الطريقة لفهم المفاهيم!
بقلم : د. ادم عربي
تاريخ النشر: 17/06/25 | 8:22
لعلَّ أبسط وأعمق ،في الوقت ذاته، طريقة لتعريف أي شيء تتمثل في استنباط معناه من علاقته بعكسه، أو من خلال مقارنته بنقيضه؛ وهي مقارنة تقوم على الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف. غير أنَّ جوهر التعريف هنا يكمن في التغاضي عن أوجه التشابه والتركيز على أوجه الاختلاف، إذْ إنَّها ما يمنح الشيء هويته. فعلى سبيل المثال، يمكن فهم الانحناء في الخطوط الهندسية من خلال كونه نقيض الاستقامة، والعكس صحيح؛ فالاستقامة، بدورها، تُعرَّف بوصفها نقيض الانحناء.
حين نُعَرِّف شيئاً ما، أيّاً كان، فإننا لا نخطئ إذا قلنا مثلاً إنَّ الموت يُفهَم من كونه نقيض الحياة ، مثلما تُفهم الحياة من كونها نقيض الموت . وكذلك الحركة تُدرك في مقابل السكون، والحرارة تتحدد من خلال تعارضها مع البرودة . فالتعريف، في جوهره، يقوم على التمييز، وهذا التمييز لا يتحقق إلّا من خلال إدراك التضاد بين الأشياء. إذْ لو كانت جميع الأشياء سوداء وبدرجة السواد نفسها، لما كان بمقدورنا التمييز بينها؛ وكذلك الأمر لو كانت كلها بيضاء بالقدر ذاته من البياض.
من هنا، لا يمكن لعاقل أنْ يُنكر وجود التغيير أو ضرورة وقوعه في كل شيء. لكن يبقى السؤال: كيف نُعبِّر عن هذا التغيير، لغوياً، حين يصيب شيئاً ما؟.
إننا لا نملك وسيلةً أوفى للتعبير سوى التضاد، فهو الأداة الأساس التي نعتمدها في وصف التغيّر. فعندما تقول إنَّ هذا الجسم تغيّر ، فإنك تعني، مثلاً، أنه كان حاراً وأصبح بارداً . وحتى إنْ استخدمت تعبيراً آخر فقلت: أصبح هذا الجسم بارداً، فإنَّ هذا القول لا يخلو من دلالة ضمنية، بلْ يجب أنْ يتضمّن أنَّه كان، من قبل، حارا ً. فالمعنى الكامل للتغيير لا يتحقق إلّا عبر الإشارة إلى الحالة المناقضة التي سبقت.
إذا كنتَ ممن يرفضون فهم التغيير من خلال التضاد، أو التعبير عنه بهذه الطريقة، فها هو السؤال الذي يتحداك: هل تملك أسلوباً لغوياً آخر تعبّر به عن التغيير دون أنْ تعتمد على فكرة التضاد؟
الجواب قطعاً: لا. فكل تغيير لا يمكن تصوره إلّا باعتباره تحوّلاً من شيء إلى نقيضه، ولا يظهر التغيير إلّا من خلال هذا التحول بعينه.
في مثال الجسم الذي أصبح بارداً، يتجلّى أمامنا مفهومان متلازمان: النشوء والزوال. كيف نُدركهما إذاً؟ نُدركهما كوجهين لعملة واحدة، لا انفصال بينهما. فظهور البرودة لا يكون إلّا عبر اختفاء الحرارة ، وزوال الحرارة ليس سوى بداية البرودة . بهذا المعنى، كل نشوء يتضمّن زوالاً، وكل زوال يولّد نشوءً.
والسؤال الأعمق الذي يترتب على هذا الفهم: هل يوجد شيء يمكن أنْ نعتبر العدم زواله؟ أو أنَّ نشأته تعني أنه خُلق من العدم، من لا شيء؟
هناك حقيقتان لا يراودهما الشك في ذهن الإنسان: أنَّ الشيء موجود، أو أنه غير موجود. فعندما تنظر إلى كومة من الجليد ، لا يمكن أنْ تشك في وجودها؛ فأنت تلمسها وتراها. وإذا ما ذابت أمام عينيك، فلن تشك أيضاًً في أنها لم تعد موجودة.
لكن، هل تساءلت عن المعنى الحقيقي لعدم وجودها أو زوالها ؟
في هذا السياق، الزوال لا يعني الفناء التام، بلْ يتحقق في صورة السيلان أي في تحوّل الجليد إلى ماء سائل. فالماء، وقد كان جامداً، لم يختفِ بل تبدّل شكله. ومن هنا، فإنَّ كل زوال ينبغي أنْ يُفهم بوصفه تحولا إلى شكل آخر من الوجود، على نحو ما يُستخلص من هذا المثال.
ولمن يذهبون إلى القول بأنَّ النشوء يعني الخلق من العدم أو الإتيان من لا شيء ، أقول: إنَّ فهمنا لأي نشوء ينبغي أنْ يسترشد بما نراه في مثال تحوُّل الجليد إلى ماء. فالنشوء هنا لا يعني قدوم شيء من العدم، بلْ هو انتقال من صورة إلى أخرى، من حال إلى نقيضها.
إنَّ النشوء، كحال الزوال، ليس إلّا تحوّلاً و تحوّل الشيء إلى نقيضه، ولا يكون التحوّل إلْا إلى هذا النقيض، دون غيره.
ذلك الشيء، مهما أطلقوا عليه من تسميات حتى لو سموه جسيماً أولياً كالإلكترون لا يمكن فهم وجوده أو نشأته إلّا بوصفه نتيجة لتحوّل شيء إلى نقيضه. فالإلكترون، على سبيل المثال، لم يأتِ من فراغ، بلْ كان نتاج زوال شيء ما، وتحوله إلى هذا الشكل الجديد. لا يوجد ما ينشأ خارج إطار هذا الفهم.
التخلي عن هذا النمط من التفكير يفتح الباب أمام طوفان من الأسئلة الزائفة ، تلك التي تؤدي إجاباتها إلى تعميق الجهل، لا إلى رفعه، وتزيد الفكر بلادةً بدل أنْ تنيره.
فحين ننظر إلى الشمس كما نراها الآن، ثم نسأل: من أين جاءت؟، فإننا نكون قد وقعنا في فخ هذا النمط المغلوط من التساؤل.
يذهب بعضهم إلى القول إنَّ الشمس خُلِقت خلقاً، أي أنها وُجدت كما هي عليه الآن، دون تغيّر في جوهرها بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها. لكن هذه النظرة تتجاهل حقيقة أنَّ الشمس التي نراها اليوم لم تكن دائماً على ما هي عليه؛ فما نسميه اليوم شمساً كان في ماضي الكون مجرد سحابة من غاز الهيدروجين، لا أكثر.
والأمر ذاته ينطبق على البرتقالة التي تأكلها الآن؛ فهل كانت دائماً على هذه الهيئة؟
أليست قد بدأت، في مرحلة ما من ماضيها، على هيئة برعم صغير؟
هذه البرتقالة لم تُخلَق من لا شيء، بلْ كانت شيئاً آخر، وتحول إلى ما هي عليه الآن.
وكذلك الشمس، لم تأتِ من العدم، بل كانت مادة مختلفة ، سحابة من الهيدروجين، ثم تحوّلت عبر الزمن إلى النجم الذي نراه.
والإنسان نفسه، كنوع من الكائنات الحية، لم يظهر فجأة من فراغ، بلْ تطوّر وتحول من كائن آخر كان موجوداً قبله.
الخلاصة أنَّ ما نراه من أشياء لم يُخلق من لا شيء، بل وُجد عبر التحول من حالة سابقة، من شيء آخر ، إلى صورته الحالية.
دعونا ننظر في ماضي الأشياء، ونُمعن التفكير في ما كانت عليه قبل أنْ تبلغ صورتها الحالية؛ فعندها سنفهم أنَّ ما هو قائم الآن ليس إلّا نتيجة عملية تحوُّل ، لا بداية مفاجئة من عدم. هذا الفهم كفيل بأنْ يجنّبنا الوقوع في فخ الأسئلة الفاسدة، تلك التي لا تفتح باباً على المعرفة، بلْ تضلل التفكير.
لكن، ما الذي يعنيه أنْ نقول ماضي الشيء أو مستقبله ؟
إنه يعني ببساطة أنَّ ما نراه أمامنا لم يكن دائماً على هذه الهيئة، ولن يبقى عليها في الغد. هذا وحده يُحتِّم علينا أنْ نُدرِك الأشياء بصفتها ظواهر تاريخية ، أي نتاجاً لتحوّلات متعاقبة عبر الزمن.
فإذا سلخنا الشيء عن تاريخه ، وجرّدناه من سياقه الزمني، بدأنا نطرح أسئلة باطلة في منطقها، كتلك التي تسأل: كيف خرج هذا الإنسان الذي يزن سبعون كيلو غراماَ من رحم أمه؟ وهو سؤال نستهزئ به لأنه يتجاهل التسلسل الطبيعي للنمو.
لكن الغريب أننا لا نستهزئ بسؤال آخر لا يقلّ فساداَ من حيث المنطق: كيف جاءت الحياة من مادة غير حيّة؟ مع أنَّ كليهما ينتمي إلى النمط نفسه من التفكير المغلوط.
إنَّ الفهم التاريخي لا يكتمل إلّا إذا أدرَكنا أنَّ تطوّر الشيء لا يجري في خطٍّ انسيابي متواصل، بلْ يتمّ عبر سلسلة من القفزات أو الطفرات، حيث يكون المسار مليئاً بهوّات فاصلة، لا يمكن تجاوزها إلّاّ بقفزة نوعية كبرى . فالتاريخ لا يتحرك دوماً بخطوات صغيرة، بلْ أحياناً يقفز دفعة واحدة من حال إلى نقيضها.
إنَّ تجاهل هذا الطابع القفزي في التطور هو ما أوقع داروين في ورطة ما سُمِّي بالحلقة المفقودة. فقد تصوّر التطور على أنَّه تدرّج مستمر، الأمر الذي جعله يفتّش عن سلسلة وسيطة تصل القرد بالإنسان.
ولكن، لو أنَّه فهم أنَّ الفرق النوعي بين الكائنين هو هوّة سحيقة لا يمكن عبورها إلَّا بـطفرة حاسمة ، لما احتاج أصلاً إلى افتراض تلك الحلقة المفقودة.
الاختلاف النوعي الكبير، أو ما يُطلق عليه الهُوَّة السحيقة، بين المادة الحيّة والمادة غير الحيّة يشبه، من حيث المبدأ، الفارق بين الماء السائل و بخار الماء . ففي كل حالة من هذه الحالات، توجد فجوة عميقة بين الشيء ونقيضه، لا يمكن تجاوزها إلّا عبر قفزة أو طفرة نوعية. ويجب أنْ نفهم هذه القفزة بنفس الطريقة التي نفهم بها القشة التي قصمت ظهر البعير حيث حدث صغير لكنه حاسم يُحدث فرقاً جوهرياً وحاسماً.
فلنتأمل بعناية المثال الذي يصف سلكاً معدنياً كان في غاية السخونة ثم بدأ يبرد . هذا المثال يسلط الضوء بشكل واضح على طبيعة بعض المفاهيم وعمق فهمها.
السلك المعدني الحار جداً بدأ يفقد حرارته، فماذا نعني بـالبرودة في هذه الحالة؟
إنَّها تعبير عن حالة مواجهة أو صراع مع السخونة أو الحرارة. هل يمكن أنْ توجد برودة بدون هذا الصراع، دون أنْ تكون رد فعل على السخونة؟
إذا خضت معركة ضد السخونة، هل يمكن أنْ تحصل على شيء مختلف غير البرودة ؟
في هذا السياق، لن تحصل على عسلاَ مثلاً، بلْ فقط برودة كحصيلة لهذا الصراع.
ستَبلُغ السلام عندما تصارع الحرب، وستنال النوم حين تُقاوم اليقظة ، وستتحقق الحركة عبر مجابهة السكون، وستظهر الحياة من خلال صراعها مع الموت. كذلك، يُولد العلم من تحديه للجهل، وينشأ الإيمان الديني في مواجهة الكفر والإلحاد، كما تُنتج النجاة من الغرق عبر مقاومة الغرق نفسه.
قبل أنْ يبدأ السلك المعدني الساخن في البرودة، لابدَّ أولاً من خوض معركة ضد السخونة . وبعدها، يجب أنْ تتفوق قوى البرودة على قوى السخونة . فالقوى الساخنة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة حتى تضعف مقاومتها وتنفد، عندها تنتصر قوى البرودة فيتراجع السلك ويبرد. فهل يمكن أنْ يحدث أي تغيير دون أنْ يسبق ذلك صراع ومقاومة تتلاشى تدريجياًً؟
البرودة في السلك المعدني ليست سوى صورة مقلوبة للسخونة، فهي في حقيقتها نفي للسخونة.
ولكن، هل يمكن أنْ توجد برودة تخلو تماماً من أثر السخونة؟
بالتأكيد لا، لأنَّ كل برودة تحمل في طياتها بقايا من السخونة؛ لو كانت البرودة منفصلة تماماً عنها، لما استمرت أو تعمقت برودة السلك.
لذا، لا يمكننا فهم البرودة بشكل كامل إلّا إذا اعتبرناها عملية مزدوجة: نفي للسخونة واحتفاظ بها في آن واحد.
فالبرودة تظهر بنفيها للسخونة، وفي الوقت نفسه تحافظ على وجودها كي تظل باقية. الضدين، أو النقيضين، متواجدان معاً بشكل لا ينفصل.
وبالمثل، كل شيء نكتسبه يأتي عبر صراع مع نقيضه (فلا يصارع الإنسان إلّا ما هو موجود فعلاً)، ومن ثم يغلبه ويحتفظ بجزء منه في الوقت ذاته.
لا بدَّ من وجود الآخر أو النقيض أو الضد ، لأنَّ وجودي لا يتحقق إلّا بوجوده؛ فكيف يمكن للإيمان الديني أنْ يتجذر وينمو في شخص أو مجتمع دون أنْ يكون هناك وجود مستمر لـلكفر، وصراع دائم معه؟
فالإيمان الديني هو في جوهره الكفر حين يُنكر ويحفظ في ذات الوقت، وهو ما ينبع وينمو من صراع مستمر مع الكفر.
وبذات المنهج، يجب أنْ نفهم جميع المفاهيم؛
فالعلم في مجال معين هو الجهل في ذلك المجال حين يُنكر ويُحافظ عليه في الوقت ذاته، وينشأ وينمو من معركة دائمة ضد الجهل، والعكس صحيح، فالجهل هو العلم حين يُنكر ويحفظ أيضاً، وينمو من الصراع مع العلم.
الحرية في جوهرها هي العبودية حين تُنكر وتُحافظ عليها في آنٍ واحد، وهي ثمرة صراع مستمر ومتواصل ضد العبودية نفسها. بالمقابل، العبودية هي الحرية حين تُنكر وتُحتفظ بها في نفس الوقت، وتنشأ وتنمو من صراع دائم ضد الحرية.
ومهما توسع نطاق العلم، فلن نصل إلى العلم المطلق الخالص، ومهما تعمق الجهل، فلن نبلغ الجهل الخالص المطلق.
وكذلك، مهما ازدهرت الحرية، فلن نحقق الحرية المطلقة الخالصة، ومهما تعمقت العبودية، فلن نصل إلى العبودية المطلقة الخالصة.
أودّ أن أضيف أنَّ التطور في الجوهر هو صُلب الشيء ذاته، بينما يؤثر الخارج عليه فقط بزيادة السرعة أو إبطائها، وتسهيل الأمر أو تعقيده. فعلى سبيل المثال، إذا رميت حجراً في الهواء، سترى حتماً أنه سيعود ليسقط على الأرض. وهذا السقوط له أسباب واضحة، ولو تأملت هذه الأسباب جيداً، ستدرك أنَّ ارتفاع الحجر واستمراره في الارتفاع هما السبب وراء سقوطه في النهاية.
كل شيء ينمو، لكن السؤال: إلى أي اتجاه يتجه هذا النمو؟
النمو لا يكون إلاّ في الاتجاه الذي يُهيِّئ ويُعدُّ أسباب زوال الشيء، أي تحولُه إلى نقيضه. بمعنى آخر، نمو الشيء هو الجانب الآخر لنمو أسباب زواله، أو أسباب تحوله إلى عكسه. لذا، دعوا الشيء ينمو إذا أردتم أنْ يكون تحولُه إلى نقيضه أمراً طبيعياً ومنطقياً.
تأملوا هذه الزهرة التي تفتحت وكبرت ونمت؛ هل من الممكن أنْ تكبر وتنمو وتحصل على كل مقومات حياتها وبقائها، دون أنْ تولد في الوقت ذاته عوامل موتها وزوالها؟
فالشيء بكامله يُكمل في الوقت نفسه أسباب نهايته وتحوله إلى نقيضه. مثال على ذلك سقراط، الذي بلغ في زمانه ذروة العلم، لكنه استكمل بذلك أيضاً أسباب تحوله من عالم إلى الذي قال: كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا!
فالطفل مثلاً يُعتبر جاهلاً لأنه مليء بالأسئلة التي لا يعرف لها أجوبة، بينما كان آينشتاين في نهاية حياته العلمية أيضاً جاهلاً، لكنه كان يحمل في ذهنه أسئلة عميقة بلا إجابات. الفرق بين ذلك الجهل وهذا واضح وكبير.
وكذلك الفارق شاسع بين جهل العالم العظيم آينشتاين وعلم بعض المثقفين العرب.