قراءة في رواية “فرودمال”
تاريخ النشر: 14/03/18 | 6:39رواية “فرودمال” للكاتب قاسم توفيق تزجُّ بالقارئ في حالة ترقّب وتوجّس وتشوّق من نقطة ما قبل البداية، حين يُعلن الكاتب تحت عنوان: “إيضاحٌ مهمّ جدًّا” أنّ أيَّ تشابه في الأحداث والشّخصيّات مع الواقع قد يكون مقصودًا”، ومن ثمّ لا يترك مجالاً للقارئ للتّكهّن أو البحث عن معنى عنوان الرّواية فيُقدّمه له جاهزًا: “فرويد كلمة إنجليزيّة تعني إحتيال”. هذه العُجالة التي يشعر بها القارئ لا شكّ أنّها تُنذر بأهمّية ما سيأتي وبجدّيّة ما سيُقال. والقولُ يعني البوح، والأخيرُ يعني المواجهة، والمواجهة تعني الجرأة. والكتابة في نظر قاسم توفيق هي جرأة المواجهة. أي مواجهة الواقع الرّديء بالكتابة. وأيّ واقع هذا الذي يقصده الكاتب في هذه الرّواية؟ هو واقع الفساد الذي ينخر في مجتمعاتنا العربيّة ويكاد يفتك بها. واقعٌ يكشفه ويفضحه عبر كشفه وفضحه لحالات احتيال وفساد مستشرية في أحد الأجهزة المصرفيّة في مدينة عمّان في الأردن.
بطل الرّواية يُشبه الكاتب إلى حدّ كبير، الأمر الذي يُفسّر اختلاط الذّات الكاتبة بالذّات السّاردة سواء عند استخدامه لضمير المتكلّم أو ضمير الغائب. والكاتب، وبحسب الإيضاح الذي أورده، واع لهذا الخلط ويقصده. فبطل الرّواية هو إبراهيم الحاج والكاتب هو قاسم توفيق الحاج، بطل الرّواية شيوعيّ يعمل في البنك الائتمانيّ الدّوليّ منذ عشرين عامًا موظّفًا مساعدًا لمدير دائرة الرّقابة والتّفتيش، والمعروف أنّ الكاتب قاسم توفيق انخرط في العمل الحزبيّ الشّيوعيّ منذ أيّام دراسته الثانوية وحتى أواخر الثّمانينات من القرن الماضي وعمل في القطاع المصرفيّ مساعدًا للمدير العام في بنك أردنيّ لسنوات كثيرة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ مستوى الكتابة يتأثّر بمدى إلمام الكاتب بالموضوع المُتحدّث عنه، وبالتّالي ينعكس ذلك على مدى مصداقيّة الرّواية، وهذا ما كان في “فرودمال”. فعمل الكاتب في هذا القطاع بالذّات جعله ملمًّا بكلّ الدّقائق والتّفاصيل وهذا أمر مهمّ جدًّا ويُحسب للكاتب وللرّواية فحتى كتابة هذه المداخلة النّقديّة تطلّبت منّي مراجعة ودراسة بعض المصطلحات والمفاهيم المصرفيّة. وبغضّ النّظر عن مستوى الحبكة في هذه الرّواية، فإنّ فيها فائدة للقارئ وتزويدًا بالمعلومات، علمًا أنّها ليست رواية تعليميّة وبعيدة كلّ البعد عن كونها كذلك. ولكن إضافة هذه المعلومات للقارئ يضفي عليها المصداقيّة، ممّا يعطيها قيمة أكبر خاصّة أنّنا نتحدّث عن قطاع من أهمّ القطاعات التي تتحكّم بمصائر النّاس. فجهل النّاس بالنّظام البنكيّ والمعاملات، بغضّ النّظر عن مستواهم التّعليميّ والأكاديميّ، يفتح المجال أمام أبسط الموظّفين للتّلاعب والاحتيال.
“فرودمال” هي رواية الصّراع بين الخير والشّرّ.. مَن المنتصر؟ هي قضيّة خطيرة! رواية، من ناحية منطقيّة وأخلاقيّة، مبنيّة على التّناقض في مضمونها. كيف؟ البنك- مكان الائتمان والثّقة، ولكن في الرّواية نجد خيانة لهذا الائتمان. كما أنّ مكانَ الائتمان لا يمكن أن يكون صاحبُه رئيسَ عصابة!!
إبراهيم الحاج هو بطل الرّواية المأزوم والمغترب. هو ذلك الموظّف البسيط الذي يحتفظ بأكوام الأدلّة التي تُثبت فساد البنك الذي يعمل فيه، وفي حوزته معلومات تُشير إلى وجود حالات احتيال وتزييف واستغلال للآخرين وفوضى في إدارة موارد البنك وموظّفيه. في يديه عشرات التّقارير التي تكشف عمليّات التّحايل والتّلاعب في الحسابات، وتفضح صفقات ومشروعات واختلاسات وانتهاكات أُسدل عليها السّتار.
وإبراهيم الإنسان المستقيم والنّزيه، صاحب المبدأ والحالم بالعدالة الاجتماعيّة والذي يرى بإخلاصه لعمله إخلاصًا لناسه وبلده ووطنه، لم يعد قادرًا على معايشة قبح العالم هذا، وقد أضحى الفساد فيه حقيقة يوميّة وأصبح تقييم المرء فيه مادّيًّا، لا إنسانيًّا أو أخلاقيًّا.
شعور إبراهيم بوجوب كسر الصّمت ومواجهة الفساد من ناحية، وشعور العجز عن فعل أيّ شيء من ناحية أخرى، هو الشّعور ذاته الذي يعتري الواحد منّا أمام انهزامه تجاه عبثيّة الحياة وأنّنا نعيش في عالم ليس لنا. فنحن، في لحظات كثيرة، لا نعرف كيف تسير بنا الأمور في هذا الزّمن، نشعر بالغربة، بالعجز أو ننتظر شيئًا غامضًا تخبّئه لنا الأيّام. بطل الرّواية يحاول على امتدادها معالجة الصّدع الذي حدث بين الذّات والعالم المحيط. فالعالم مرفوض لديه ومناقض للقيم الحقيقيّة في نظره. هذا العالم الذي لا يكتفي بالتّفرّج على ما يرتكبه أصحاب السّلطة والنّفوذ من جرائم مروّعة بل يُسارع إلى تجميلهم وتأييدهم وحمايتهم، ويُقدّم لهم العون الذي يكفل لهم البقاء والاستمرار. يقول بطل الرّواية: “بدوتُ صغيرًا قزمًا أمام حيتان من العصابات والمافيات والقوّادين، يحكمون كلّ شيء ويتحكّمون في كلّ شيء. لهم سطوة على حياتنا، بدءًا منّي وانتهاءً بمن يرضخون لسلطتهم، الصّحُف والمساجد ومخافر الشّرطة وحتى المحاكم”.
على امتداد الرّواية يسوق لنا الكاتب نماذج الفساد الإداريّ والماليّ عبر لغة مشحونة بدلالات الاستنكار والرّفض والسّخرية، خاصّة على مستوى الشّخصيّات. والحقيقة أنّني لم أجد وصفًا أدقّ تعبيرًا لشخصيّات الرّواية ممّا كتبه زكريّا تامر في قصّة قصيرة جدًّا تقول:
” سُئل أبو حيّان التّوحيديّ أسئلة مستمدّة من حياتنا الحافلة بما يقهر ويذلّ ويهين ويحيّر:
من يحقّ له أن يضحك اليوم؟ فأجاب أبو حيّان: اليوم يضحك القاتل والجلاّد واللّص والخائن والمنافق والجاهل.
ومن سيضحك أخيرًا؟ فأجاب أبو حيّان: سيضحك القاتل والجلاّد واللّص والخائن والمنافق والجاهل، وستضحك أيضًا ضحاياهم في قبورها لكونها وُفّقت في الهجرة من عالم الأحياء إلى عالم الظّلمات”.
وبغضّ النّظر عن سوداويّة الواقع التي تعكسها هذه القصّة، فإنّ كاتب “فرودمال” حين ساق لنا شخصيّات روايته، لم يكن همّه بحث ظاهرة الفساد وتحليلها وتشريحها كما هو في العلم السيكولوجيّ، وإنّما كانت رغبته في تعرية وكشف المسبّبات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة. فنراه ينهمك في وصف الخلفيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لكلّ من هذه الشّخصيّات ليصل إلى أنّ هذه الخلفيّة تسير جنبًا إلى جنب مع نموّ تلك الظّاهرة.
فخليل الجواهري رئيس مجلس إدارة البنك مثلاً، يعاني من مرض العزلة ويتردّد على طبيب نفسيّ مرّة كلّ سنة. ونافذ الأهرش السّاعد الأيمن للمدير العام قد مدّته سنوات الفقر والجوع والتّشرّد التي عاشها هو وأهله بكمّ كافٍ من الحقد جعله يتفنّن بتشريد مئات الأسر ورميهم في الشّارع.
ثمّ تكشف لنا صفحات الرّواية عن الأسباب المباشرة لحالة الفساد التي يقبع فيها البنك بإدارته وموظّفيه، وذلك باستغلال السّلطة من أجل المنفعة الخاصّة والكسب الخاصّ وعدم النّظر الى اعتبارات الكفاءة والجدارة والخبرة عند اختيار الموظّفين، فكلّ من يعملون في إدارة هذا البنك يقول إبراهيم “لم يتبوّؤوا المناصب التي هم فيها بالجهد والخبرة، أو حتى بالتّخصّص في مجال عملهم، فيكفي أن يكون من الأثرياء العريقين، وأن يحمل شهادة جامعيّة من أميركا أو أوروبا، وأن يتحدّث الإنجليزيّة بطلاقة”.
فحسام البيك- المدير العام على سبيل المثال، ارتقى إلى مرتبة مدير عام في البنك بعد أن كان بائعًا في شركة دعاية وإعلان بوساطة والده صاحب الثّروة الكبيرة التي جمّعها نتيجة لاستيراد الحشيش والخمور.
أمّا الشّخص الذي تُثبَت عليه جريمة الفساد كمدير التّفتيش والرّقابة مثلاً، فيتمّ منحه التعويضات القانونيّة المقرّرة ومكافأة على خدماته الجليلة وشهادة بحسن سلوكه. ليكون بعد أسابيع قليلة قد انتقل للعمل في بنك آخر بامتيازات أفضل بكثير ممّا كان يحصل عليها في البنك الائتماني الدولي. بينما لا يبالون بالقضاء على مستقبل موظّف بسيط هو طالب جامعي اقترف خطأ بسيطًا.
وتتجلّى السّخرية الأكبر في أنّ الالتفات إلى موظّف نزيه وأهل وكفؤ ومخلص مثل إبراهيم يكون فقط وقت الأزمات.. فخروج هؤلاء من الأزمات والورطات لا يكون إلاّ على يد من هم مثل إبراهيم الحاج “الذين يقبعون في الظّلّ”.
هذه الرّواية تُثير القارئ وتستفزّه وتُثوّره وتدفع به إلى طرح أسئلة وجوديّة تأمّليّة قلقة:
ما الذي تغيّر؟ ولماذا وصلت الضّحالة في كلّ شيء إلى هذه الدرجة التي يقرّ بها الجميع؟ لا شكّ أنّ الإجابة تكمن في التّغيّر الحاصل على مستوى تطوّر المجتمعات . ولكنّنا نقول: إنّ التطوّر، حين يمسّ القيم الإيجابية والأخلاقيّات الرفيعة التي يتميّز بها الإنسان عن غيره من الكائنات، فلا يمكن اعتباره إلاّ سيرًا نحو التّردّي. صحيح أنّ القيم المادّيّة لها تأثير كبير في حياة الناس، لكنّ هذه الماديّات حين لا تتماشى مع القيم الأخلاقيّة والثقافية تحوّل المجتمعات إلى كائنات أنانيّة شرسة، لا يهمّها من وجودها غير كسب المزيد، بغضّ النّظر عن الآخر.
وللأسف، فإنّ مظاهر الفساد بكلّ تجلّياته من ظلم واستبداد ونهب وقمع وقتل، تبدو اليوم محمولة على دفقة جديدة من التّصاعد الرّهيب، في جميع أنحاء العالم، بما يبعث على القلق، ويحتّم التّأمّل فيها مطوّلاً شأنها شأن باقي الظّواهر السّياسيّة والاجتماعيّة. فلا تكفي في إيجادها أو إزالتها عزيمة فرد أو أفراد، لأنّها حصيلة جملة من العوامل والشّروط والظّروف، وهي ثمرة مركَّب كبير معقّد من البواعث والقوى.
رحلة إبراهيم الحاج في الرّواية ما هي إلاّ رحلة الإنسان في البحث عن العدل والحريّة والكرامة، وهي الرّحلة التي خشي البطل أن تكون كرحلة سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة أن يرفع صخرة دون انقطاع إلى قمّة أحد الجبال، حيث تستمرّ الصّخرة بالسّقوط بسبب ثقلها، ويستمرّ سيزيف في عمليّة الهبوط والصّعود، ممّا جعل عمله طوال حياته مكرّسًا من أجل لا شيء. هذا الشّعور بالعجز، وفي الوقت ذاته التشبّث بالأمل ورفض الانهزام والاستسلام جعل إبراهيم يدخل في علاقة فاسدة مع سكرتيرته “مريان” هذه العلاقة التي جاءت لتطرح قضيّة الضّعف أمام الفساد، كذلك قضيّة النّفاق: أنا فاسد وأتحدّث عن الفساد! فمريان تصغره بثلاثين سنة وهي على غير دينه، كما أنّه شخص متزوّج! فكيف يُبرّر لنفسه فساده؟ وسرعان ما نراه، كسائر الفاسدين، يُلقي اللّوم على الظّروف وعلى الحاجة وعلى غياب العدالة خاصّة مع شخصيّة زوجته الإشكاليّة. والسّؤال هنا: كيف ينظر القارئ لفساده؟ وهل يضعه تحت خانة الفاسدين التي تضمّ مدير البنك والمدير العام ومساعد المدير وأمثالهم؟ أعتقد أنّ القارئ قد انحاز لشخصيّة البطل وتعاطف معه إلى حدٍّ يجعله يتقبّل فساده هذا ويتفهّم حاجة إبراهيم الماسّة لهذه العلاقة التي انتشلته من الهوّة العميقة التي كان يهوي إليها وأعادته إلى الحياة. يقول: “ما تملّكني من أحاسيس تجاه هذه المرأة كان محاولة لأن أُبعث من جديد”. فمريان هي الشّيء الجميل، الخيّر، الإنسانيّ، العادل الوحيد الذي بقي له في مكان العمل وفي كلّ الحياة، فكان امتزاج الذّكورة والأنوثة في دائرة الجسد والجنس يُقابل احتراق العنقاء لتنتج ذاتًا جديدة ترمز إلى تجدّد الرّغبة في استرجاع الحياة على الرّغم من الموت المتواصل. ففي لحظاته مع مريان “كان العالم الفاسد القبيح يختفي، ويصنع لهما بدلاً عنه كونًا صغيرًا جميلاً”.
وإذا كانت صخرة سيزيف هي السّلطة الرّأسماليّة وما بها من فساد وعفن واستبداد وظلم ولا إنسانيّة، فإنّ إبراهيم مصرّ على تعرية انتهاكات ذوي السّلطة وشجب الظّلم، والكفاح من أجل الحقّ والعدل والحرّيّة حتى لو تطلّب ذلك موته. فنراه لا يفقد الأمل، ويظلّ إيمانه بقدرته، وقدرة أمثاله من المظلومين والمسحوقين على التّخلّص من صخرة سيزيف وتحقيق العدالة الاجتماعيّة إيمانًا قويًّا صلبًا وهو يحمل على كتفيه مهمّة تحقيق هذه العدالة في قوله: “كنت أحسّ بأنّي إن نجحت في تنفيذ مهمّتي لن أكون أكثر النّاس سعادة وحسب، بل إنّي سوف أجعل كوكبنا الأرض أكثر جمالاً”. فيُقرّر أن يضع حدًّا لكلّ هذا الفساد وأن يُخلّص النّاس من شرور الفاسدين، فيرتكب جريمة قتل المدير والمدير العام وساعده الأيمن ويكون جاهزًا لمواجهة العقاب على ارتكاب هكذا جريمة، فيُعدَم، ليكون موته ممهّدًا وباعثًا للحياة التي أرادها وهنا يُعيدنا إلى قضيّة محمد البوعزيزي الشاب التونسي الذي قام بإضرام النار في جسده عام 2010 احتجاجًا على مصادرة السّلطات لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه. هذا الاحتراق أدّى لاشتعال انتفاضة شعبيّة وثورة أطاحت بالرّئيس زين العابدين بن علي. ثمّ إلى انبعاث الرّبيع العربيّ وكلّ الثّورات التي اشتعلت في العالم العربي بغضّ النّظر عن نتائجها.
هكذا، كان قاسم توفيق واعيًا ومدركًا لأهميّة بثّ التّفاؤل والأمل في نفس القارئ الذي شهد، بنوع من الإحباط واليأس، انتصار الشّرّ في كلّ موقف وحدث في الرّواية. لينبثق النّور ويشعّ الأمل أمام حقيقة لا يمكن أن تتزعزع أو تضعف مهما استقوت الشّرور واستشرت. الخير هو المنتصر وإنسانيّة الإنسان هي الجوهر وهي الباقية. إبراهيم- بطل الرّواية- أُعدم، مات متعذّبًا، متألّمًا، غاضبًا ومحترقًا لكنّه ينبعث بعد احتراقه، كطائر الفينيق، ويخرج إلى الحياة بعد الموت قلبًا قويًّا كبيرًا.
د. رباب سرحان
(أصلُ المقال مداخلةٌ لي في النّدوة التي أقامها نادي حيفا الثقافي بتاريخ 08/03/2018 احتفاءً بالكاتب قاسم توفيق).