي لكل فرد دور ومسؤولية عليه تحملها، فتكون قاعدة قوية للانطلاق إلى واقع جديد يحقق حلمنا الذي نصبو إليه.

رواية حارس الفنار هي رواية شاملة تعكس الواقع الفلسطيني والخذلان الذي عاشه الفلسطينيون منذ عام 1967 إلى ما بعد اتفاقية أوسلو.

تطرق الكاتب من خلال شخوصه إلى العديد من القضايا السياسية والوطنية والاجتماعية الانسانيّة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي يتجنبها بالعادة بعض الروائيين لحساسيتها، لما تعكسه من واقع أليم، وفضح ممارسات بعض من يرتدي قناع الفضيلة.

لم يكتف الكاتب بطرح ممارسات الاحتلال وما يخلفه من ضحايا، تتسبب بانهيار جزء من المنظومة المجتمعية والأخلاقية الوطنية. ولم يكتف بطرح نماذج وعيّنات من الأساليب التي من خلالها يؤذي المواطن أخاه المواطن، والمناضل رفيقه المواطن، فيتركه ذبيح إشاعة تحرق ماضيه المشرّف، وتضحياته التي بذلها من أجل الوطن. تطرّق الكاتب للصوص الشرفاء التي خلّفتهم اتفاقية أوسلو، وإلى الفساد المستشري، وإلى الضمائر التي كلما كانت تصحو يتم تنويمها بالمسكرات، فتمضي في غيّها، غير عابئة بمن حولها، مخلّفة مزيدا من الضحايا.

رواية شاملة مكثفة قالت كل ما يمكن أن يقال بلغة أدبية جميلة.

إلا أن وضع كل ما ذكر من أحداث مكثفة في رواية واحدة، والاستعانة بكم كبير من الشخوص لتغطية الأحداث، شتّت القارىء في بعض مفاصل الرواية، كما أنّه جاء على حساب عنصر التشويق. إذ كان من الممكن توزيع الأحداث على روايتين أو أكثر لإعطائها حقها من جهة، وللغوص في دواخل الشخوص بصورة أكثر عمقا.

وعلى الرغم من أن الكاتب كان يختبىء خلف الشخوص، إلا أنه لم ينجح في إخفاء صوته، الذي ظهر واضحا جليا أثناء الحوار بين الشخوص، ليعلن عن أفكاره وتوجهاته.

وفي الختام، لا شك أن الرّوائي الرفاعي وثّق مرحلة في غاية الأهمية عاشها الشعب الفلسطيني في دولته المحتلة وفي المخيّمات الشّتات، ولا زال يعيشها، ستغني حتما المكتبة العربية.

وقالت خالديّة أبو جبل:

” عاش البوعزيزي… عاش البوعزيزي”

صرخةٌ تُشعلُ في الروح ألما وأملا ، وقبل أن تنتهي تكون قد خلّفت خيبة ورمادا قلقا.

تلك البداية الكلامية التي اختارها الكاتب؛ ليستهل بها روايته، أشارت للقارئ عن ّيّ ألم سيُغرقنا به وأيّ المحَن التي سنعيشها عبر الصفحات والخيبات التي طأطات لها الأعناق، والفوضى التي شوّهت الفكر وحفرت بيدها منزلق السقوط إلى ما هو أبعد من القاع. فاحتراق البوعزيري كان الكلمة الأخيرة للتمرد على نظام ظالم لم تنفع معه كل الكلمات والحوارات، جاء البوعزيري بتضحيته هذه؛ ليوقد شعلة الثورة، وليكون لهيب اشتعاله منارة لكل مظلوم ومقهور. تثور الشعوب والبلاد، تقدم الضحايا الكثيرة؛ ليزهر الربيع العربي بفضل دماء شهداء الحرية والكرامة ولقمة العيش. لكن الربيع واحسرتاه أنبت الشوك وأخلف موعده مع الزهر، تسلقت أشواك العليق اللئيمة والطفيليات أغصان أشجاره

حتى امتصت نسغه وفورانه، فأحالته خريفا بأرض محروقة لا يرجى لها نبات.

ليس عبثا أوعز الكاتب للقارئ بهذه القصة وإن لم يقصّها، ولكنه على يقين بتأثير هذه الكلمة وما تثيره في النفس من تداعيات، فكيف إذا كان الكلام عن الفلسطيني الذي قاوم وتهجّر وتشتت وثار وحارب وهزم واستشهد وأسر وجاع، لتكون نهاية دربه وجبة باردة على مائدة مفاوضات (واعتمد المائدة وليس الطاولة)؛ ليعيش عمره والغبش في عينيه والانكسار في ذاته، والذل في جبينه.

ولكي يُحصي الكاتب كلّ هذه المتواليات والمتتاليات الغرائبية في حياة الفلسطيني، كان عليه أن يجد رواية هدفها الإطلال على مكان وعلى مرحلة تاريخية قصيرة نسبيا- نكبة ال1948 حتى أوسلو 93 ولا زالت أحداثها مستمرة.

أمّا المكان فقد سافرت الرواية بشخوصها بلدانا عديدة الكويت ، فالاردن ، لبنان والسويد، لكن سمة الأماكن في هذه البلاد فلسطينية، فوحدها فلسطين سكنت كلّ تلك الأمكنة.

……..

“وأنا أفتش عنك

لا حرباً ربحت ولا سلام

طفت العواصم ما وجدت سواك ما بين الأنام

بيروت لا بيروت فيها

لا ولا في الشام شام

والنيل مضطربٌ خجولٌ

لا يعود إلى الوراء

ولا يسير إلى الأمام

بغداد كسرا في موازين القصيدة

كلما ذهب الفرنجة عاد كسرى

كلما اختبأ التتار

أماط هولاكو اللثام

طفت العواصم

لم أجد ظلي لأحمله معي

لم أدر ما سرّ التناقض في البلاغة

بين قافية أضاعت روحها

وقصيدة لعقت بكل جروحها قدم الإمام””

مقطع من قصيدة في الحانة للشاعر الفلسطيني

صلاح الفقيه.

…….

وقد تأتى للكاتب الجمع بين الزمكان والإنسان في مكان واسع واحد مجازي، يكون مُلتقى تقاطع أماكن الرواية وزمانها وشخوصها.فكان منطقيا أن يتعامل الكاتب مع الزمن

دفعة واحدة إلى الأمام أو الإسترجاع والإرتدادية إلى الخلف ليطلعنا على متواليات الحكاية، وعلى رؤية الحدث من زوايا متعددة، ومن وجهات نظر متباينة وبأوقات مختلفة.

فكان أن جعل من الفنار ذلك الملتقى العجيب” حيث يقف الإنسان على ظلّه، علّه يتخلص من حسراته وووجعه وآلامه ” ص 12، وقد ” أضحى الفنار مصيرا وليس مكانا لأن أرض الحكاية موطن ”

وقد استبدل الحارس كلمة منارة اسم المكان إلى الفنار لغاية في نفسه،فالمنارة في اللغة هي مكان الضوء، أمّا الفنار فهو المصباح الذي يشّع منه الضوء .

وكاتبنا يبحث في روايته عن الضوء أو بالأحرى عن الوعي من خلال شخوص تقاذفتهم التيارات السياسية والقوى الثورية. نكّلت بهم سياط المحتل، وطردتهم موائد الأقارب، وغصّ بعودتهم

قرار مُفاوض، وعاشوا نتن وبرودة سجن المحتل، وبهتان ألوان سجن الوطن، المسجون أصلا بحكّامه، وقد أحسن إذ لم يُعط أحدا اسما من شخصياته، حيث قامت كلّ شخصية

بآداء دور ثلة كبيرة من المجتمع الفلسطيني، من خلال الرمزية التي يوحي بها الاسم . فها نحن أمام الحارس الذي عاش محاربا ضاريا متمسكا بثوابته الثورية وعقيدته الإيمانية بحقه وحق شعبه في دولة وعيش بحرية، يؤسر يُعذب يخسر بيته وأهله ومحبوبته ، يخرج من السجن في صفقة تبادل أسرى، ليجد الحال أسوا مما كان عليه قبل السجن، يُهمش ويُرمى في القعر، بعد أن انتفعت السلطة من بعض صور له تُنسب لنفسها بطولة تحريره، يُصارع مصيره وحده في بيت خَرِب لا عمل ولا راتب يحمي من الفقر والفاقة، ونظرات زوجة عاتبة وحاقدة في وحامها واكتئابها ما بعد ولادتها، وعدم المقدرة على تلبية متطلباتها وطفلها؛ ليقع لقمة سائغة في مدارك الردى والسقوط. حيث تتكسّر المبادئ على عتبات الحانة.

إنها شخصية المحارب القديم الذي صار حارسا للفنار والذي لم يستطع القارئ أن يكرهه لانحنائه وضياعه بسبب حفظه لتاريخه الثوري، بل رأى به شخصا مسلوب الإرادة ضحية ومسكين. وما بين الرفيق ودلالة اسمه التي تشير لزمن ازدهار الفكر اليساري، والحنين إليه في ظل سيطرة الحركات الدينية بفكرها المتعصب على المجتمع الفلسطيني

كما باقي الشعوب العربية .

والواعد الذي مثل حال المثقف الذي وجد نفسه عالقا ما بين حرية فكره وتبعيته للسلطة، لا فضاء يرى نفسه به ولا حزبا يتبنى أفكاره.

وبين رجل الكهف الذي قضى شهيدا، وهو يعض على صخور الوطن بالنواجذ، والعالم المنافق يلتقط صورا لإعداد تقارير إخبارية تُسجل سبقا صحافيا.

ويذوب الخبر مع ذوبان الصحيفة تحت الشتاء، أو في جعلها غلافا لبعض الخضار .

بين متمرد على أصل وانتماء، ابن لفلسطينية وأب سويدي، تضيع هويته في سوق نذالة والده وإدمان أمّه القسري، يأتي فلسطين وفي نيته الانتحار ويعود بلاده متمردا متفتح الذهن ينوي كسر الكثير من الأقفال .

وعجوز رماه التيه في لبنان ينتظر كل ذي ضالة ليكون لضياع قلبه مفتاح الامان .

أمّا من حيكت كل خيوط الرواية حولها ولاحلها فهي صاحبة الاسم الوحيد في الرواية” غادة” وغادة تعني الفتاة الحسناء

اللينة التي تتحرك بخفة ورشاقة، وأظن الكاتب قصد بها نساء فلسطين، فحكاية غادة ابنة الأمّ المسيحية الأرمنية واأاب المسلم حكاية التشتت والتهجير

لكل الشعب الفلسطيني، وهي دلالة طيبة من الكاتب في إبراز الدور المسيحي الفلسطيني في الصراع الدائر، حيث تشرد الأبوان عشية حرب عام 1967 التي منعتهم من العودة إلى فلسطين، وبقيت الأختان لدى الجدة والجد، لتقرر لاحقا الأخت الكبيرة السفر خلسة بحثا عن والديها

ولتمضي غادة وحيدة في الحياة بعد رحيل جدها وجدتها، منزوعة الهوية الوطنية بعد إدانتها ظلما بالعمالة، لتقضي باقي عمرها باحثة عمن ينصفها، حتى تجد المحارب الذي أحبته يوما فتظن أن قد يكون سندا لها، فإذا به الحائط المتهالك الآيل للسقوط.

خصّ الكاتب غادة بالدور الكبير والمهم إشارة منه لقوة عزيمة المرأة وإصرارها، فغادة لم تنهزم وقاومت السنة ونظرات مجتمع يتهمها بالعماله، أكملت تعليمها، تزوجتـ وأنجبت واستمرت في رحلة البحث عن والديها، وصلت لأمّها، واصلت مسيرة إثبات براءتها، وصلت بعنادها لأختها بعد سنوات عدة، والتي رأى الكاتب أن يوقف سرده لنكمل الرواية، هل التقت بأختها أم أن أختها وضعت حدا لحياتها خجلا من النظر في عيني أختها؟

رواية حارس الفنار، رواية حاولت أن تطلّ على كل تفاصيل حياة الإنسان الفلسطيني في مرحلة ما بعد أوسلو، وإسقاطاته التي أصابت الشعب بالخيبة، من القيد الذي قيدت السلطة الحاكمة يديها بنفسها لتقف موقف العاجز – المستهجن والمندد في أحسن الظروف- أمام غطرسة وعنجهية

المُحتل، حتى بات الشعب يعاني الضيق والسجن والاحتلال مرارا، والإنقسام مرات ومرات.

سردها الكاتب في عدة فصول حملت عناوين مثيرة وجاذبه، غير أنها ( كثرة الفصول ) ترهق القارئ وتسبب له بعضا من البلبلة، خاصة وأن كثيرا هي الحكايات التي تعيد نفسها، وهذا ما قصدت به أعلاه أنه يريد رؤية الحدث من زوايا متعددة.

من ناحية أخرى كنت افضل أن تبقى الرواية حاملة لهويتها الأدبية مؤدية رسالتها التوعوية الثقافية السياسية دون ذكر أسماء الشخصيات السياسة والاحداث بعينها، حتى لا يصبح جزءا من الرواية مقالا في جريدة، أو تقارير إخبارية.

والتي أراها بلغتها الرسمية، قد أساءت بشكل طفيف للّغة الجميلة الراقية المنسابة بعذوبة وشاعرية، وعبارات فلسفية أنيقة امتدت على طول الرواية .

ولأن هاجس القلم الفلسطيني واحد، ومغموس بذات الجرح النازف، كانت تحضرني على امتداد صفحات الرواية

قصيدة للشاعر الفلسطيني الأردني ،صلاح الفقية بعنوان ” في الحانة” أختم مقالي بمقطع منها.

“لستُ بريئاً مما قد يتركه الشعر من التأويل

ولا أزعم أني معفيٌ

مثل الغير أنا منفيٌ

منغمسٌ في الوهم

وأعرف أن الوهم أصيل

في الحانة أرباب النفط

وظلُّ القحط

ملفات الوطن المنسية

والتدويل

في الحانة رجلٌ يتحسس نهد امرأةٍ

قالت أن الوطن جميل

وجاءت كي تعطي للساسة درسا في فن التقبيل

في الحانة رجلٌ

كان يساريا كالريح

ومال

ومن عادات الريح تميل

في الحانة شيخ يقرأ باسم الله

ويرجم مع أصحاب الفيل

ودار الهرج….ودار المرج

ودار القال

ودار القيل

قالت راقصةٌ :

أن أمور الشعر بخير

فصفق أصحاب التطبيل

ومرآبٍ قال :

بأن زكاة المال حلال

إن كانت من أموال الغير

فأفتى شيخ الحانة

أن الحكمة في فقه التسهيل

وجلسنا في الحانة

باسم الله الواحد نسكر

ونصلي لحذاء العسكر

وننادي بخلاص الجيل”

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

في رواية”حارس الفنار” يحمل الرّوائي نافذ الرّفاعي قلمه الجريح ويعرّي جسد الوطن، ويصور معاناته في ظلّ الاحتلال، أثر النكسة وما بعدها من أحداث وصولا لأوسلو وحتى حاضرنا اليوم، وفي هذه الرّواية المكتنزة بالحزن والسواد، نجد صرخة الفرح ليس لنا، وفي محاولة الهروب لإيجاده في الخمارة، تغتاله فساد الفلسفة الفارغة، كما يفسرها حارس المنارة، نحن إذن أمام رواية تكشف عن الحالة النفسية للفلسطيني من خلال بوح الشخصيات المختلفة بأسرارها عند الفنار أو المنارة، ذلك المكان المضيء الذي تشتعل أرواح الشخصيات بالتفريغ عن همومها الوطنية والنفسية والاجتماعية، فنرى الوجوه البائسة التي تبحث عن الحقيقة،والبراءة من رذيلة العمالة ظلما وبهتانا،كغادة الممرضة التي وقعت ضحية ظلم السياسة والمجتمع، ويمكن اعتبار غادة هي رمز لفلسطين الجميلة التي تبحث عن لم شمل عائلتها بين الأوطان المختلفة في المهجر والغربة.

وجه آخر بائس، منهار، يلفه التعب حتى النخاع، هو “حارس الفنار”الذي يسرد الحكايات ويستمع للعابرين والمقهورين من حكايات الواعد والرفيق وغادة حكايات عديدة مؤلمة “أنا متعب في البحث عن نهايتي المتعجلة”. والفنار أو المنارة هما المصباح القوي، أي الحقيقة بلا زيف فحارس الفنار هو حارس التاريخ والثورة والذاكرة الفلسطينية، ولذا نجده ثائرا يريد أن يحرق جمجمته بسبب ما آل إليه الوضع الفلسطيني المزري، فنجده يهتف عاش البوعزيزي عاش البوعزيزي، احتجاجا على الظلم الفاحش، وانهيار الاحلام.

هي رواية الوجوه البائسة أو لنقل الوطن البائس الذي يبحث عن الخلاص، ويبحث عن ذاته التي سرقها اللصوص والاحتلال، يبحث عن لذة الوعي في متاهة الوطن، هي صرخة الفلسطيني المعذب، حيث حولته الحياة القاسية في ظل الاحتلال لمواطن مشتت في ظل الأوضاع السياسية الصعبة التي لا تنام، وأثر السياسة على الفرد وفي تغيير القيم. والمبادىءالوطنية، هي مرآة لما يحدث بالمجتمع الفلسطيني من اعتقالات وصور الجواسيس سواء داخل المعتقل أو خارجه،صور الاغتيالات، وصور لحياة الأسير بعد التحريروالصعوبات التي يواجهها، من إيجاد العمل والعيش بكرامة وتكوين أسرة، صور لآفة الوساطات، كما نلمس من خلال الحكايات مدى مرارة العيش حين يبني العامل الفلسطيني بيت العدو، بينما الآخر يهدم بيته،

اختار الرّوائي شخصياته بلا أسماء عدا اسم غادة أو اسم باجس، لتعبّر الحكايات عن كل فلسطيني، فنجد حارس الفنار الواعد، الرّفيق، وينتقل الرفاعي من الأسماء الخيالية الرمزية إلى الأسماء الواقعية المعروفة التي لها صدى في الوطن وذلك من أجل تمرير فكرة ما، (ياسر عرفات، البروفيسور جابر وغيرهم).

أما حكاية عائلة غادة، وتشتتهم ما بين الكويت ولبنان والسويد فهي رمز لحياة الفلسطيني الذي قلبت الحروب أحواله فأصبح لاجئا ومهجرا، وحيدا بعيدا عن وطنه.

جاء أسلوب الروائي باستخدامه الأسلوب الاسترجاعي والرجوع إلى الماضي، وتسارع الزمن المختلف، دمج بين الخيال والواقع، اللغة جميلة، فيها لغة المخاطبة بين الشخصيات، لذا استخدم كثيرا أسلوب النداء، والتساؤلات وقد كانت اللغة مزينة بالمحسنات البديعية.

وكتبت رفيقة عثمان:

رواية “حارس الفنار” لوحة فلسطينيّة فنيّة متكاملة الخطوط والألوان، لوحة خطّها الرّوائي بصدق الإحساس، والفكر الفلسفي العميق. سرد الكاتب روايته حول وقائع وأحداث سياسيّة واجتماعيّة واقعيّة مطعّمة بالخيال؛ للقضيّة الفلسطينيّة، حيث عكست الحياة البائسة الّتي ألمّت بالثوّار الفلسطينيين، خاصّة بعد اتّفاق أوسلو البائس، وما ترتّب عليه من فشل وتراجع في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة، وأبرزالكاتب الإنهيار الأخلاقي والنّفسي، وتردّي الاحوال الافتصاديّة، وانتشار المنتهزين والنّصّابين والعملاء والخونة؛ بالإضافة لتعزيز الصّمود، والدّفاع عن الأرض والمُقدّسات.

من المُمكن تصنيف هذه الرّواية تحت مُسمّى، الرّواية التّاريخيّة والسّياسيّة والوطنيّة معًا.

الزّمنكيّة في الرّواية: تناولت الرّواية حقبة زمنيّة محدودة، حيث بدأت منذ سنة 1967، وزمن الإنتفاضة، ولغاية هذه المرحلة الزّمنية الحاليّة (ما بعد معاهدة أوسلو)؛ في فلسطين المُحتلة. انتقل الرّوائي عبر الزّمن، بسرد الأحداث وتسلسلها الزّمني والمكاني.

اعتمد الرّوائي أسلوب الحوار المتبادل بين الأبطال في السّرد الرّوائي؛ خاصّةً بين الشّخصيّتين المحوريّتين: حارس الفنار وغادة، بالإضافة للشّخصيّات: الواعد، والرّفيق، والنّجيب؛ بينما شخصيّة الرّاعي كانت ثانويّة؛ وهو صاحب النّبوءة، بأنّه: “ستكون حرب وسوف يحتل اليهود من الترع أو المخاضة “قناة السّويس”، إلى الشّريعة “نهر الأردن”؛ ويحدث سلام وهو ليس بسلام، يضرب اليهود الشّام ويدمّرونها..” بعدها بسنتين تحقّقت النبوءة. كما ورد صفحة: 122.

لم تخلُ الرّواية من استخدم الحوار الذّاتي (المونولوج) في العديد من المواقف؛ ممّا أضاف في تعزيز السّرد ومصداقيّته.

تعدّدت أصوات الرُواة في الرّواية، وسُرِدت على لسان الشّخصيّات المحوريّة، المحدّدة والمذكورة أعلاه؛ لتمكين الشّخصيّات السّرديّة من التّعبير عن آرائها وأفكارها بحرّية تامّة دون قيود، ممّا أتاح الفرصة؛ للتعبير عن المعتقدات السّياسيّة المتضاربة، بين الشّخصيّات في الرّواية. برأيي هذا الاستخدام يُحسب لصالح الرّواية، الّتي تمنح المساحة الكافية للشّخصيّات بالتّعدّديّة الفكريّة، وعدم سيطرة الرّاوي المتحدّث بضمير الأنا بالسّرد والتّمركز حول الذّات؛ وأحيانًا أخرى ظهر صوت الرّاوي المُحايد؛ الّذي يعرف كل ما يدور للشّخصيّات.

من خلال تعدّد الشّخصيّات في الرّواية، نجح الكاتب بتحريكها والتّحكّم فيها بطريقة فنيّة؛ لإيصال الفكرة الرئيسيّة في الرّواية.

يظهر تأثّر الرّوائي بالفلسفة السّياسيّة ودحضها؛ مثل: العالِم الإنجليزي والفليلسوف (جون لوك)؛ كما ورد صفحة 227 “يعلن اللّعنة على جون لوك ونظريّتة هنا الاستعمار بالاستيلاء على الأرض، يدعو باستعمارها، ومنح حق التّملّك، أكبر بصاق في التّاريخ على هذا الاستعمار الرّخيص.. جون لوك: ألعن بموتك احلام المستوطنين والمستعمرين”؛ كذلك استشهد الكاتب بالفيلسوف التّاريخي الألماني (هيجل) ودحض نظريّته، كما ورد صفحة 274 ” تبًّا لك يا هيجل، ولكل قوانينك؛ من التّراكم الكمي، إلى التغيير الكيفي، أم التّغيير الأخلاقي أم المادي أم التّوازن ما بينهما مفقود”. أورد الكاتب صفحة 124 جملة فلسفيّة على لسان الحارس قائلًا: ” إنّ النّبوءة مجرّد رؤية ما بين الهذيان واليقين؛ فيها وهج الفلسفة؛ وضلال الخرافة. هي إحساس غريب بالعالم، واستشراق للحدث”. برأيي هذا التأُثُّر بالفلسفة ونظريّات بعض الفلاسفة، تشير على مدى وسعة ثقافة الرّوائي الرّفاعي، ممّا تضيف لقيمة الرّواية عمقا فكريّا وأدبيّا.

الشّخصيّات النسائيّة في الرّواية: ظهرت البطولة النسائيّة في الرّواية، بصورة الضعف والظلم، والقهر الشّديد واليأس؛ مثلًا: شخصيّة البطلة الرئيسيّة في الرّواية، الشّابّة غادة: المُمرّضة الجميلة والنشيطة في الحراك السّياسي، والّتي اتُّهمت بالجاسوسية والخيانة، وطُعنت في شرفها الوطني، بكت بمرارة، ولم تنجح في إثبات براءتها خلال أربعين عاما؛ وتعرّضت للتعذيب أثناء التّحقيق، عند عبورها جسر الأردن، أثناء مغادرتها إلى بيروت؛ كي تبحث عن أختها وأمّها. كرّست غادة معظم أوقاتها في علاج المصابين، والجرحى أثناء الانتفاضة، وقامت بالتضحيّة وخدمة المحتاجين؛ على أمل ان تحظى ببراءتها ذات يوم.

شخصيّة البطلة الثّانية: هي والدة غادة، المرأة الأرمنيّة المسيحيّة، والتي تزوَجت من أبي غادة الفلسطيني دون رغبة والدته؛ وتمّ انتزاع ابنتيها منها، وقام زوجها بترحيلهما إلى فلسطين. إنّ حرب النكسة، حالت دون لقائها بابنتيها، تخلّى والد غادة عن الأم الأرمنيّة، إلى أن اختفت في لبنان، في أحد المسشفيات للصحّة النفسيّة، وأصبحت في عالم الغياب.

الشّخصيّة الثالثة في البطولة: أخت غادة، الّتي غادرت فلسطين؛ بحثا عن والدتها في السّويد، وانتهى بها المطاف، بزواجها من رجل بريطاني، وأنجبت منه ولدا، وأنكره؛ ناعتا إيّاها بالعاهرة؛ وأمضت باقي عمرها في مصحّة للأمراض النفسيّة في السويد.

الشّخصيّة الخامسة: الملكة دينا، عندما التقت بالقائد الفلسطسيني المرحوم صلاح التّعمري، عندما هربت متخفيّة بزي فلّاحة؛ هاربة مع القائد الّذي حصل على إذن بالزّواج منها، من الزّعيم الفلسطيني السّابق المرحوم ياسر عرفات.

الشخصيّة الخامسة: أمّ الشّاب الرّاعي، الفلّاحة العتيدة والعاتية، الّتي لا تهاب سوى الموت في الدّفاع عن أبنائها؛ كما ورد صفحة 67 ” ملاحقتك مكشوفة، وأي مكروه يحصل لإبني سأقتلك، لِمَ تطارده؟ قل لي؟”. هذه الشّخصيّة تمثّل الصّمود وقوّة الإرادة بالدّفاع عن الأبناء والوطن.

الشّخصيّة السّادسة: زهرة وهي حبيبة باجس البطل الشّهيد، ولم يتسنّ لها الزّواج منه.

الشّخصيّة السّابعة: زوجة الرّفيق، لم تُوفّق بزواجها منه، وأمضت فترات صعبة، خاصّة أثناء ولادتها، ولم يتكفّل زوجها بمصاريف العائلة، حتّى البسيطة منها، وأصيبت بخيبة امل من زوجها المناضل، ودخلت في حالة هستيريّة.

برأيي الشّخصي، لا بدّ أنّ صورة المرأة السّلبيّة في هذه الرّواية تعكس صورة الوطن، وربّما هذا الوضع الشّائك لحالة النّساء الفلسطينيّات يُمثّل الواقع الفلسطيني بمواصفات عديدة منها: ازدياد الفساد الاجتماعي والسّياسي والاقتصادي، والضعف، والفقدان والضياع، وعدم الاستقرار؛ شعب راضخ تحت القهر واليأس والحرمان، والظّلم والقسوة، وتفشّي ظاهرة الخيانة، والانتهازيّة بين أبناء الشّعب؛ صورة المرأة الفلسطينيّة في الرّواية، إنعكاس لحياة شعب يبحث عن الحرّيّة والحقيقة والعدالة المفقودة، مثله كمثل كافّة شعوب العالم.

“حارس الفنار” عنوان الرّواية الّتي اختارها الرّوائي لروايته؛ نظرا لكونه البطل الرّئيسي للرّواية، والّذي شغل دور البطولة، وكان الفنار هو محور المكان، حيث تواجد به الحارس؛ هذا البطل الثّائر، الإنسان الفلسطيني المنهار بكل المقاييس الإنسانيّة، وصل الى المنارة بعد عودته من المنفى، بعد إقصائه من الفندق والشّقة الفاخرة، التي منحوه إيّاها بعد اتّفاقيّة أوسلو، والّتي خيّبت آماله وحطّمت أحلامه. حارس الفنار هو رمز للثّائرين والأبطال، الّذين صدمتهم وخيّبت أمالهم.

اتّشحت رواية “حارس الفنار” بوشاح عاطفة الحزن، ومشاعر الألم والقهر، والشّعور بالإحباط واليأس، والتّوتّر.

لم تظهر مشاعر الفرح، إلّا نادرا؛ كما أبرزها الكاتب بفرح مؤقّت، كالفرح بعد تحرّر الأسير، وكان التشبيه فيها جميلا: “هبطتُ من الحافلة الى الأرض بلا قيد، سحبت نفسا عميقا بكل هواء الكون؛ ولامست المدى المفتوح وقبّلت شعاع الشّمس المنطلق بلا قضبان، قبّلت التّراب والأرض، وقلبي كحصان برّيّ يتراقص مع حرّيّتي”.

لا يوجد أدنى شك، بأنّ المشاعر الصّادقة للرّوائي، وظهور بعض الأحداث، تلامس شخصيّة الرّوائي.

الرّواية لا ينقصها عنصر التّشويق؛ لجمال لغتها العربيّة القويّة الرّصينة، واستخدام المحسّنات البديعيّة، وأسلوب السّرد الممتع.

رواية “حارس الفنار” رواية تغلّبت على سابقاتها في الطّرح والجرأة المتناهية؛ بوصف الواقع الفلسطيني، والّذي لا يجرؤ أحد إلّا قلّة، من الّذين دفعوا ثمنا لحياتهم؛ بالبوح الصّادق أمام السلطة الحاكمة.

أوصي وبكل صدق، إخراج هذه الرّواية، في إنتاج تمثيل فنّي بفلم سينمائي؛ ليجسّد أحداث الواقع الفلسطيني وحياة شعبه، على غرار التّغريبة الفلسطينيّة؛ وكما أوصي بترجمتها ونشرها باللّغات الأجنبيّة.

هنيئا للمكاتب العربيّة والفلسطينيّة، بهذه الرّواية والفسيفساء الفلسطينيّة الجميلة.

وكتبت نزهة أبو غوش:

حارس الفنار تلك الشّخصيّة الّتي أرهقتني عند قراءتها، فأحيانا أفرحتني، وأحيانا أخرى أحزنتني، ومرّات كثيرة خذلتني.

ما ألطف ذلك الطّفل الرّاعي الّذي كان يغنّي منتشيا مع الطّبيعة، يغنّي للقطيع الأغاني الثّوريّة الحماسيّة! يرقص يقفز فرحا؛ يساعد الثّوار. يبني في قلبه تمثالا ذهبيّا لباجس الثّائر، والمناضلين معه. كبر وكبرت أحلامه وآماله، عاش عذابات السّجون، وعذابات الحياة وانتصاراته الزّائفة في الحروب الأهليّة في لبنان. تمرغ بالطّين وروث الحيوانات، أحبّ بصدق وفقد حبّه؛ بسبب بعده وانشغاله بالقضيّة. دخل الكهوف والمغر، صادق ذلك الرّجل العجوز الّذي حمل نبوءة عجيبة عن الضّياع والانكسار والهزيمة في فلسطين ومصر وبلاد الشّام والأردن، وتسلّط اليهود. والغريب أن بعض هذه النّبوءة قد تحقّق جزء منها. تنقّل مع القضيّة في كلّ مكان، آمن بها كما آمن بالانتصار؛ وكان كالملهوف يبحث عن قطرة ماء وسط صحراء قاحلة؛ من أجل حريّة الوطن. ناولوه لقمة جافّة أسموها معاهدة السّلام الّذي كان رافضا لها بقوّة؛ بسبب حدسه وبعده النظري ومنطقه. أسكنوه في فندق راق، ثمّ في شقّة لا يملك أجرتها؛ وأخيرا حمل أغراضه المتواضعة واستوطن الفنار، وراح يحكي حكاياه للغادي والقادم.

هنا أودّ أن أن أخوض في هذه الشّخصيّة محاولة تحليلها. قال عن حكاياته الّتي وصفها أنّها مركونة هناك في نفق مظلم يتخلّله النّور متعلّقا في بعض أركانه.

لقد رأى الحارس أن النّفق مظلم، لكن ما يحيّرني أنّه أيضا يرى أنّ هناك ضوءا منبثقا في أركانه؛ إِذا كان الأمر كذلك، فلماذا حمل الشّعلة عازما على حرق جمجمته ؟ أتفهّمه جيّدا؛ هذا لأنه أُصيب بخيبة أمل لما جرى للشّعب المقهور؛ نتيجة سياسة وإِدارة الحكومة تجاه هذا الوطن المعلّق ما بين السّماء والأرض. لقد نقّب طوال حياته عن حفنة من الحريّة والأمان، ولم يجدهما؛ لكن، لماذا فعل ذلك بنفسه، ما دام يرى أنّ هناك شعاعا من النّور داخل النّفق، ألم يكف هذا الشعاع لأن يزرع بذرة من الأمل في قلبه؟ والمحيّر أيضا في شخصيّة الرّفيق ذلك الرّجل المنتمي للجبهات الشّيوعيّة؛ لماذا حرّضه على أن يحرق نفسه، يل شجّعه على أن يحضر الإِعلام ليشهر الحدث، الّذي ربّما يفوق حادثة التونسيّ التعيس البوعزيزي.

أرى بأنّ الرّفيق عاش نفس ظروف الحارس، تألّم، وسجن، وتعذّب وحمل القضيّة فوق أكتافه؛ لكنه أراد أن يشفي غليله من خلال جثّة محترقة تتلوّح في الفضاء تقلق العالم المسترسل في أحلامه من كثرة سباته؛ وتقول لهذا العالم، انتبهوا لنا ها نحن موجودون على هذه الأرض، نريد أن نعيش كسائر الأمم بحريّة وأمان وسلام.

لقد خاب ظنّ هذا الرّفيق تماما مثل الحارس، فمن شدّة يأسه راح يتنقّل من حانة لأخرى، ويعاقر الخمر، وفشل في حياته الأسريّة، وفي حبّه للمناضلة غادة؛ ترى لماذا خسر حبّه الوحيد؟ هو ذو اتجاه جبهوي، وهي رديكاليّة. فكّر مرة في داخله:” يا ليت هذه النزقة كانت من حزبه السياسي، ليتها وسطية وليست راديكالية” وهل تفرّق الاتّجاهات السّياسيّة بين المحبّين؟ أم هو تخطيط من الكاتب بأن يجعل شخوصه متألّمين مقهورين مبعثرين ما بعد السّلام المزعوم كما سمّاه؟ كذلك حصل لشخصيّة غادة، فقد أصبحت إِنسانة معذّبة مقهورة طيلة أربعين عاما، تلاحق الثّوار أمثالها؛ كي يمنحوها فرمان الخلاص والبراءة، بعد أن سبغوها ظلما بصفة العمالة مع الاحتلال؛ لكنّ غادة كانت أكثر ايجابيّة من باقي الشخصيّات، حيث عملت ممرّضة تركض لاهثة وراء الشّباب والفتيان المصابين من سلاح العدوّ. إِذا ما تمعّنا قليلا بحياة غادة الّتي خاب ظنّها سياسيّا، نجد أن نفسيّتها كانت معذّبة لأسباب أخرى جعلتها تحمل نفسيّة مرهقة مهزوزة متأرجحة ما بين الواقع والخيال والحرمان العاطفي الّذي فقدته من والديها بعد أن ابتعدوا عن الوطن وتشتّتوا وعاشوا غرباء طيلة أربعين عاما. الأرجح أن كلا السّببين كانا العامل الأساسي في تكوين شخصيّتا، لا أستطيع أن أرجّح واحدا على آخر.

كذلك كان الأمر مع شخصيّة المناضل صلاح التعمري الّذي سمّاه الكاتب الرّفاعي بزوج الملكة؛ بعد كلّ ما قضاه من معاناة من قبل الاحتلال: السّجن وغربة السّجن، وظلم الاحتلال، صار كسائر الشّخصيّات السّلبيّة في الرّواية، هاربا مع ملكة سابقة خارج البلاد؛ خوفا على حياته من مخابرات أردنيّة تراقبه.

أمّا شخصيّة رجل الكهف، فهي الشخصيّة الايجابيّة الثّانية بعد شخصيّة غادة؛ حيث عاش في كهف في الخلاء؛ كي يحرس الأرض ويحافظ على الأشجار من أيّ اعتداء، يقلّمها، يهذّبها، يناغشها، ويروي لها حكاياته. كان كهفه مقرّا للأحباب والعائلة. أنعشت طبخاته المطهوّة على النّار كلّ من ذاقها. شعر بشيء من السّعادة، رغم كلّ ما يحاصره. هو عنوان للتّحدّي، كما أنّه عنيد في قراراته، نفسيّته ليّنة متأثّرة ومؤثّرة. مات مقهورا بعد أن قضوا على أحلامه؛ فكان مؤثّرا بالآخرين مدى الحياة.

ومن لبنان كتب عفيف قاووق:

في روايته حارس الفنار، يُعيد الأستاذ نافذ الرفاعي إلى الأذهان والذاكرة العربيّة تلك الأحداث الدراماتيكيّة، التي عصفت ولا تزال تعصف بالوطن الفلسطيني، وما رافقها من تداعيات تشظّى بنتيجتها المجتمع بكلّ مكوّناته.

أضاءت الرواية على البدايات الموجعة للإحتلال، وما ترتّب عنه من عمليّات تهجير قسريّ وتبعثر للعائلات وتشتّتها في مخيمّات اللجوء، والشتات في بقيّة البلدان العربيّة والغربيّة. كما نطلُّ فيها على الداخل الفلسطيني، وتحديدا الجامعات التي شهدت أولى بذور العمل السياسي والنضالي والحركات الطالبيّة المناوئة للإحتلال، ونشوء أحزاب وتنظيمات متعدّدة ومتنوّعة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وما بينهما، هذا التنوع في الحركات السياسية ما بين الرديكاليّة والبرجوازيّة والاشتراكيّة والوسطيّة والقوميّة، كان لا بدّ له من أن ينتج إختلافاً في الرؤى وكيفيّة مقاربة الامور، وكان النقاش الفكري يصل في بعض الأحيان إلى حدّ التباعد والتنافر إن لم نقل التشكيك المتبادل.

المُتبحّر في الرواية وما تضمّنته من أحداث ووقائع، مع ذكرها لبعض الشخصيات المعروفة في عالمنا، يجد أن الكاتب قد مزج في روايته هذه بين الحقيقة والخيال، وإن بنسب متفاوتة، وهنا قد نستطيع اقتباس ما قالته غادة للحارس عندما وصفته بأنّه ” يشيّد روايته بغبار الحقيقة وركام كلمات تحاكي الواقع بقناعة كبيرة”.

كثيرة هي المواضيع والإشكاليّات التي تضمنتها الرواية وسنحاول التطرّق إلى بعضها وبإيجاز:

العمل السياسي في الجامعات وإنخراط غادة فيه وما واجهته من تخوين:

تحدّثنا الرواية عن غادة، تلك الفتاة التي عاشت في كنف جدّها، وإلتحقت بالمدرسة، لتكتشف ان ساحات المدرسة تغصّ بالمنشورات السرّية التي تملأ الشوارع ويجمعها الإحتلال قبل الفجر، فأستيقظت فيها المغامرة بعد سماعها عن بطولات الفدائيّين، 79 . لتلتحق بتنظيم الطلبة الثانويّين، وانكبّت على قراءة روايات الأدب الثوريّ. والتحقت بعد ذلك في الجامعة حيث يمارس العمل السياسي من خلال مجلس طلبة منتخب 79.

تتعرض غادة لوشاية من إحداهنّ لتُتّهم بإنها جاسوسة تعمل لصالح الإحتلال، وهذا ما قلب كيانها وأبقاها مشوّشة، تبحث عن دليل لدفع التهمة عنها وإثبات البراءة تقول : في هذه البلاد الخطرة، قد يكون الإحتلال أرحم من ظلم الرفاق. 38 . »ليت هذا العالم يفتح أبوابه لي؛ ليحرّرني من ارتهاني! ممنوعة من السفر، ومطعونة في وطنيّتي. الإحتلال والوطن يحاربانني، والقدر يقهرني.« 45 . فتلجأ إلى حارس الفنار الذي لا تقل خيبته وانكساره عن خيبتها وانكسارها. فهو الثوريّ الذي كان رمزا للفلسطيني الّذي نذر نفسه للوطن والذي تذوّق مرارة السجن والهزيمة والخيانة. أصبح يتمنّى أن يحصل على لتر من البنزين لأجل اشعال نفسه، متمثّلا بالبوعزيزي.. بعد أن إكتشف أنّه أمام جمهور مغمىً عليه، فاقد الوعي، تغويه الفضيلة ويتمثّل الرّذيلة، 156 ، وأسف لكيفيّة التعامل مع جنازة الشاعر الثائر الذي كتب معظم أغاني الثّورة، إنه الفدائي صخر حبش، والذي دفن في أصغر جنازة لأيّ طفل في المخيّم . يقول الحارس في هذا الموضع “أبحث عما يخفّف ألمي ووجعي من الموقف. يا للوفاء! أين أنتم أيها الأوفياء، يا تلاميذ المعلم؟ واه على غيابكم عن جنازة صخر حبش! نسيتم أشعاره وأهازيجه، سلختم جلودكم واستبدلتموها 109

يوميات الفدائيين ومعاناتهم:

يذكر لنا الكاتب بعضاً من يوميّات العمل الفدائيّ، الصعوبات والكمائن التي تواجه الفدائيّين، متّخذا من باجس رمزاً لهؤلاء الثوار، وهو القائد الذي استوطن الجبل، ونجا من مئات الكمائن. لم يستطع الإحتلال الوصول إليه إلّا نتيجة الخيانة، لإن الخيانة كما يقول تنتصر على الثورة فالجواسيس يهزموننا 83. وهذا يأخذنا للحديث عن الإعتقالات وسجون الأسرى، حيث كان الوضع الأمني للمعتقلين يتهاوى؛ لزيادة الجواسيس، وأيضا المتساقطين الذين انهاروا خلال التّحقيق. وكيف يعمد الإحتلال إلى تدمير شخصيّة المناضل، وتحويل السّجين الى كمّ مُهمل، وهذاحسب ظنّهم يقود للكفر بالثورة 87

سلطة الحكم الذاتي وطبقة المستفيدين:

في نوع من المكاشفة حول سلطة الحكم الذاتي وطبقة المستفيدين منها يذكر ان البعض قد فاز في مناصب عليا في أجهزة الأمن، وفي معرض الحديث عن طبيعة المعالجة السياسية من قبل السلطة ينقل لنا الكاتب إقتناع المسؤول بأنهم أفضل مفاوضين في التّاريخ الذين حوّلوا المفاوضات الى حياة ، ويكمل ليقول “نحن الوحيدون الّذين كثّفنا التضامن والوقفات الإحتجاجيّة، أمّا الإستيطان، فنحن الوحيدون الّذين نطالب بعدد من الباصات لنقل العمال الفلسطينيين، بعدما رفض المستوطنون أن يصعدوا في نفس الحافلات”. 111

حرب العام 1967 :

أمّا فيما يتعلق بحرب العام 1967 ، فتشير الرواية كيف أن الإحتلال عمل على ترحيل الناس في حافلات نحو جسر الأردن بعد أن يوقّعوا مرغمين على وثيقة ترانسفير.64 . كما يعيدنا الكاتب إلى أحمد سعيد، “بينوكيو” إذاعة صوت العرب ، وكمّية الأخبار الزائفة التي أعلنها، والإنتصارات الوهميّة التي يدّعيها، في حين أن جنود العدّو وأسلحته، تهتك أطراف المدن وتنتهك حرمتها (63). ومن التداعيات المباشرة لهذه الحرب نشأت مخيمّات اللجوء والتشرّد، مثل مخيم البقعة للاجئين في بيوت من الصفيح ومخيّم الدهيشة، وأيضا مخيّم الوحدات الملاصق لمدينة عمّان، وغيرها من المخيّمات. ولم يغفل الكاتب من ذكر بعض النماذج التي رفضت التهجير وأصرّت على البقاء فهذه جدّة غادة التي نبذت التشرد، وهجر البيت والذّكريات والوطن والتّاريخ والإنجرار وراء الفوضى النّاجمة عن الحرب والهزيمة.

وأيضاً، هناك “رجُل الكهف” الذي بقي يزرع أرضه، ويعتني بأشجارها ليُزيل عنها تهمة البوار مقاوماً للإحتلال، رافضاً الإخلاء، يموت بعد أن لفظ كلماته الأخيرة ” لن أرحل”، لقد هدموا كهفه، ولم يغتالوا صموده، وما زال ظلّه منتصباً في البريّة.

وتلحظُ الرواية معضلة التشرّد وتفكّك الأسرة الواحدة، فوالد غادة سافر مرغماً إلى بريطانيا ومات هناك، وأمّها عادت إلى لبنان وأختها إستقرت في السويد بعد أن هاجرت للبحث عن والديها وبقيت هي في كنف جدّها.

الحرب الأهليّة في لبنان:

في إطلالة على الحرب الأهلية في لبنان والتجاوزات التي رافقتها، وفيما هو نوع من النقد الذاتي أو إعادة القراءة لهذه الحرب، والتي كان الفلسطيني طرفا فيها، يقول “زوج الملكة” أنه عندما يموت الوعي ويفنى العقل، نكون أمام انحطاط بشريّ للقيم الإنسانية، وهذا ما واجهناه في الحرب الأهليّة في لبنان، إلى جانب انقسام البلاد طائفياً ومذهبيّاً 137 . مستذكراً معركة مخيّم الضبيّة حيث أجرم فيها الإنعزاليون اللبنانيّون بقتل المسيحيين الفلسطينييّن، وأبادوا أحياء المسلخ والكرنتينا، وهي جيوب في منطقة الكتائب، وهي ميليشيا طائفيّة مسيحيّة، فكان الردّ بالمثل بإقتحام مدينة الدامور المسيحيّة وذبح المئات، ليخلص إلى القول بأن “البندقيّة يجب أن تكون واعية، وإِلآ تتحوّل الى قاطعة طريق. تباً لهمجيّة الحروب 138.

… أخيرا لم يفُت الكاتب أن يطلّ على بعض المناطق الجغرافيّة ليقدّم لنا شرحا ولو موجزا عن بعضها، للدلالة على تجذّر هذه المناطق في التاريخ وأهميتها، ولذا كان التطرّق الي المغطس، وهوالمكان من نهرالأردن، الذي عمّد فيه يوحنا المعمدان، أي “النّبي يحيى”، المسيح عليه السّلام تغطيسا في الماء، فأضحى مقدّسا ومَحجّاًّ للمسيحيّين في العالم 72 .

ليأخذنا بعد ذلك إلى وادي النار الذي يوصل إلى دير “سانتا ماريا” القديم. ويذكر أيضا وادي القلط حيث تلوح سهول الغور الرّحبة، وتتبدّى مزارع الموز والبرتقال والحقول الخضراء. ويستطرد للإشارة إلى البحر الميّت الذي رغم مواته، إلا أنّ فيه شفاء للناس، وما يحويه من طين أسود تدهن به الأجسام للتخلّص من الأمراض الجلديّة ً71 . وأيضاً يشير الى مدينة أريحا المتربّعة في السّهل الغوري، وهي أقدم مدينة في التاريخ.

ختاما نقول إن رواية حارس الفنار تلامس الوجدان العربيّ، وتهزّ ما تبقّى من ضميرٍ لدى هذا العالم، كُتبت بأسلوب رشيق وبلغة سهلة تلامس المحكيّة بحيث تجعل القارىء حاضرا بين شخوص الرواية مستمعا لحواراتهم .

أمّا شخصيّة الأبّ، فقد طمسها الكاتب، ولم تساهم في تطوّر الأحداث. كان غيابه غامضا، وفراقه عن زوجته أيضا، حتّى أنّ موته كان غامضا جدّا، من ناحية المكان والزّمان والظروف.

اللغة التّعبيريّة في الرّواية

استخدم لكاتب الرّفاعي أدواته الفنيّة والأدبيّة لتوضيح نفسيّات شخصيّاته. استخدم التشبيهات الجميلة، والاستعارات الّتي أضافت جمالا تعبيريّا للفنّ الرّوائي. يقول عند وصفه للزمن الماضي “حيث البلاد تعج بالتاريخ والقلاع والأنفاق السريّة”.

أمّا دقّته بالوصف فكانت تحمل المعاني المجازيّة الّتي تنقش ذهن القارئ.

قال في وصفه للفنار قديما:” فنار يعانق قلب السماء ويرسل ضوءا خافتا، وميضا لامعا مطلا على نواحي الوادي “.

أمّا عن الشعور النّفسي الّذي عبّر عنه؛ من أجل كشف نفسيّة الشخصيّة المتعبة:” تبدى له ذاك اليوم مثل ثقب مخزوق في جدار الأحلام.”

هناك تشبيه غريب لمعنى القوميّة:” إِن القومية عهن منفوش”

أمّا عن السّلوك الّذي سلكته غادة، كي تبتعد عن حبيبها فقد شبّهه تشبيها لطيفا:” أدرك تملصها الحريري”.

وصف نزول المطر في وضع نفسيّة الشخصيّة الّتي تعيش تحت ظروف السّجن:” وكأن احتفالية المطر عملة فريدة للحرية تدقّ وتزخ وتطبل على الزينكو”

أمّا التّعبير عن الحريّة والخروج من السجن” انبلاج بوابة السجن وصرير مفاصلها الصدئة المزعجة ”

وعن فرحته عندما وصل البيت، كان التّعبير صادقا يعبّر عن النفسيّة الفرحة، وليست اليائسة.

“قذف جسده كما الزنبرك على فرشته”

وتعبير آخر عن فرحة الجدّ بعودة ابنه، وضّحت نفسيّته المرتاحة:” يقرع كؤوس فرحه بعودة الابن”.

في النّهاية يمكننا أن نستخلص أنّ الكاتب نافذ الرّفاعي قد أسقط جزءا من ذاته على شخصيّاته الّتي اختارها بدقّة من حياته السّياسيّة والاجتماعيّة، وبيئته الفلسطينيّة الماضية والحاضرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة