العظماء 9 العروبيّ جمال عبد الناصر

تاريخ النشر: 29/06/20 | 14:22

بقلم: علي هيبي

مدخل ذاتي:
زرت مصر العظيمة، شدّني الشوق لعروبتها فأنساني التطبيع، لجمالها الناصريّ، لنيلها الخالد، لأهرامها الثلاثة العتيقة كشوارع القدس، لأبي هول عدوّها، لشعبها البسيط ذي اللهجة المحبّبة، لفنونها ولرموزها الموسيقيّة والغنائيّة والسينمائيّة والمسرحيّة، ولعمالقتها من عالم الفكر والثقافة والأدب والصحافة.
هل طبّعت مع بلدي مصر أنا الفلسطينيّ العربيّ الذي يؤمن بالوحدة العربيّة كما آمن بها “جمال عبد الناصر” وآمن أنّ الوطن العربيّ رقعة جغرافيّة واحدة والتراب واحد كما اللغة العربيّة واحدة، وكفر بالإقليميّة والانقسام وكره المنادين بهما كراهيته للخيانة! لست مع التطبيع منذ بداية الزحف الساداتيّ على البطن، وما تلاه من هرولة سعوديّة وخليجيّة تطبيعيّة طال أثرها المدمّر السودان في أعماق أفريقيا، هذا التطبيع الزاحف والمهرول نحو إسرائيل سيكون شريكًا في تمرير “صفقة القرن” الصهيو – أميركيّة وفي تطبيقها، وكما يبدو في عقول هؤلاء ومن بينهم الرئيس المصريّ الحاليّ “السيسي” أنّ فلسطين لم تكن قضيّة عربيّة بل أكذوبة فلسطينيّة! وقد يصل الأمر بهم إلى أن يظنّوا أنّ الشعب الفلسطينيّ يبغي من ورائها سلب الصهاينة وطنهم القوميّ المنصوص عليه في “وعد بلفور” المقدّس منذ سنة 1917، والآن يأتي الرئيس الأميركيّ “ترامب” وبنفس العقليّة الإمبرياليّة ليؤكّد حقّ الإسرائيليّين وباطل الفلسطينيّين. وكأنّ لسان حال المهرولين المعبّر عن لاشيئيّتهم يقول: “شكرًا لبلفور القديم ولترامب الجديد اللذيْن كشفا لنا النيّة الفلسطينيّة المبيّتة لطرد اليهود وكشف الطمع الفلسطينيّ للاستيلاء على أرض إسرائيل”. لقد بلغت الخيانة من ملوكنا ورؤسائنا مبلغًا بعيدًا، سافرًا وسافلًا!
نسيت التطبيع وإشكاليّاته، ما جعلني ككلّ فلسطينيّي الداخل “نعبد” شخصيّة “جمال عبد الناصر”، كانت زيارة قبره حُلمًا، ولكنّني صدمت عندما وجدت أنّ “السادات” صاحب العبور السياسيّ بصلحه المنفرد وبعزل جسد مصر عن روح عروبتها، وخليفته “مبارك” (لا بارك الله فيهما) مسحا كلّ أثر عربيّ ناصريّ من مصر إلّا وجدان شعبها النابض، مسحا اسمها فعادت “جمهوريّة مصر العربيّة” وليست كما سمّاها “جمال” “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” إيمانًا منه بتحقيق الحُلم العربيّ بالوحدة من الخليج إلى المحيط. تصوّروا لم أجد صورة لجمال ولم أجد علّاقة مفاتيح أو كوبًا من زجاج أو صحنًا نحاسيًّا عليه صورة “أبي خالد” الخالد، الذي لو مسحوه عن الأشياء كلّها فلن يستطيعوا مسحه من القلوب والأرواح والوجدان.
لم تكن تخلو الشوارع والطرقات من المارّة والسيّارات في الوسط العربيّ، ولم يكن يخيّم سكون كامل إلّا عندما سيذيع “صوت العرب” خطاب الرئيس “جمال عبد الناصر” “شو السيرة! أين الناس! بدو يخطب جمال”! أين صوت العرب من القاهرة أو في القاهرة اليوم! أين “هنا القاهرة من دمشق”!
يوم الاثنيْن في 28 سبتمبر سنة 1970 مات جمال عبد الناصر ودفن يوم الخميس من ذات الأسبوع في الأوّل من أكتوبر، الجماهير العربيّة في الداخل ما زال الخوف من السلطة الصهيونيّة وتنكيلها المختلف الألوان جاثمًا على صدورها، قبل يوم الأرض بستّ سنوات، يوم كُسر حاجز الخوف والاستعداد لمواجهة السلطة وقوانينها وتنكيلها ومجمل سياساتها ضدّ العرب، خرج عرب الداخل متحدّين الخوف وسوء العواقب في مسيرات غاضبة ترفض التصديق أنّ “جمال” مات، كعمر يوم قضى الرسول (ص) وكشعب مصر عندما تنحّى “جمال” بعد نكسة 1967، خرجوا من كلّ قراهم ومدنهم غاضبين مهلّلين مكبّرين، يهتفون بحياة الزعيم العربيّ المنقطع النظير، لم يقترن اسم أحد من الناس مع اسم الجلالة في الشهادتيْن إلّا اسم “عبد الناصر: “لا إله إلّا الله، عبد الناصر حبيب الله” هكذا كانوا يهلّلون ويبكون وينشجون لحبيب الله وحبيب الملايين “يا جمال يا حبيب الملايين يا جمال”، كما كتب إسماعيل الحبروك ولحّن كمال الطويل وغنّى العندليب عبد الحليم حافظ.
سنبدأ مع جمال ولكن من أين:
عندما نكتب عن زعيم عربيّ، أفريقيّ وعالميّ بحجم جمال عبد الناصر وقامته، فإنّ العظمة بكلّ معانيها ودلالاتها وامتداداتها وأثارها ستتكدّس على قلمك، هذه العظمة بكلّ فخامتها وجلالها ستتراكم بطبقاتها على رأس قلمك الصغير، فماذا ستسطر أيّها المسكين! ومن أين سيبدأ الفكر العاديّ البسيط الذي يحرّك الأصابع الصغيرة وهي تمسك بالقلم/ بالقزم أمام هذه القامة السامقة، أمام هذه الهالة المستديرة من الوهج المتدفّق عروبة، تحدّيًا ونضالًا! أقول هذا الكلام وأنا لا أنوي أن أكتب تاريخ الرجل ولا دراسة علميّة إنتروبولوجيّة أو بحثًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا في مركّبات شخصيّته ولا سيرة غيريّة متكاملة، ولن أستطيع أن أضيف لأبعاده الكثيرة أبعادًا قليلة أو جديدة! والله لا أعرف ما سأكتب! وما سينتج عن كتابتي في النهاية! ولا أعرف شكل الكتابة ولا مبنى مضمونها! ولكنّني سأكتب! سأغوص في عالم هذا الرئيس العروبيّ الأصيل العظيم، أحبّ كلّ العظماء الذين كتبت عنهم والعظماء الذين لمّا أكتب عنهم، ولكنّ حبّ هذا العروبيّ الأسمر، العظيم مختلف ومتميّز لأنّ ألمه هو ألمي وألمنا جميعًا وأمله هو أملي وأملنا جميعًا، واحد هو الكلّ والكلّ في واحد، فهل تعود الروح يا حضرة الحكيم! وسأتحدّى به وبرئاسته وبعروبته وبمواقفه وبعظمته واحدًا ومجموعًا كلّ الرؤساء والملوك العرب غير العروبيّين الحقيرين والخائنين، لتتضّح رذالتهم ووضاعتهم أما مجهر فضائله وكرامته وكبريائه، هؤلاء الأذلّاء الذين كانت ترتعد فرائصهم وأرجلهم “الباركة” والزاحفة على الأرض في أسفل سافلين أمام قامته الشامخة إلى علّيّين السماء وهو حيّ، ولكن عاث الرعاديد بأمّتنا وشعوبنا خيانة وفسادًا وإفسادًا بعد موته! فيا للمجد والكرامة لجمال عبد الناصر ويا لوقوف الأشجار ميّتة! ويا للعار والذلّ لكلّ رؤساء مصر بعده من السادات حتّى السيسي ولكلّ ملوك العرب ولمعظم الرؤساء العرب من الخليج الخائر إلى المحيط الفاتر ويا لاضمحلال الحياة والأشجار والعروبة والأمجاد عندما تخنع الملوك والرؤساء وتعيش بلا حول، كبعران على فراش الذل والهوان وبلا طول، تستمرئ مرّ العبوديّة كأنّه عسل حرّ!
من أين سنبدأ! أمنَ الرئيس السياسيّ أم من الجنديّ العسكريّ؟ من المنتصر أم من المنكسر؟ من الدائرة العربيّة أم الأفريقيّة أم الإسلاميّة؟ من فلسطين أم من الجزائر أم من اليمن؟ من الوحدة مع سوريا أم من الانفصال؟ من تحدّي أميركا والاستعمار أم من الصداقة السوفييتيّةّ؟ من السدّ العالي أم من كهربة الريف والإصلاح الزراعيّ؟ من مصانع الحديد والصلب والنسيج أم من تأميم القناة؟ من حلف “بغداد” الاستعماريّ التآمريّ أم من مؤتمر “باندونغ” ومنظومة عدم الانحياز؟ من الزمن الجميل للفنّ والغناء والسينما والأدب أم من زمن الهبوط في سوق الأقلام المجنّدة لقدسيّة النظام؟ من ثورة تمّوز 1952 أم من الردّة الساداتيّة بعد 1970؟ من انتصار حزيران 1967 أم من الانتصار الذي سبقه في صدّ العدوان الثلاثيّ 1956، أم من الهزيمة التي تلته في أكتوبر 1973، لماذا أقلب الأمور فأجعل هزيمة حزيران نصرًا ونصر تشرين هزيمة! سأفسّر على طريقتي ووفقًا لقناعتي هذا التناقض أو هذا الإشكال! كان جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهوريّة العربيّة المتّحدة وزعيمًا عربيًّا لا ينازعه ولا يطاول قامته أحد، هزّت هزيمة حزيران سنة 1967 الوجدان العربيّ هزّة عنيفة وزعزعت كلّ المفاهيم السياسيّة والقوميّة، وتنحّى الزعيم متحمّلًا كلّ المسؤوليّة وعاد إلى منصبه ليتابع التحدّي والنضال تحت ضغط الجماهير التي خرجت إلى الشوارع والميادين وبصوت وبإصرار هتفت: “ح نحارب”، وفي 1967 جاءت القرارات من قمّة الخرطوم “لا مفاوضات ولا صلح ولا سلام مع إسرائيل” والشعار الكبير والذي سينتصر حتمًا كما صاغه الزعيم العربيّ “ما أُخذ بالقوّة لا يستردّ بغير القوّة”، وبدأ جمال عبد الناصر العمل على جماهيريّة المجهود الحربيّ والاستعداد للمعركة القادمة، هزيمة عسكريّة كان للخيانة المصريّة والتآمرّ العربيّ والمساندة الأميركيّة والغربيّة اللامحدودة لإسرائيل دور كبير في حدوثها للتخلّص من النظام الوطنيّ الناصريّ، ورغم ذلك يعلن عبد الناصر الصمود والتحدّي وعدم القبول بالذلّ والإملاءات الصهيو – أميركيّة. أليس هذا انتصارًا كانتفاض العنقاء من الرماد! فماذا بعد انتصار أكتوبر العسكريّ فقط في سنة 1973، وكان أنور السادات رئيسًا لجمهوريّة مصر العربيّة وليس للجمهوريّة العربيّة المتّحدة ولم يكن زعيمًا عربيًّا، بل تقوقع إقليميًّا وحصر مصر في ذاتها، وخاض الحرب وتمّ عبور الجيش المصريّ الباسل لقناة السويس وانهار الساتر الترابيّ ودُكّت قلاع خطّ “بارليف” ودُمّرت تحصيناته، بنجاح عسكريّ كبير، وقُهر الجيش الإسرائيليّ وقُضي على مقولة: “الجيش الإسرائيليّ الذي لا يقهر”، وبتآمر ساداتيّ ودعم أميركيّ دخلت القوّات الإسرائيليّة غربيّ قناة السويس وبدأت المساومة التي انتهت إلى الخيمة 101، ومن ثَمّ إلى تبادل التراجع وعزيزي “هنري كيسنجر”، ومن ثمّ إلى محطّات الإنذار في سيناء والتهدئة وطرد الخبراء السوفييت وفقًا للمطالب الأميركيّة، و99% من أوراق الحلّ بيد أميركا، وسافرت الخيانة الساداتيّة إلى البعيد، إلى الكنيست الإسرائيليّ بِ “عبور سياسيّ ماحق” لإسرائيل بعد محقها بالعبور العسكريّ، وكانت “كامب ديفيد” واتفاقيّة السلام المنفرد والتخلّي عن الوحدة العربيّة وقضيّة العرب الأولى “فلسطين”، والتفكّك العربيّ الذي ما زالت أشباحه مهيمنة ما دام العلم الإسرائيليّ يرفرف في سماء قاهرة “المعزّ” ليس بعيدًا عن الضريح الطاهر لجمال عبد الناصر! أليس هذا النصر شرًّا من هزيمة! على حدّ تعبير شاعرنا الفلسطينيّ “توفيق زيّاد”! أليست هزيمة حزيران وجمال عبد الناصر أقلّ تأثيرًا سلبيًّا على الأمّة العربيّة من انتصار أكتوبر وأنور السادات، الذي كان صلحه المنفرد واتفاقيّة السلام مع إسرائيل أوّل حلقة من حلقات الخيانة التي أوصلت معظم العرب إلى الصلح والتعامل مع إسرائيل وإلى التطبيع معها كدولة حليفة في الركب الصهيو – أميركيّ. هذا هو السادات المنتصر وجمال عبد الناصر المنكسر! فمن منهما العظيم!؟
البدايات:
قد يكون من محاسن الصدف أو من ترتيب القدر أو من طبيعة الظرف والحدث وتناسبهما في كثير من الأحيان، أن يولد جمال عبد الناصر قبل سنة واحدة من ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول ضدّ الحكم الإنجليزيّ في مصر، وحقّقت بعض الإنجازات الوطنيّة، ربّما تهيّأ الظرف الثوريّ ليتنسّم الطفل أنسام الحرّيّة ويستشعر حياة وطن بلا قيود، وليرضع حليب الأمّ مغموسًا بحلم البداية سنة 1919 في إجلاء الإنجليز عن مصر وإنهاء الانتداب وليلعق ثمار الإنجاز الحلوة في 1954 عندما أُجليَ آخر الجنود الإنجليز عن مصر وانتهى الانتداب، ومعه انتهى الحكم الملكيّ ورحل الملك “فاروق” آخر ملك حكم مصر من سلالة “محمّد علي باشا”. وبجلاء هذين: الانتداب والحكم الملكيّ تخلّصت مصر من آخر مستغلّي ثرواتها وناهبي كرامتها وسالبي حريّتها واستقلالها من الداخل والخارج.
هي اثنتان وخمسون سنة عاشها جمال عبد الناصر منذ ولادته في 15 يناير سنة 1918 حتّى وفاته في 28 سبتمبر سنة 1970، حياة قصيرة كغيره من العظماء، في حيّ “باكوس” في الإسكندريّة ولد، وفي “منشيّة البكري” في القاهرة مات، وبين السنتيْن والموقعيْن كانت حياة عريضة تعجّ بالأحداث الجسام وباشتياق جارف للحريّة والاستقلال والكرامة، إنّها حياة المارد العربيّ العظيم “جمال عبد الناصر”. ولحّن وغنّى فريد الأطرش من كلمات حسين السيّد.
لأسرة صعيديّة فلاحيّة بسيطة في قرية “بني مرّ” تعود أصوله، ويقال إنّ جذورها تعود لقبيلة عربيّة قحطانيّة قديمة، ما قد يفسّر بعض الجينات المكوّنة لانتمائه العروبيّ بلا تغييب لانتمائه المصريّ الوطنيّ.
من ميدان “المنشيّة” في الإسكندريّة حيث شارك الشابّ المتحمّس للنضال والحرّيّة والكرامة في أوّل مظاهرة في حياته سنة 1933، إلى أن انتهت حياته ولفظ آخر أنفاس نضاله في “منشيّة البكري” في القاهرة سنة 1970، نام الهرم الرابع “السيّد نام كنوم السيف العائد من إحدى الغزوات/ السيد يرقد مثل الطفل الغافي في حضن الغابات/ السيّد نام/ وكيف أصدّق أنّ الهرم الرابع مات”، ولم يصدّق الشاعر السوريّ العربيّ نزار قبّاني فقال مندهشًا: “السيّد دخل الغرفة كي يرتاح”، لم يمت بل: “قتلناك/ قتلناك يا آخر الأنبياء”.
كان “جمال” طالبًا لمّا يدرك أمور السياسة وقضاياها، مظاهرة للتلاميذ وانقضاض بوليسيّ عليهم، وجد نفسه تلقائيًّا في صفّ التلاميذ، يتلقّى الضربات المتتالية على رأسه، أدّت إلى الإغماء، فكان حاله كَ “أمل دنقل” الذي قال: “رفسة من فرس/ شجّت الرأس/ وعلّمت القلب أن يحترس” في حال جمال “ضربة من حرس” ومن هناك إلى الحجز، يعالج ثمّ يسجن لأوّل مرّة في حياته ومشاعر الغضب تفور في الوجدان اليانع، مرحلة التعليم الثانويّة تشهد تحوّل الشابّ من متظاهر بالفطرة إلى ثائر يدرك، وتشهد بداية تشكّل الوعي الوطنيّ والطبقيّ، في مصر حالة من الغليان بسبب حكم الاستعمار وإحكام قبضته على المصريّين، وذلك بإلغاء الدستور، أدّت مقاومته للظلم إلى نقله من الإسكندريّة إلى القاهرة للتخلّص من نشاطه الثوريّ والسياسيّ، ولكنّه هناك يزيد ثورة ونضالًا وَ “شغبًا” ليصبح رئيس اتّحاد مدارس “النهضة”، ومضى قطار النشاط والنضال قدمًا.
الإحساس بالقهر والظلم ولّد المرارة والرفض والثورة داخل النفوس التي تفكّر بالخلاص، وكثيرًا ما كان ينبثق عن هذه المشاعر الوطنيّة الخام أحداث تجعل الأيادي الخالية تجابه المخارز المسنّنة وتقاوم، فقد شهد عام 1935 نشاطاً كبيرًا للحركة الوطنيّة المصريّة التي ما زالت في طور التبلوّر، وقد لعب فيها الطلبة الدور الأساسيّ مطالبين بعودة الدستور والاستقلال، وتكشف رسالة معبّرة عن المعاناة المكبوتة في النفوس والتي تريد أن تتفجّر في مجرى للتدفّق، من “جمال عبد الناصر” إلى صديقه “حسن النشّار” في 4 سبتمبر سنة 1935، هذا مكنون نفسه في هذه الفترة، فيقول: “لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت، فأين من يقلب كلّ ذلك رأسًا على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم! أين من يخلق خلقًا جديدًا لكي يصبح المصريّ الخافت الصوت الضعيف الأمل، الذي يطرق برأسه ساكنًا صابرًا على اهتضام حقّه ساهيًا عن التلاعب بوطنه، يقظًا عالي الصوت عظيم الرجاء رافعًا رأسه يجاهد بشجاعة وجرأة في طلب الاستقلال والحرية”، وقد استشهد بما قاله مصطفى كامل: “لو نقل قلبي من اليسار إلى اليمين أو تحرّك الهرم من مكانه المكين أو تغيّر مجرى النيل فلن أتغيّر عن المبدأ، كلّ ذلك مقدّمة طويلة لعمل أطول وأعظم فقد تكلّمنا مرّات عدّة في عمل يوقظ الأمّة من غفوتها ويضرب على الأوتار الحسّاسة من القلوب ويستثير ما كمن في الصدور، ولكنّ كلّ ذلك لم يدخل في حيّز العمل إلى الآن”.
“الجامعات” ليست أبراجًا عاجيّة، ولكنّها الطليعة التي تقود الشعب نحو مستقبل أفضل”، هكذا كان يؤمن “جمال” بأنّ شباب الجامعة من طلّابها الواعين هم بؤرة النضال ومحرّكه الأساسيّ، ولذلك قال بعد انتصار الثورة: “عندما تتعارض الثورة مع شبابها، فالثورة على خطأ”، وكم عانى حتّى قُبل للجامعة، لأنّه شارك بمظاهرة سنة 1935 للمطالبة بالحريّة والاستقلال وإعادة الدستور، ولأنّه من عائلة فقيرة لا سند لها ولا ظهر، ولأنّه لا يملك “واسطة” من غنيّ إقطاعيّ أو من مسؤول حكوميّ يشفع له، كم من مرّة رُدّ طلب انتسابه للكلّيّة الحربيّة ولم يشفع له ولم يُقبل إلّا عندما احتاجت الدولة إلى مجموعات كبيرة من الضبّاط، فتمّ قبوله سنة 1937 وتخرّج منها “ضابط”. ومضى قطار النضال الثوريّ الذي لا حدود لانطلاقته وتوثّبه نحو الحريّة والكرامة والاستقلال الوطنيّ. وقام الفنّان شكري سرحان بدور الضابط ابن البستانيّ الذي يعمل عند الباشا، في فيلم من أجمل أفلام السينما المصريّة “ردّ قلبي” من تأليف يوسف السباعيّ وأمام الفنّانة مريم فخر الدين وإخراج عزّ الدين ذو الفقار. فما أشبه الفنّ بالحقيقة وما أشبه ابن البوستنجي “شكري سرحان” بابن البوسطجي “جمال” لفظًا ودلالة ومضمونًا!
فلسطين:
نموّ الوعي العروبيّ عند “جمال” بدأ من حرب “فلسطين” والحفاظ على وجودها ولسانها ووجهها العربيّ أمام الخطر الاستعماريّ والصهيونيّ الماثل لتحدّي الإرادة العربيّة، حين كان يحكم دول العرب أنظمة لا تتقن إلّا التآمر والخيانة، وقيادة فلسطينيّة تقليديّة لا تدرك عظم الكارثة المحدقة، وما يحيق بالشعب الفلسطينيّ من مؤامرات لتشريده وسلخه عن ترابه وتغييبه في المنافي الغريبة، وإحلال المهاجرين اليهود ليحلّوا مكانه في مدنه وقراه وجباله وسهوله وبحره ووديانه وترابه الوطنيّ، فينتزع من “فلسطين” وجودها ووجدانها وعروبتها وشخصيّتها وكرامتها. لقد كانت حرب فلسطين برأي “جمال” دافعًا من دوافع تبلور حركة “الضبّاط الأحرار” وسببًا مباشرًا للثورة في مصر.
الفترة ما بين 1944 – 1945 شهدت البداية الحقيقيّة لنواة تنظيم “الضبّاط الأحرار” بعد تخرّجهم من الكلّيّات الحربيّة وتعيينهم في وظائف في أقاليم مختلفة على طول البلاد وعرضها، ومن خلال هذا الوظائف تعرّفوا على هموم الناس الفلّاحين الفقراء والبائسين في الأرياف والناس الذين يعيشون في الأحياء الشعبيّة المهمّشة في المدن، كان الهمّ والإحساس بالمرارة والعلاقات الوطيدة والحسّ الوطنيّ هي التي تربط بين هؤلاء الضبّاط، فاكتسبوا الخبرة والتجربة بالانخراط بالواقع واكتسبوا الأصدقاء، فكوّنوا معًا “اللجنة التنفيذيّة للضبّاط الأحرار”، وكانت هذه هي الشرارة التي فجّرت عزم هؤلاء الضبّاط على الثورة ضدّ الفساد، وعشيّة “النكبة” الفلسطينيّة سنة 1948، وكانت هي الحرب التي انخرط الضبّاط الأحرار في أتونها فعلًا وبصدق يناقض الأنظمة الكاذبة، التي منعت التنظّيم العسكريّ، فالقوّات كانت منعزلة عن بعضها بلا قيادة موحّدة وبلا ذخيرة وبلا تموين وإمداد، كان “جمال عبد الناصر” في طليعة المقاتلين رغم صعوبة الظروف.
الثقافة:
“إنّ حريّة الكلمة هي المقدّمة الأولى للديمقراطيّة” لقد عرف جمال قيمة الكلمة الحرّة وأدرك أهمّية الديمقراطيّة في حياة الشعوب التي تريد أن تنعم بالكرامة والتقدّم العلميّ، ولذلك تراه يغضب من أعضاء مجلس الثورة بعد انتصارها، الذين أرادوا أن يحكموا بالدكتاتوريّة حتّى يرسخ النظام فأبى جمال وركّز على ضرورة أن يشمل “الميثاق” الوطنيّ على مبدأ “حياة ديمقراطيّة سليمة”، منذ اليوم الأوّل وترك الاجتماع حتّى أدرك الآخرون صدق مطلبه وهكذا كان، كما يريد “جمال” الذي أصبح رئيسًا لمجلس الثورة سنة 1954، فقد أدرك بحسّه المتعاطف مع جماهير الشعب المصريّ من الفقراء والبسطاء والعمّال والفلّاحين الذين لاقوا الأمرّيْن من ظلم الإقطاعيّين والأغنياء والنظام الملكيّ والاستعمار البريطانيّ. فهل جاء قادة النظام الجديد الذي انبثق عن أبناء الفقراء والوطنيّين ومن الإحساس بالظلم والذي من المفروض أنّه جاء لينصفهم ويداوي جراحهم العميقة ويعالج قضاياهم المحرقة ويمنحهم حقّ تنفّس الحريّة والعيش الكريم ليظلموه من جديد! لأنّ “جمال” وبعد سنين من رئاسته للجمهوريّة ما زال يؤمن: “بأنّ الإرادة الشعبيّة هي التي تملك أن تصنع قيادتها، وأن تحدّد لها مكانها، وأنّ الشعب يجب دائمًا أن يبقى سيّد كلّ فرد وقائده، إنّ الشعب أبقى وأخلد من كلّ قائد مهما بلغ إسهامه في نضال أمّته، أقول هذا وأنا أدرك وأقدّر أنّ هذا الشعب العظيم أعطاني من تأييده وتقديره ما لم أكن أتصوّره يومًا أو أحلم به، لقد قدّمت له عمري ولكنّه أعطاني ما هو أكثر من عمر أيّ إنسان”.
وكان لا يمكن لهذا الوعيّ الوطنيّ والقوميّ والطبقيّ والسياسيّ والاجتماعيّ أن يكتمل بدون الثقافة والاطّلاع على التجارب السابقة للأفراد والشعوب والتعلّم منها بالقراءة الواعية والهادفة للتكوّن والتعمّق في النضال والثورة وقلب نظام الحكم الملكيّ إلى نظام جمهوريّ والانتصار على الاستعمار وإجلائه عن تراب مصر وللأبد، فلأوّل مرّة في التاريخ تحظى مصر بالاستقلال التامّ عن النفوذ البريطانيّ، زمن “جمال عبد الناصر” وقيادة البلاد بشرف وحريّة وبمفاهيم ثوريّة عظيمة تليق بعظمة القائد وبعدالة اجتماعيّة توازي وتساوي الظلم الذي عانته الملايين من شعب مصر.
تثقيف الذات كان ديدنه الدائم، والقراءة الدائمة كانت عادته، والفكر المنفتح كان منهجه، فهو علمانيّ رغم كونه مسلمًا ملتزمًا بتعاليم الإسلام السمح الحنيف، والإسلام عنده دين القيم العليا والبعد عن الفساد والمواربة والخيانة والسلوكيّات الخاطئة، كان أبًا حنونًا وزوجًا رؤوفًا فأحبّ دائمًا أن يقضي أوقات فراغه القليلة مع أسرته وأولاده الخمسة، ولذلك عندما كلّف بقتل “حسين سرّي عامر” أحد العملاء للإنجليز والشخصيّة المقرّبة من الملك، وأصابت الرصاصة امرأة بريئة عن طريق الخطأ بكى طيلة ليلته ولم يذق طعم النوم، ومن ذلك التاريخ رفض أسلوب الاغتيال السياسيّ من إيمان مبدئيّ.
قرأ “جمال” عن عظماء التاريخ والشخصيّات من صانعي أمجاد الأمم، تاريخ الثورة الفرنسيّة وتأثّر من مفكّريها: “فولتير” وَ “جان جاك روسو”، وكتب مقالة تمجّد “فولتير” وتبيّن إعجابه به بعنوان “فولتير رجل الحريّة” وقرأ عن شخصيّة “نابليون” وعن شخصيّة الزعيم الهنديّ “المهاتما غاندي”، وكذلك قرأ من التاريخ القديم عن شخصيّة “يوليوس قيصر”، وإلى جانب ذلك قرأ الروايات العالميّة مثل: رواية “البؤساء” لِ “فكتور هيجو” ورواية “قصّة مدينتيْن” لِ “تشارلز ديكنز”. وكان لتاريخ الإسلام والعرب ومصر: القديم والحديث حصّة وافرة من قراءاته المتنوّعة، فقرأ عن شخصيّة المناضل المصريّ “مصطفى كامل” وعن ثورة 1919 وعن قائدها “سعد زغلول”، وقرأ تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، وكان كثير الاهتمام بالموسيقى والغناء والمسرح والسينما والأدب العربيّ وسائر الفنون. وليس غريبًا أن يترك لنا المثقّف بالثقافة الواسعة والمتنوّعة بعض المؤلّفات في السياسة مثل: “فلسفة الثورة” وكتاب مذكّرات “يوميّات من حرب فلسطين” سنة 1955 وكتاب يعدّ مشروع رواية بعنوان “في سبيل الحرّيّة” سنة 1959.
عظمة الصمود والعدوان الثلاثيّ:
ثورة يوليو 1952 والإطاحة بالنظام الملكيّ المهادن للاستعمار البريطانيّ والمساير لمصالحه على حساب مصالح الوطن والانتقال إلى نظام حكم جمهوريّ لا يهادن ولا يساير من يغتصب الأرض والكرامة والثروات، وتأميم شركة قناة السويس وجعلها شركة مساهمة مصريّة أثناء خطاب الرئيس في الإسكندريّة سنة 1956، ولم يكن قد مرّ على رئاسته لمجلس الثورة سنتان، فقد تسلّم الرئاسة سنة 1954 بعد رئاسة محمّد نجيب لسنتيْن، وسياسة الحياد بين الغرب والشرق، وهو ما تمخّض عنه فيما بعد ما سمّي بِ “الحياد الإيجابيّ” ومن ثمّ تكوين منظومة دول “عدم الانحياز” بعد مؤتمر “باندونغ” سنة 1955 ردًّا على حلف “بغداد” الاستعماريّ، وقد قال: إنّ المسيرة المقدّسة التي تصرّ عليها الأمّة العربيّة تنقلنا من فوز إلى فوز وعلم الحرّيّة الذي رفرف فوق بغداد سوف يرفرف فوق عمّان والرياض وعلم الحرّيّة فوق القاهرة ودمشق وبغداد سوف يرفرف فوق الشرق الأوسط كلّه”، كلّ ذلك كان كفيلًا أن يوتّر العلاقات مع الغرب ويؤلّب عليه القوى الاستعماريّة التقليديّة والقويّة: بريطانيا وفرنسا، ولكنّ “جمال عبد الناصر” الذي حظي بشعبيّة واسعة في صفوف الشعب المصريّ أوّلًا والشعوب العربيّة ثانيًا وشعوب العالم الثالث المحبّة للسلام ثالثًا، لم يأبه لنداءات الخضوع والامتثال ومطالب الاستعمار، وقد جلجل صوته: “إذا فرض علينا القتال فلن يُفرض علينا الاستسلام … سنقاتل … سنقاتل”، لأنّ القائد الذي جاء من صفوق الجماهير المقهورة بنى عظمته على عظمتهم وزرع في وجدانهم وعقولهم: “أنّ ثمن الحرّيّة فادح، لكنّ ثمن الذلّ أفدح”، ومن هذا المقام الوفيّ لمصر وشعبها رفض “جمال عبد الناصر” العدول عن قرار الـتأميم ورفض كلّ الإغراءات والمساعدات الكريمة من الغرب، لأنّه آمن بأنّ ثمن القبول هو استقلال مصر وكرامتها فقال متحدّيًا العروض الغربيّة: “لا نبيع استقلالنا بِ 30 أو 50 مليون جنيه ومساعداتكم عَ الجزمة”، امتثل “جمال” وخضع فقط لطبيعة نظامه الوطنيّ والقوميّ ولمصالح مصر وشعبها وأمّتها العربيّة، حيث غزا بصوته الرنّان والمحبّب قلوب الجماهير العربيّة من الخليج إلى المحيط.
دولتان “مقلّعات أنيابهن” في السياسة والهيمنة ونهب ثروات الشرق العربيّ: بريطانيا وفرنسا اثنتان وثالثهما كلبهما إسرائيل، بعد طول تخبّط وانتظار وترقّب وبدون دراسة جيّدة وبسوء تقدير سياسيّ للظروف المستجدّة داخل مصر وجهل كبير في طبيعة النظام الجديد والقيادة الثوريّة الجديدة، تعتدي هاتان المقلّعتان الأنياب والجرو على نظام وطنيّ فتيّ لم يبدّل بعد أسنان الحليب عمرًا، ولكنّه عريق قديم قدم النيل والأهرام نضالًا وتحدّيًا، “جمال عبد الناصر” ونظامه الجديد وجيشه الباسل وشعبه الحرّ يتحوّلون إلى ملحمة نضال وصمود في “بور سعيد” تذكّرنا بملحمة “ستالينغراد”، تهدم البيوت على الرؤوس والمدن: بور سعيد والسويس ويشرّد الناس إلى الداخل، ولا يأبهون للمدافع والطائرات الحاقدة التي تبغي إسقاط نظامهم الوطنيّ ورئيسهم المحبوب والعودة بشعب مصر ليرزح من جديد تحت وطأة الانتداب الأجنبيّ والمهانة والذلّ وليعيثوا فسادًا بمقدّراتها ونهبًا لثرواتها وأملاكها الوطنيّة، والأهمّ سلبًا لإرادتها الوطنيّة ومشروعها العربيّ الكبير. ويشرّق الرئيس للتعاون مع الاتّحاد السوفييتيّ ويأتي التهديد من فم الرئيس “خرتشوف” من على منبر الأمم المتّحدة بالتدخّل العسكريّ أو الانسحاب بالحذاء! فيرجح الحذاء السوفييتيّ الثقيل بالقوّات الاستعماريّة والمتذيّلة الخفيفة. يبدو أنّ ثمّة تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا للجزمة المصريّة والحذاء السوفييتيّ في موازين السياسة العالميّة.
انتصر “جمال” في الحرب وعاد المعتدون يجرّون أذيال الخيبة، وذلك تأكيدًا لمقولته وتصميمه على نيل الحرّيّة للشعب المظلوم الذين عبّر “جمال” عن أمانيه بقوله: “الناس لا يريدون الكلمات، بل يريدون صوت المعركة، معركة المصير”، احتلّت إسرائيل غزّة في طريق عودتها لمدّة ثلاثة أشهر، خرجت منها جروًا “ناعم الذيل” كما دخلت تحت الضربات القاسية للمقاومة الفلسطينيّة الباسلة، كلّ شيء تجردّت منه إسرائيل إلّا حقدها وعنصريّتها، فصبّت وابل حقدها وهي في طريق العودة والخزي على أهالي قرية “كفر قاسم” مرتكبة مجزرة بالأهالي الفلّاحين العزّل العائدين من حقولهم، وسقط 49 شهيدًا من بينهم الرجال الكبار والنساء والأطفال.
الرمز العروبيّ لا ينسى الداخل المصريّ:
مَوْضَعَ “جمال” مصر أوّلًا في الدائرة العربيّة وفقًا لما كتبه في كتاب “فلسفة الثورة” فالانتماء العربيّ هو أقوى الروابط، والعالم العربيّ بدوله الأفريقيّة والآسيويّة هم الأشقّاء، ومصر في المركز جغرافيًّا، وفي القلب وطنيًّا وقوميًّا، أميركا ترفض المسار الوحدويّ العربيّ الذي آمن به “جمال” حتّى النخاع ومضى فيه قدمًا ومضت قوى الاستعمار وحلفاؤه من العرب وغير العرب لإفشاله، وقفت أميركا ضدّ تدخّل مصر في اليمن فأرسل “جمال” جيشه، لأنّه آمن بأنّ “ثورة اليمن هي ثورتنا” وآمن بمساعدة كلّ الأقطار العربيّة الساعية نحو التحرّر والاستقلال في الجزائر، لأنّه يرى وفقًا للمشروع القوميّ أنّ العالم العربيّ كلّ واحد لا يتجزّأ، ولذلك آمن بتحرير فلسطين: “سوف نعود إلى القدس وسوف تعود القدس إلينا ولسوف نحارب من أجل ذلك ولن نلقي السلاح حتّى ينصر الله جنده ويعلي حقّه ويعزّ بيته ويعود السلام الحقيقيّ إلى مدينة السلام”، وغنّت فيروز لزهرة المدائن بغضب ساطع: “إليك يا مدينة الصلاة أصلّي/ البيت لنا والقدس لنا/ وبأيدينا سنعيد بهاء القدس”، من كلمات الرحابنة وألحانهم.
آمن “جمال” بأنّ الوحدة العربيّة موجودة فعلًا بين أبناء الشعوب العربيّة ولكنّ الخلافات بين الأنظمة والحكومات التي تريد ترسيخ الإقليميّة والانقسام العربيّ خدمة لمشاريع غربيّة وتساوقًا مع المصالح الأميركيّة التي عملت مع أعوانها العرب على إفشال الوحدة بين سوريا ومصر سنة 1961، وكانت قد تمّت سنة 1958 بين النظاميّن الوطنيّيْن والشعبيْن الشقيقيْن في مصر بزعامة “جمال عبد الناصر” وفي سوريا بزعامة “شكري القوتلي”، وبنجاحها تزايدت وعلت الأصوات الداعية لتوسيعها وترسيخها. وكان يؤمن بأنّ الخطر محدق بالجميع: “أنّ البادئ في سوريا سوف يثني بمصر، لذلك من واجب الأخوّة العربيّة ومن واجب الأمن القوميّ علينا ألّا نقبل ولا نسكت على الحقد المبيّت ضدّ سوريا”، فما أبعد اليوم عن الأمس في هذا حيث تركت الأنظمة العربيّة سوريا والرئيس “السيسي” على رأسهم، فريسة لأطماع القوى الغربيّة والحركات الظلاميّة، لقد كانت الوحدة العربيّة المؤسّسة على فكرة القوميّة العربيّة النهضويّة والتحرّريّة مشروع حياة “جمال عبد الناصر”. والغرب الاستعماريّ يساوم ويداهن ويداور ويناور ويريد دمج إسرائيل في المنطقة وقبولها، ويريد أن يلجم مصر عن علاقاتها مع الاتّحاد السوفييتيّ الذي وافق على بناء السدّ العالي، بعد أن رفضت أميركا تقديم المساعدة، ووقفت ضدّ التوجّه الاشتراكيّ مخيفة المجتمعات الإسلاميّة بخطر الشيوعيّة الموهوم، ووقفت ضدّ اتّجاه سياسة عدم الانحياز التي كانت مصر وَ “جمال” محرّكها وفي طليعة المنادين بها، مع نهرو في الهند وتيتو في يوغسلافيا ويوليوس نيريري في تنزانيا ونيكروما في غانا وكثير من الأنظمة الوطنيّة في سائر قارّات العالم.
سياسة الأحلاف كانت التكتيك الأميركيّ للهيمنة هي وحلفاؤها على المنطقة، من حلف “بغداد” إلى مشروع “ميكوم” الذي يبغي إنشاء قيادة من دول شرق أوسطيّة لترعى مصالح أميركا ومشاريعها، ولا ينجح المشروع بلا مصر، في سنة 1953 جاء إلى مصر وزير الخارجيّة الأميركيّة “جون فوستر دالاس” بغرض إقامة أحلاف لتطويق الاتّحاد السوفييتيّ فعاد قابضًا على ريح الفشل، أفشل الموقف المصريّ الشجاع كلّ المشاريع والأحلاف الأميركيّة ورفض “جمال” كلّ مخطّطات الغرب، عاد “دالاس” إلى القاهرة ليملي شروطًا بعد أن طلبت مصر معونة عسكريّة وطلبت بناء السدّ، لقد أغاظت تلك الشروط المهينة مصر المقاومة والعظيمة ورئيسها العظيم فوقف وقال لِ “دالاس”: ” لم يعد أمامي إلّا أن أخلي كرسيّ رئاسة الجمهوريّة لك وتصبح أنت مكاني”، وبعد مقابلة دامت نصف ساعة صرخ “جمال” بحزم: “المقابلة انتهت”.
لم تُنسِ كثرة الانشغالات السياسيّة الخارجيّة للرئيس العظيم القضايا الداخليّة التي تشغل بال المواطن المصريّ، فمشروع السدّ العالي جاء ليهب الريف الكهرباء لينعم أهله بحياة سهلة، وتأميم القناة على خطورته السياسيّة الخارجيّة أعطى المصريّين فرص العمل السياحيّ والتجاريّ وفتح الطريق نحو استصلاح الأراضي في سيناء، وكان مشروع الإصلاح الزراعيّ محفّزًا من محفّزات نمو الاقتصاد الوطنيّ زيادة على ما فيه من إحقاق لحقوق الفلّاحين في امتلاك الأرض وزراعتها لهم وليس سخرة للإقطاعيّين الذين تراجع نفوذهم بعد الثورة، ومشاريع صناعيّة كبرى كمصانع الحديد والصلب في حلوان، وحظي المصريّون البسطاء بالكثير من برامج الرعاية الصحّيّة وبالكثير من الرفاه الاجتماعيّ، إذ كانوا محرومين منها من قبل، وصار لهم الحقّ في التنظيم النقابيّ ومجانيّة التعليم من المراحل الأولى وحتّى المرحلة الجامعيّة، ورغم ذلك التقدّم في مجالات الحياة المختلفة والتي أحسّ بمحاسنها المواطن المصريّ العاديّ قياسّا بما سبق من ظروف صعبة قبل الثورة، رغم ذلك ظلّ المصروف العسكريّ بعد هزيمة “حزيران” 1967، وبسبب المجهود الحربيّ والتصميم الناصريّ على بناء جيش نظاميّ قويّ وعلى القتال حتّى استرداد ما أخذ بالقوّة، بسبب ذلك ظلّ الفقر مرتفعًا.
وفي مجال الفنون والثقافة كانت الفترة الناصريّة، وبخاصّة من منتصف الخمسينيّات وحتّى منتصف الستينيّات عصرًا ذهبيًّا فازدهرت الثقافة والصحافة وازدادت نسبة الطلّاب الجامعيّين وازدهرت صناعة السينما وبرامج التلفزيون والفنون المسرحيّة والأدب بكافّة أنواعه وفنونه، شهدت هذه الفترة حضور مصر الثقافيّ والفنيّ، ليس في مصر فقط بل في العالم العربيّ كلّه.

كيف سأنهي:
عندما بدأت تحيّرت من أين سأبدأ، وانتهت البداية بسلام! ولكنّ النهاية أصعب! كيف تقفل موضوعك عندما يكون الموضوع عظيمًا وعن عظيم كَ”جمال عبد الناصر”، ولو كان الكلام عنه بمقدار حبّنا له ما انتهينا، ولا ينتهي حبل الأفكار ولا حبر الكتابة! ولن ينتهي حبّنا له ولو كره الكافرون!
ضمير لبنان الناصريّ ورئيس حركة “الشعب” اللبنانيّة “نجاح واكيم” كتب في جريدة “المنار” في الذكرى السادسة والأربعين لرحيل الزعيم تحت عنوان “هو الحيّ في أمّة متخمة بالموت والموتى” فقال: “حديثي عن جمال عبد الناصر اليوم ليس من قبيل الوفاء للرجل، أو الحنين لحقبة من تاريخ أمّتنا كان هو بطلها، وقد عشتها طفلاً وولدًا وفتى، يومًا بيوم وساعة بساعة، ولا يزال وجهه بعد ستّ وأربعين سنة على غيابه، مشرقًا في قلبي ووجداني، وفي أروع سنّي عمري وأكثرها خصبًا وثراء وعزّة وأملاً. أنا اليوم لا أتحدّث عن ماضٍ انتهى وعن كبير رحل، بل أتحدّث لغدٍ أرى فجره يطلّ من بين كلّ أكداس العتمة التي تلفّنا، ولأمّة أؤمن أنّها سوف تشقّ طريقها من جديد نحو الحريّة والكرامة والحياة”. بعد أربعة عقود ونصف على موته ما زال يمتلئ حياة ويتوهّج نورًا ونضالًا وأسوة حسنة. مجلّة “التايم” الأميركيّة في تقييمها لشخصيّته تقول: “إنّه على الرغم من أخطائه وبعض أوجه القصور لديه، أضفى ناصر شعورًا بالقيمة الشخصيّة والكرامة الوطنيّة التي كان المصريّون لا يعرفونها منذ 400 سنة”.
كان خطيبًا مفوّهًا، ألقى منذ سنة 1953 وحتّى سنة 1970، 1359 خطابًا، ألهب حماس الجماهير وأيقظ حسّها الوطنيّ ضدّ المستعمرين وضدّ أعداء الشعب في الداخل والخارج وحرّض ووجّه وعلّم وأرشد البسطاء، لأنّه كان يحبّهم وكانوا يحبّونه، هذا هو “جمال” رمز الأمّة العربيّة ورمز الكرامة العربيّة ونبراس تحرّرها وممثّل الأصالة المصريّة وقائد مسيرتها للحريّة والاستقلال الحقيقيّ، إنّه أوّل مصريّ يحكم مصر منذ الفراعنة، وأوّل عربيّ يحكمها منذ الفتح الإسلاميّ. رائد عربيّ ورائد على مستوى العالم كلّه ومؤسّس لمنظومة “عدم الانحياز” والتي جعلت من مصر بقيادته دولة كبرى ومؤثّرة في العالم الثالث، لها ثقلها في التوازنات الإقليميّة والدوليّة، كم من مشاريع نجحت لأنّ مصر الناصريّة فيها! وكم من مشاريع فشلت لأنّ مصر الناصريّة لم تدخلها!
سأنهي بقليل من الفنّ:
كان “جمال” القائد والزعيم قريبًا من الفنّانين في مجالات الفنّ المختلفة، يطلب من “فريد شوقي” فيلمًا عن العدوان الثلاثيّ، ويطلب من قطبيْ الغناء والموسيقى: أمّ كلثوم وعبد الوهاب عملًا مشتركًا فتأتي “أنت عمري” من كلمات أحمد شفيق كامل، ويبدي إعجابه بشكري سرحان ويجيزه ويكرّمه عن دوره في فيلم “ردّ قلبي” الذي رأى نفسه فيه، ويبدي أعجابه بغناء عبد الحليم حافظ الوطنيّ وألحان كمال الطويل “صورة” وّ “يا أهلًا بالمعارك” وّ “حكاية شعب”، وعشرات الأفلام السينمائيّة من إنتاج السينما المصريّة، أشهرها “ناصر 56” للرائع أحمد زكي وفردوس عبد الحميد ومن إخراج محمّد فاضل وموسيقى ياسر عبد الرحمن، وفيلم “ناصر” للمخرج أنور قوادري من بطولة خالد الصاوي وعبلة كامل وهشام سليم وجميل راتب، وفيلم “صراع الأبطال” من بطولة شكري سرحان وإخراج توفيق صالح. أمّا المسلسلات التي تناولت شخصيّته وحياته ومسيرته أو جزءًا منها فكثيرة: مسلسل “امّ كلثوم” من إخراج إنعام محمّد علي وقام بدور “جمال” الفنّان رياض الخولي ومسلسلان سوريّان “صديق العمر” قام بدوره فيه الفنّان السوريّ جمال سليمان، والثاني مسلسل “الجماعة 2” من بطولة الفنّان ياسر المصريّ، ومسلسل “ناصر” من بطولة الفنّان مجدي كامل، وهذا غيض من فيض.
وقليل من السياسة والشعر:
أمّا الكتب عن حياته ومسيرته فأكثر من أن تُحصى، أمّا أشهرها فلصديقه المقرّب الصحفيّ محمّد حسنين هيكل كتاب بالإنجليزيّة “عبد الناصر والعالم” حول علاقات “جمال” السياسيّة بمشاهير قادة العالم من رؤساء كخرتشوف وكينيدي ووزراء مثل جون دالاس وثوريّين مثل جيفارا وكاسترو، وهناك كتاب بعنوان “عبد الناصر المفترى عليه” لأنيس منصور، وكتاب لمحمّد عبد السلام الشاميّ بعنوان “جمال عبد الناصر” وَ “الأسرار الشخصيّة لعبد الناصر” لضياء الدين بيبرس، وعن علاقاته مع الإخوان كتب عبدالله إمام “عبد الناصر والإخوان”، وعن حكّام مصر كتب الصحفيّ محمّد فوزي سلسلة، واحدًا منها عن “جمال عبد الناصر”، وكتاب “جمال عبد الناصر من الثورة إلى النكسة” للكاتب عماد بن جاسم البحرانيّ”.
وفي الشعر تغنّى الشعراء بأمجاده وانتصاراته وامتدحوا حُلمه العربيّ ومشروعه الوحدويّ ورثوه بالقصائد والدواوين، نزار قبّاني يرثيه ببكائيّة “لا” ومجموعة من القصائد أشهرها “قتلناك” وَ “الهرم الرابع”، والشاعر المصريّ فؤاد حدّاد كتب بالعاميّة المصريّة مطوّلة في رثائه عنوانها ” استشهاد جمال عبد الناصر” من جزأيْن، الشاعر العراقيّ الجواهريّ قال عنه: “عظيم المجد والأخطاء”، أمّا أحمد فؤاد نجم شاعر الفقراء فقد قال في قصيدة له: “عمل حاجة معجزة/ وحاجات كتير خابت/ وإن كان جرح قلبنا/ كلّ الجروح طابت”. وفي قصيدة لي من ديواني الأخير بعنوان “جمال عبد الناصر”، قمت بتوصيف حالة البؤس القوميّ الذي تعانيه الشعوب العربيّة بفعل تقاعس حكّامها وهزائمهم وخيانتهم لقضيّة العرب الأولى والأساسيّة “فلسطين” فقلت:
“في حالِنا المنكوبِ مذْ حُكّامِنا – كانوا أراذلَ والقلوبُ رقاقُ
صرْنا عبيدًا تحتَ ساداتٍ خا – نوا العروبةَ كلّهمْ مُنساقُ
هذي بلادُ العُربِ بعدَ بقائِهم – ما عادَ تحريرٌ ولا إعتاقُ”
وحَلُمْت وصرخت:
“هذي فلسطينُ تبكي فقدَ فارسِها – الدمعُ جارٍ والجوى خفّاقُ
أينَ الكفاحُ وأينَ أيّامُ الوغى – والشامُ شامٌ والعراقُ عراقُ
والأرضُ ثائرةٌ ومصرُ عزيزةٌ – والسدُّ عالٍ ونيلُها رقراقُ
قمْ يا جمالُ فإنَّني مشتاقُ – عدْ يا جمالُ أما كفاكَ فِراقُ”

وبكلمة أخيرة عن زعيم عظيم ليس لعظمته آخر:
صدمة موته اجتاحت العالم العربيّ والأمّة العربيّة من الخليج إلى المحيط، العرب جميعًا في جنازة واحدة، في كلّ العواصم والمدن والقرى، من حضر منهم إلى التشييع في القاهرة من 5 – 7 ملايين. لقد علّق الأستاذ شريف حتاتة على ذلك بقوله: “أعظم إنجاز لعبد الناصر كان جنازته، إنّ العالم لن يرى مرّة أخرى خمسة ملايين من الناس يبكون معًا”، ومع تلك الملايين الخمسة بكت مئات الملايين في العالم.
جنازة رسميّة حضرها قادة العرب ورؤساء العالم، وعسكريّة ذات “مارشات” عسكريّة وجنائزيّة حزينة، وشعبيّة يهتف فيها الناس غاضبين “عبد الناصر حبيب الله”، كلّ ذلك الحشد في آن واحد، وشعارات معبّرة عن الحبّ للقائد المميّز وأنشودة وداع بصوت الفنّان محمود ياسين الهادئ والرزين، ومشاركة من كبار الشخصيّات من عالم الفنّ والأدب والفكر والثقافة.
لقد مات جمال عبد الناصر الزعيم العروبيّ العظيم وهو يؤمن: بِ “أنّ الأمّة العربيّة لم تحشد قواها ولا نصف قواها ولا ربع قواها حتّى الآن، ولسوف تعمل وتناضل وتقاتل كي يظلّ مصيرها تحت حمى إرادتها”. أمات “جمال” أم قُتل أم سُمّم؟ لم يعد للأمر أهميّة الآن! أكانت الحقبة الناصريّة إيجابيّة أم سلبيّة أم فيها من هذه وتلك؟ جائز! لكلّ تحليله تقييمه وحريّة رأيه، هل كان “جمال” شخصيّة إشكاليّة ومثيرة للجدل والأخذ والردّ وتباين الآراء؟ ممكن! ولكن لا يتنازع اثنان: مؤيّدًا محبًّا له أم معارضًا كارهًا له على زعامته وقدراته وصموده وعروبته وحُلمه العروبيّ ومشروعه الوحدويّ المؤسّس على النضال الذي لا تلين له قناة ولا ينحني له ظهر ولا يطأطئ له رأس، رجل لا يعرف إلّا الشموخ الوطنيّ والعزّة القوميّة والكرامة الإنسانيّة. ومهما قيل فيه واُختلف في نهجه ومساره وانتصاراته وانتكاساته ومشاريعه وإنجازاته، كان له حُلم ومشروع يهدف إلى وضع العرب على سكّة النجاة وجادّة الأمل والحريّة وبرّ الاستقلال والكرامة والخلود بالوحدة العربيّة المؤسّسة على فكرة الانتماء القوميّ العروبيّ.
ترك الحياة ويده نظيفة وجاء ربّه “بقلب سليم”. قال فيه السفير الجزائريّ الأخضر الإبراهيميّ إذ سئل: “كيف يكون الإنسان خالدًا في الدنيا”؟ فأجاب: “أن يخرج منها كما خلقتني يا رب، وجمال عبد الناصر مات على سرير كان قد استعاره من إحدى ثكنات الجيش”. هذا هي الحياة النظيفة واليد البيضاء والقلب السليم، التي تضمن لصاحبها الخلود يا أبا خالد! فنم مطمئنًا! الشعوب العربيّة معك وعلى نهجك وحريصة على السير لإتمام مشروعك وتحقيق حُلمك “الوحدة العربيّة” في الشوارع والميادين، أمّا الملوك والرؤساء فقد دخلوا القرى، لقد كان خليفتك أوّل مَن خان نهجك وحلمك وتابع خلفاؤه وأشكاله في بلاد العرب المسار الفاسد والمهين بلا حُلم وبلا نهج فقد أفقدونا الأمل، “لقد قبضوا كلّهم” لقاء خدماتهم “الجليلة” والخيانيّة، خمسين مليون الجنيه التي رفضتها منذ خمسة عقود، لأنّك لا تبيع شرف مصر والعرب بكلّ مال الدنيا، أمّ الآخرون فباعوا الحلم القوميّ العظيم بأوهام اقتصاديّة وبتحسين مستوى المعيشة وبتكثير فرص العمل، فلا كرامة قوميّة بقيت ولا فرص عمل تزايدت ولا ظروف تحسّنت! فمن أعظمك وأخلدك أيّها العظيم! ومن أبقى وأخلد الشعوب أم الملوك! بئس الأذلّاء الأراذل ويا لعارهم! والمجد والخلود للعظماء الأفاضل، وأبو خالد سيبقى خالدًا خلود الشعب المصريّ والأمّة العربيّة، وخلود الأهرام والحضارة وخلود النيل العظيم وتاريخ مصر التحرّريّ المجيد. مات “جمال عبد الناصر” فذوت العروبة بعده في ليل طالت همومه وغابت شموسها، فهل تعود ورود العروبة إلى التفتّح بعد ذبول وشموسها إلى صبح يتنفّس وإشراق جديد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة