دراسة نقدية لديوان “لمـــاذا” للشاعر شفيق حبيب

تاريخ النشر: 29/09/15 | 11:42

الشاعر شفيق حبيب من الشعراء الوطنيين المبدعين الأوائل في البلاد، يكتبُ الشعرَ الكلاسيكي ( العمودي )والتفعيلة، أصدر حتى (1998 ) إثني عشر ديوانا شعريا، وشارك في الكثير من الندوات والمهرجانات الأدبية محليا وخارج البلاد، مورس َ ضده سابقا التعتيم الإعلامي على نشاطه الأدبي والثقافي والشعري،وهوجم أيضا بنقد لاذع وعنيف من قِبَل أحد الذين يكتبون النقد دون مبرر إلا لهدف في نفس يعقوب.
والجدير بالذكر أن أحد دواوينه عن الإنتفاضة وهو ” العودة إلى الآتي ” صادرته الرقابة ومنعت توزيعه وأحرقته، وسُجن الشاعر بعد ذلك وفـُرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، وقد تضامن معه معظم الكتاب والأدباء والمثقفين المحليين، عربا ويهودا، وجميع أبناء شعبنا الفلسطيني، وكان لقضية سجنه صدى كبيرٌ محليّا وخارجيا، وبعد هذه الحادثة بدأ اسمه يتألق بصورة مذهلة وحقق شهرة كبيرة وانتشارا واسعا محليا وعربيا…حتى أن بعض وسائل الإعلام التي كانت تـُعتـِّم عليه بالذات، بدأت تنشر نتاجه الشعري بغزارة وترحِّب به وتغطي أخباره الأدبية بشكل مكثف، وأصبح من أكثر الشعراء المحليين شهرة،ونجد له دائما موادّ وقصائد منشورة في جميع الصحف والمجلات، وحتى الأطر المشبوهة والمأجورة والمشكوك بنقائها الوطني نشرت قصائده مُرغمة ً وما زالت، بشكل مكثف، لأننا نحن الشعراء الوطنيين لدينا الكثير من المنابر النظيفة ونعرف كيف نصل إلى قلوب وضمائر أبناء شعبنا الأحرار ولأمتنا العربية في الخارج.

ولنرجع إلى الشاعر شفيق حبيب من قرية دير حنــا الجليلية، فشعره من الناحية الشكلية، كما ذكرت، خاضعٌ لقيود الوزن – الكلاسيكي والتفعيلة -، وهو متمكن من اللغة العربية بشكل رائع، ومتمكن من أدواته الشعرية والفنية، وبكونه له سنوات طويلة على ميادين الأدب، أصبحت لديه تجربة خصبة ومتميزة ورائدة في هذا المضمار، ولكن شعره يتفاوت من حيث المستوى، فلا يستطيع الدارسُ أن يحكم عليه من خلال قصيدة أو اثنتين… بل على كل من يريد الكتابة عنه أو ليفهم ويدرس شعره بعمق، عليه أن يقرأ الكثير من دواوينه الشعرية، ولشفيق حبيب قصائد مميزة وخاصة التفعيلية منها فهي على مستوى راق ٍ وعميقة حافلة بالمعاني والرموز والمرادفات البلاغية الجديدة وبالصور الشعرية الحديثة.. فهو كثيرا ما يأتينا بالجديد المبتكر ولا يكتفي بالقوالب الجاهزة، القديمة بيد أننا نجد لديه كثيرا من المعاني المألوفة والمعهودة في الكثير من قصائده خاصة الكلاسيكية ونجد بعض العبارات والمعاني والصور مكررة ومعادة، ولكن هذا الأمر لا يعيب الشاعر لأن هناك شعراءَ كبارا وروّادا من العصر الجاهلي حتى اليوم يكررون بعض المعاني والعبارات حرفيا في عدة قصائد لهم، أما شاعرنا شفيق حبيب فقد تميّز وانفرد في بعض الجوانب والمواضيع عن معظم الشعراء المحليين، وخاصة في وصف الطبيعة وسحرها وجمالها، فهو من الشعراء المحليين القلائل الذين تعمّقوا وتوسعوا في وصف الطبيعة وجمالها وبهائها فتغنى بالسهول والجبال والسواقي والأزهار والطيور والشفق الوردي من منطلق وطني، عكس الكثير من الشعراء المحليين الوطنيين ممن جاء شعرُهم الوطني والسياسي مجرد شعارات وهتافات رنانة مفتقرا إلى الصور الشعرية والإيحاءات الجمالية، فشعر شفيق حبيب أو الكثير منه حافل بالصور الشعرية المدهشة وتكريس وتوظيف عناصره ورموزه للمعاني والأهداف التي يريدها، حافلٌ بالمعاني العميقة وبالرؤى الفلسفية والمستقبلية الشاملة.
ولكن أحد ” العيوب ” في شعره أن قليله تقريري ومنبري مباشر وخطابي وقد جاء لشحن الجماهير مثل العديد من الشعراء السياسيين والقوميين، كما ونجد عنده نزعة التشاؤم واليأس والاستسلام، ففي الكثير من قصائده الوجدانية والسياسية يتحدث عن الوضع الفلسطيني والعربي المزري والصعب، وأن الحكام العرب والعروبة جمعاء ليس بهم أمل أو رجاء إطلاقا، فهو بشكل مباشر ومقصود يدعو الجماهير العربية والفلسطينية أحيانا إلى اليأس، ونحن أيضا لا ننكر أن الوضع العربي سيءٌ جدا ولا يُحسد عليه ولكن بإمكان شاعرنا شفيق حبيب أن يزرع بصيصا من الأمل والتفاؤل في شعره كغيره من الشعراء الملتزمين لأنه يكتب لأبناء شعبه وأمته العربية فهو لسان حالهم، وعليه أن يعمل على إدخال الأمل وشوق النصر وحلم بزوغ الفجر في قلوبهم ووجدانهم من خلال كتاباته وليس أن يكتب لهم لدفعهم إلى اليأس ولاستسلامهم وخنوعهم.
وشاعرنا جريء جدا وعنيف أحيانا في كتاباته، لايهتمّ لأحد ويكتب ما يجيش في وجدانه وقلبه وفي وجدان كل إنسان فلسطيني وعربي حرّ وشريف يحب الكرامة والكبرياء والمجد والسؤدد العربي.

مدخل
إن ديوانه الذي بين أيدينا ـ لمــــاذا؟؟؟ ـ هو المجموعة الثانية عشرة التي يصدرها الشاعر حتى الآن ( عام 1998 ) على نفقته الخاصة كسائر كتبه السابقة، يقع الكتاب في 120 صفحة حجم متوسط، ومقدمة الديوان مأخوذة ومقتطفة من كتاب ” إضاءات في الشعر الفلسطيني المعاصر – الجزء الثاني – من تأليف الناقد والكاتب الفلسطيني د. يحيى زكريا الآغــا – الدوحة – قطر، وفيها يشيد بمكانة ومنزلة شاعرنا الشعرية وعبقريته الإبداعية.
والجدير بالذكر أن الشاعر شفيق حبيب قد حقق شهرة وانتشارا واسعَين في الدول العربية، ونـُشرَ الكثير من قصائده في مختلف الصحف والمجلات الصادرة في العالم العربي، خاصة بعد قضية اعتقاله وسجنه من قِبَل السلطة الإسرائيلية عندما أصدر ديوانه عن الانتفاضة، فقد تألقت شهرته بعدها بشكل سريع وواسع جدا محليا وعربيا لصِدق ِ مواقفــه.

والشاعر شفيق حبيب قد تجاوز في شعره حدود الزمان والمكان وتصدّى لكل محاولات طمس الهوية الفلسطينية، وخرج من بوثقة الظلم السياسي أشدَّ صلابة وعزما وعنفوانا، ولم يكترث بالسجن والإقامة الجبرية التي فرضت عليه وأصبح شعره وصوته في طليعة الأصوات القومية المقاومة المعبرة والمُجسِّدة كلَّ ما يختلج من أحاسيس ومشاعر وآمال وأحلام الفلسطينيين في الداخل والخارج.

وديوانه هذا بعنوان ” لمــــاذا؟؟ ” مثل جميع دواوينه الشعرية السابقة، يبقى الهمّ الوطني هو همَّــه ومدارَ وإطارَ فنه وإبداعِه، فيُظهر فيه أحاسيسَه المرهفة ولغته الثورية النابضة ورمزيته الشفافة القوية.. إضافة ً إلى عظمته بالتزامه القومي العربي ومنهجه… وفي إدارته الفكرية والفنية المميزة، ويظهر أحيانا في شعره الخروج عن دائرة البحور الشعرية الرتيبة والولوج إلى أبواب الشعر المعاصر، حيث أبدع في كليهما إبداعا رائعا لأن المضمون والفحوى لديه هما الأكثر التصاقا ورسوخا بالتجربة، وما الشكل الخارجي للقصيدة الكلاسيكية أو التفعيلية سوى إطار ولباس خارجي يستطيع أن يتحكم فيه ويتفنن كما يشاء.

ويتميز في شعر حبيب القوميُُّ الملتزم، الوطن ُ والأرض ُ والقرى والشهداء والسجون والحياة، وكلها هموم يعيشها مع شعبه، وتـُحرِّكُ فيه الثورة َ الشعرية والذاتية، فلا تكتمل عنده التجربة أو الصورة الشعرية إلا بعد أن تلتحم ذاتـُهُ بالحَدَث والواقع فيتكوّن النصُّ الشعري لديه في صورته التي يشاؤها ولنختر بعض النماذج والنصوص من ديوانه الجديد “لمــاذا؟؟ “..مثلا قصيدة:
“لماذا ارتحلنــــا؟؟…”:

لماذا ارتحَلـْـنا؟؟؟
عن البحر ِ…
والنهر ِ…
والبرتقالْ؟؟؟
لماذا غدَوْنـا رمادَ المقاديــر ِ
في منفضات المـُحـــالْ؟؟
تركنا النجومَ وراءَ الظهــور ِ
وسـَرْنـا إلى الليل ِ في الليل ِ
صَوْبَ اسوداد ِ المــآلْ..
لماذا تركنا السهول َ؟؟
تركنا التلالْ؟؟؟
فهذا جليلي لظىً لا يزالْ…
يـُقبِّلُ مثوى مسيـحـــي
ويدعو مقامَ شـُعَيـْب ٍ
ومســرى الرســول ِ
وأقصى الهلالْ

ويختتم شاعرُنا هذه القصيدة بهذه الكلمات النازفة:
من البيد ِ جئت ُ…
وإني سأرجعُ يوما لأرعى الشـِّياه َ
وأرعى الجـِمــالْ..
هنــاك َ التـَّردّي…
وموت ُ التـَّحَدّي…
وبَـوْسُ الأيادي..
ولـَـثـَْمُ النـِّعالْ….

هذه القصيدة تتحدّث عن مأساة الشعب الفلسطينيّ وتشرُّدِهِ ورحيله عن أرضه ودياره وتشتـُّـتِه في بقاع الأرض، ولكن شاعرنا ينهي قصيدته كما هو واضح بنبرة الحزن واليأس والاستسلام والخضوع، فكان عليه أن يُعطينا صبغة الأمل والإشراق والتفاؤل من منطلق كونه يكتب لشعبه ويمثـِّل ويجسِّد نضاله وقضاياه المصيرية وعليه العمل على النهوض به وعلى شحذ الهمم والعزم للانطلاق وخوض معركة الحياة والبقاء والاستمرارية وليس الاستسلام بهذا الشكل وبوس الأيادي ولثم النعال وكأن كل شيء قد انتهى.
وفي مكان آخر يقول شاعرنا:

لا تلـُمْني في هـــوى هذا الثرى
إنـــه في الســِّـــرِّ عِشـْـقي والعَـلــَـــن ْ
جــوَّعوني… فأنــــا لا أنحنــي
من صخور ِالأرض ِخبزي في المِحَن ْ
لن أخون َالعهـدَ إن جن َّ القضا
مـن دمـي المـُهراق ِ أعطيــه ِ الثمــن ْ
مسجــِدي هـذا..وهـذا هيكـلي
هـــذه قدســي… وإنـي المُؤتــَــــمَـــنْ
وأنــا البحــرُ وأنـهـــارُ الشّـذا
وأنــا خضْـــرُ الــــروابي والفنـَــــــنْ
وأنـــا حيفــا ويافــا… وأنـــــا
ســـورُ عكـّـــا وتبــاريحُ الشـَّجَـــــــن ْ
إن يَطـُلْ ليلي ففجري هـــادِرٌ
يبعثُ الأضـــواءَ في الليــل ِ الدّجـــنْ
أنـا باق ٍ يـا فلسطين ُ! اشهدي
إنمــا الزائــــلُ خضــراءُ الـــدِمَــــــنْ

في هذه القصيدة التي اخترتُ منها بعض الأبيات، يُلخـِّصُ شاعرُنا تجربته الذاتية والفنية ومعاناتـَه ونضالـَه ضدّ العنف والأحكام الجائرة التي وُجِّهت ضده بصدد أشعاره الوطنية الحماسية ويجَسِّد نضال شعبه الفلسطيني، ونحسُّ بكل همسة وبكل عبارة وكلمة، صِدقَ الشاعر وانتماءَهُ القوميّ ومدى حبه وعشقه وتعلقهِ بالأرض والوطن وانتمائه ومدى تلاحمه ونضاله وتضحيته..

وفي هذه القصيدة نجد روحَ المقاومة والنضال بكل معنى الكلمة، ونجد الأمل المشرق رغم الليل الجاثم على صدر هذا الشرق، ورغم المآسي التي مرّ بها شعبنا الفلسطيني، سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الحق ويبزغ الفجرـ فجر الحرية ويأخذ شعبنا الفلسطيني حقوقه الكاملة، وتقرّ عينه في ثرى وطنه وتراب الأهل والأجداد، فالقصيدة رائعة من جميع النواحي الفنية واللغوية والمعنوية والذوقية والبلاغية.

وفي قصيدة أخرى يتحفنا شاعرنا بقوله:
تظلـّين َ في عينيَّ أحلـى فراشــــــة ٍ
وفي خاطري أسمى حروف ِ المعاجم ِ
تجيئين َ رعـدا ً ثمّ برقا ً فهاطِــــــلا ً
تـُضيئين َ في هــذي الليـالي القـواتــم ِ
فهل أنت ِ نورٌ في مجاهيل ِ غربتي؟
وهل أنت ِ نصــرٌ بعدَ كلِّ الهزائِــــــــم ِ
لقد علـّمَتـْني جولة ُ العِشـْق ِ أننـــي
كسـيــرٌ وغيـري مستبيــحٌ غنائمــــي

في هذه الرائعة تبدو محاولة شاعرنا بالسير نحو التجديد والخروج عن المعاني المألوفة والقوالب الشعرية والعبارات التقليدية الجاهزة، مع محاولة تطوير وترميم بعض الصور والمعاني المستعملة سابقا، ففي القصيدة يتحدث عن فتاته فيشبهها بالأرض والوطن، ويوظف بعض العناصر والظواهر الطبيعية ليدعم فكرته وموضوعَه الذي يصبو إليه، فهذه الحبيبة أو الوطن أصبحا لدى الشاعر جسدا واحدا وكيانا واحدا، فللإنسان الملتزم تبقى الأرض والعرض أغلى ما يملك حيث أن الإثنين صنوان لا ينفصلان.

ويظهر في القصيدة مقدرة شفيق حبيب اللغوية والشعرية والفنية وقدرته الفائقة على التجديد والإبداع في الشعر الكلاسيكي (العمودي ) الشاق والمُقيـِّد لخيال وفن الشاعر وشطحاته وارتقائه.

وأخيرا ً، إن شفيق حبيب شاعرٌ كبيرٌ وعملاق، وركنٌ أساس في حركتنا الشعرية والأدبية، فعندما نذكر الشعراء الملتزمين فهو في الطليعة، استطاع أن يفرض حضوره على الساحة الأدبية بفضل مستواه الإبداعي الراقي وتواصله النضالي القومي، رغم جميع المحاولات الإعلامية الآثمة والنقدية الرجعية المأجورة التي حاولت النيل منه والتعتيم عليه والتشويش والتخريب وعرقلة انطلاقته الشعرية الرائدة وشهرته وانتشاره، وهو من أكثر الشعراء المحليين إنتاجا وحضورا وعطاءً متواصلا ً وإبداعا ً، فنتمنى له العمر المديـــد وأن يتحفنا دائما بالكثير من الإبداعات الشعرية والإصدارات الأدبية المميزة.

حاتم جوعيه – المغار – الجليل

7atemjo3eh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة