الصامت من ميعار!
تاريخ النشر: 28/08/13 | 23:34اندفعت باتجاهها، قائلة وعيناها تشتعلان ببريق مضطرب: اسمي عوفرا..
– وأنا انتصار..
– أنا من مستوطنة "ياعد" قرب كرمئيل، أتعرفين المنطقة؟
ضحكَت انتصار باستهزاءٍ وهي مديمة النظر إلى عينيها: كرمئيل مبنيةٌ على أرضِنا التي صودرت من قريتي والقرى المجاورة.
– من أيَّة قريةٍ أنت؟
– أنا من دير الأسد، هنا ولدت وهنا ولد وعاش آبائي وأجدادي منذ مئات السنين.. وكيف وصلت أنت إلى الشمال؟
– هاجرتُ من الأرجنتين، عام 1950، وسكنتُ في مدينة تل أبيب. كنا مجموعة برجوازيين أثرياء. نعيش في بحبوحة من العيش. نؤمن بالفكر الصهيوني وكنا مستعدين لتقديم الغالي والرخيص من اجل توسيع دولة إسرائيل. تركنا تل أبيب واستوطنّا في الجليل، الذي اعتدنا زيارته للسياحة وليس للسكن، لافتقاره لفرصِ العمل والحياةِ الاجتماعيةِ الصاخبةِ الموجودةِ في المركز آنذاك. اخترنا مستوطنة "ياعد"، المتربعة على قمة سلسلة من جبال الجليل. تطل على السهول التي تحتها إلى خليج حيفا. منها يمكن مشاهدة ميناء حيفا وقمة جبل الكرمل. إنها حقا قطعة من الجنة.
– "ياعد"، كان اسمها ميعار، وهي قريةٌ فلسطينية، أهلها مشردون يعيشون حولكم.
امتعضت عوفرا من الحديث، ولطـّفت حدّة نظرتها، وأردفت قائلة: لم نسكن في أراضي ميعار، بل على أطرافها، ثم من أين لك هذه المعلومات؟
– عَرفتُ ميعار عن طريق عمي أبو حسن دغيم- والد زوجي- الذي لم تندمل جروحُه بعد، وُلدَ في ميعار وهو يَعرفُ كلَّ شِبرٍ من أراضيها، وكلَّ زهرةٍ تنمو بين رُبوعِها. صخورُها مزَّقَت لحمَهُ عندما كان صغيرا يطارد ماشيتَه. يعرف آبارَها وطيورَها وأشجارَها. تفجر قلبه من ينابيع العشق لميعار، ولا يزال اسمُهُ محفورًا على بعضِ أشجارِها وصخورِها. بكاها حتى كادَ يفقد بصرَه.
– لم أعرفْ أنك شاعرَة!
لم تهتم انتصار لتعليق عوفرا واستهزائها، وواصلَت حديثَها بثقةٍ: بعد أن طُردَ أبو حسن من ميعار مَهزومًا شرَّ هزيمة، رفضَ زيارتَها كأهلِ بلدتِهِ الذين يزورونَها بشكلٍ دائمٍ للعنايةِ بمقبرتِها.
– أين يقيمُ أبو حسن؟
– في سخنين. عُرفَ عنه انه الرجل الصَّامتِ الآتي من ميعار، كان وجهُهُ بلونِ النار وأصبحَ الآن شاحبًا كالرمادِ، يمرُّ بالقربِ من قريتِهِ فيطأطئُ رأسَهُ حتى لا يرى أطلالَها. عندما ألحَحتُ عليه بالسؤال: لماذا أنت دائمُ الصَّمتِ يا عمي؟ رفعَ أبو حسَن رأسَهُ وهو يفكرُ بكلماتِهِ بعنايةٍ، نظرَ إليّ بعينيِهِ الشَّاحبتين وقالَ بحزنٍ عميقٍ: ماذا سأقولُ وقبورُنا مرعى للحيواناتِ وتُداسُ بأقدامِ المستوطنين؟ إن أمواتَنا يتمَلمَلون في قبورِهم. ما زالَت قشعرَيرَةُ الهَلعِ تَسري في أوصَالي. أزيزُ الرصَّاصِ ودويُّ المَدافعِ يصمُّ أذني في شهرِ تموز من كُلّ عامٍ، حين دُمرَت ميعار سنة 1948. تَألَّفت بلدتُنا من نحوِ 130 منزلاً بُنيَت بِسواعدِنا، وحولَ كلِّ منزلٍ أرضٌ زراعيةُ ومواش ٍ. وبسببِ القصفِ المِدفعيِّ الكَثيفِ والرَّهيب، قُتلَ مِنا مَن قُتل وفَرَّ الباقون ودمرت القرية.
عاد عمي لصمته، ثم أردف قائلا كالمحبين الهائمين، المتوهجين: يُميَّزُ كلُّ ميعاري من بين ألفِ رجلٍ بهيئتِهِ وحديثِهِ، رجالُنا أشداء ووجوهُهُم حازمَة وقوية.. أنا مسحورٌ ومفتونٌ بميعار التي اغتصبت. وأنا صامتٌ لأني غريبٌ في دِياري، أخجلُ أمام ميعار وأمامِ والديَّ اللذين ما زلت أرى طَيفيهُما جالسَينِ بقُربِ البئرِ تحتَ شَجَرَةِ الخُرُّوبِ، والأنينُ المُنبعِثُ مِن البيوتِ يؤرِّقُني، لأنني لم أستردَّها بَعد، فلا عينَ لي أن أنظُرَ إلى أطلالِها، فأنا مُفجَعٌ بفقدانِها.
قاطَعَتها عوفرا، ممتقعةَ الوجهِ وفي نفسِها أفكارٌ غامضةٌ مُختلطَةٌ: قولي لأبي حَسَن.. نحنُ لم نَستوطِنْ أراضي ميعار، التَقَطنا صُورًا للمنطقة من الجوِّ منذُ عامِ 1948 وتُظهِرُ أننا نَسكُنُ في طَرفِها الشّمالي.. أخبِريني أين سَافر أهلُ ميعار؟
– لم يسافِروا، بَل هُجِّروا وشُرِّدوا إلى القُرى المُجاوِرَةِ والدُّوَلِ العَرَبيَّةِ القَريبَةِ، ورَفَضوا بَيعَ أراضِيهم أو تَبدِيلَها مع اليَهود. ويُقالُ لِكُلِّ شَخصٍ أصلُهُ من ميعار "الميعاري".
– لماذا رَفَضوا التَّبديلَ والمُقابِلَ المَادِّي؟
– يَعشَقُ الميعاريون أرضَهم مثلَ مُعظمِ أبناءِ الشَّعبِ الفِلَسطِيني. لا يَخونون أشجَارَ الزنزلخت والتّينِ والزَّيتُونِ والعِنَبِ والرُّمانِ.
بعدَ مُرورِ عَشرِ ليالٍ، وفي جوف ليلة غبراء، اتصلَت عوفرا بانتصار ودَعَتْها إلى بَيتِها بِحُجَّةِ أنَّها تَعمَلُ على تَأليفِ كِتابٍ عن العَلاقاتِ العَربيَّةِ اليَّهودِيَّةِ في الجَليلِ، وتُريدُ أن تُشغِلَ نَفْسَها بِالقراءَةِ والكِتابَةِ بَعدَ أن قَارَبَت سِنَّ التَّقاعُدِ.
– لماذا اخترتني أنا، فأنت لن تتقبلي خواطري وخفايا نفوسي؟
– أحب صدقك وصراحتك!
ما رَوَتهُ انتصار لعوفرا أثارَها جِدًا، فهي تَعيشُ في مُستَوطَنَةٍ للبُرجوازيين حتى اليهودُ الشَّرقيون لا يُسمَح لهم بالسَّكَنِ فيها.
ألحَّت عوفرا على انتصار لتَزورَها في "ياعد" وَشَدَّدت على أهَمِّيةِ لقائِها لأن لَديها ما يُقالُ.
في اليوم التالي، ذَهَبَت انتصار بِدافِعِ الفُضُولِ، وما أن وَطِئَت قَدمُها مَدخَل المستوطنة، إذ بِشُجَيراتِ الصَّبرِ المُنتَشِرَةِ هُنا وهُناك تُطِلُّ عَليها، وَكَأنَّها عُيونٌ تَرقُبُ مَن يَدخُلُ البَلدَةَ.. ومِن بَعيدٍ، لاحَت بَقايَا البُيوتِ المُهَدَّمَةِ وَسَمِعَت أصدَاءَ نُباحِ الكِلابِ وظَهرَ لها أبو حَسن بِعُكَّازِهِ وعُيونِهِ الشَّاحِبَةِ.
اتّصَلَت انتصار بأبي حَسَن وسَألتْهُ بِصَوتٍ مَكبُوتٍ مُنبَعِثٍ من بُلعومِها هَل بِإمكَانِها زِيارتُهُ.
تَوجَّهَت إلى عَمِّها أبي حَسَن، عِندَمَا اتَّصَلَت عوفرا لِتَسأل عن سَبَبِ تَأخُّرِهَا، فَأجَابَتها مُعتَذِرَةً: لا أستَطيعُ الدُّخولَ إلى ميعار طَالما بَقيَ أبو حَسَن خَارجَ بَيتِهِ. أجَابت بِصَوتٍ مُطَعَّمٍ بشَيءٍ من المَرَارَةِ ومُفَعمٍ بالدَّهشَةِ: أريدُ أن أُكَفِّرَ عما فَعلْناهُ بِهم.
– لن تَستَطيعوا التَّكفيرَ طَالمَا هُناكَ لاجئٌ بعيدٌ عن بَلَدِهِ.