حين تتسلق الروح جسدها المنكوب – قراءة في رواية أرواح كليمنجارو لإبراهيم نصر الله
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 03/07/25 | 17:12
في عالمٍ مأهولٍ بالخذلان، حيث لا يبقى من الإنسان سوى ظلّ جراحه، يأتي إبراهيم نصر الله ليسكننا روايته أرواح كليمنجارو، لا ككاتب يروي، بل كمُداوٍ ينكأ الجرح ليُعري النور المتواري في أعماقه. ليست هذه رواية عن تسلّق جبل، بل عن صعود الإنسان فوق قهره، رواية لا تهاب الحقيقة ولا تستعير المجاز إلا لتوقظه من نومه الخامل.
أرواح تجرّ ظلالها نحو القمة
أبطال نصر الله ليسوا أسطوريين، بل أكثر واقعية من شمسٍ قُصفت في غزة. هم مبتورو أطراف، فقدوا أجزاء من أجسادهم برصاص الاحتلال، لكنهم لم يفقدوا تلك الشرارة الخفية التي يسمّيها نصر الله الكرامة، الإصرار، معنى أن تكون فلسطينيًا رغمًا عن الجغرافيا والعطب.
يأخذنا الكاتب في رحلة صعود إلى قمة كليمنجارو، وكأنه يقول: “من قال إن الناقص لا يصعد؟ من قال إن المبتور لا يعلو؟”
هنا تتعرّى الحدود بين الجسد والروح. يصير الجرح هوية، والصعود هو انتقام ناعم من عالم أرادهم حفنة من اليأس فصاروا جسورًا نحو الضوء.
اللغة: نار هادئة، ورقّة مشتعلة
لغة إبراهيم نصر الله في هذه الرواية ليست فقط شعريّة، بل نثرٌ يدمع. لا يسقط في المباشرة، ولا يتخفّى خلف الزخرف. إنما يكتب كما يصرخ طفلٌ فقد ذراعه، ثم يبتسم لأنه ما زال يستطيع الإمساك بالحياة بإصبع واحد.
في أحد المشاهد، حين تقف البطلة ريما على ارتفاع آلاف الأمتار، دون ساقين، يقول نصر الله على لسانها ما معناه: “لم أكن بحاجة إلى قدمين كي أصل، كنت بحاجة إلى ذاكرة لا تخونني.”
هنا تكمن المعجزة: كيف تجعل من الذكرى المُرّة وقودًا للعزيمة؟
الأنثى في الرواية: جسدٌ يقاوم وسقوطٌ ينهض
في عالمٍ ذكوريّ بامتياز، يمنح نصر الله بطلاته مساحات من البطولة العارية، لا المتبرجة بالبطولات الزائفة. ريما وهدى وغيرهنّ لا يكنّ مجرد رموز، بل كائنات من دم ودمع، يسقطن ويقمن، لا تزيّنهنّ البلاغة بل الصدق.
ريما، التي فقدت ساقيها، لا تتسول نظرة شفقة، بل تنحت لنفسها طريقًا فوق الجبل، فتنتصر على جاذبية الأرض كما تنتصر على قسوة الذكريات.
كليمنجارو كرمز: الجبل كجرح، والصعود كغفران
الجبل هنا ليس جغرافيا، بل استعارة لجدار الفصل العنصري، لأسوار العجز العربي، لقمم الحرية التي لا تُمنح بل تُنتزع.
صعود أبطال الرواية، رغم الإعاقات، يفضح عجز من لا يفعلون شيئًا رغم امتلاكهم كل شيء.
تُشبه الرواية صفعة روحية تقول للعالم: “انظروا كيف نتسلق ونحن مكسورون… فماذا عنكم وأنتم بكامل قوتكم؟”
رؤية إنسانية تتجاوز المكان
رغم أن الرواية فلسطينية النبض، إلا أنها لا تُحاصر نفسها في المحليّ. هي نداء كونيّ للحرية، للكرامة، لتجاوز الألم الفردي نحو معنى أوسع.
تبدو “أرواح كليمنجارو” كأنها تقول: “ليس المهم أن تنتصر، المهم ألا تقبل الهزيمة وأنت قادر على المحاولة”.
نصر الله كجراح يداوي بالكتابة
إبراهيم نصر الله في هذه الرواية ليس محايدًا، بل منحازًا للضعفاء الذين صنعوا من ضعفهم ملحمة.
هو لا يكتب ليعجب، بل ليشهد.
لا يروي ليبهر، بل ليُجبر قلبك على الاعتراف: هذا الألم هو ألمك، وهذه القمة قد تكون خلاصك.
خاتمة: الأدب كعكاز للروح
أرواح كليمنجارو ليست فقط رواية، بل صلاة مكتوبة على هيئة أمل.
صلاة تتلوها أرواحنا كلما سقطنا، فتمنحنا سببًا آخر لننهض.
هي دعوة صريحة لأن نغيّر تعريف القوة، لا من يمتلك السلاح بل من يصعد رغم النقص.
في زمن يُقصى فيه الإنسان لأنه فقد جزءًا من جسده، تعيد لنا الرواية هذا الإنسان بكل أجزائه… لا كما هو، بل كما يجب أن يكون: منتصبًا في وجه الريح، حتى لو لم يكن له ساقان.