تجربتي معلمًا في الابتدائية

تاريخ النشر: 26/08/13 | 23:10

اليوم تفتح المدارس أبوابها، ويتوجه المعلمون والطلاب إلى مدارسهم،

سأقرأ لهم هنا دعاء السفر- السفر إلى العلم والتعليم:

أدعوك اللهم أن تهيئ للمعلم الصبر على العطاء،

وأن تجعل الإخلاص لطلابنا رائدَه بكل مضاء ووفاء،

وأن تلهمه أن يملأ وقته بما هو نافع لهم، حتى تجزيَـه خير جزاء،

وأن تلهمه لما يـبني شخصياتهم حتى يصلوا إلى العلاء،

حتى يحفزهم على التفكير، إنك أنت نعم المولى ونعم النصير!

قلت: لماذا لا أنشر للأصدقاء ما كان من بداية تدريسي في المدارس الابتدائية، وسيكون للبحث صلة.

إذن، اصحبوني في يفاعتي، واقرأوا ما نشرته في "أقواس من سيرتي الذاتية"، مع بدايات عشقي لمهنة التعليم،

فلعلكم تجدون شيئًا ذا بال، وإلا فأجري على الله!

…………………………………………………….

من صفحات التربيـــة والتعليـــم

تجربتي معلمًا في الابتدائية:

كان من أحب اللعب إلي في طفولتي أن أدعو بعض أترابي ليجلسوا على صناديق الخضراوات، أو على صفائح متيسرة، وأقنعهم أن نلعب "لعبة المدرسة"، فأكون معلمًا لهم…. آتي بلوح خشب وطباشير وجرس، وآخذ في شرح هذا الدرس أو ذاك.

ومما أذكره أنني علمت مقطوعة تنسب لعلي كرم الله وجهه كنت قد اطلعت عليها في كتاب ليس من كتبنا المدرسية،ومنها:

فلا تصحب أخا السوء وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى حليمًا حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه

ولم يكن أحد منهم يسألني عن معنى"أردى حليمًا" والحمد لله، فقد كنا نكتفي بأن نلحن المقطوعة وفق أهوائنا.

ووجدت في "لعبة المدرسة" تعويضًا لي عن لعبة البنانير أو الحاب (الكورة) أو المبارزة (المجيدي)، فهذه كنت أشاهدها من بعيد، فلا بد إذن من فتح صف حتى ولو استجديت بعض الأصحاب أن يجلسوا على مقعد الدراسة، وقد حدث مرة أن أحدهم تمرد علي:"لماذا أنت المعلم؟ أنا أريد أن أكون….. دوري".

***

أنهيت الصف الثاني عشر في ثانوية الطيبة صيف 1959، ثم حصلت على شهادة البجروت (آنئذ الحصول عليها يكاد يكون متعذرًا)….. ثم رشحت نفسي للعمل في سلك التعليم. كانت دار المعلمين العربية قد فتحت أبوابها حديثًا في يافا، لكن ذلك لم يحل دون تعيين معلمين آخرين شريطة أن ينهوا الامتحانات الخارجية في التربية وعلم النفس حتى يتم تأهليهم…. وشريطة أن الأجهزة وافقت على تعيينهم.

وألفيت نفسي معلمًا احتياطيًا أو بديلاً للمعلم الغائب في بلدي، وهكذا جربت في يفاعتي تدريس معظم المواضيع…. ولكل الصفوف.

ولا أنكر أنني كنت أقع في مزالق وأخطاء، وما زلت أذكر تلك الكلمة الإنجليزية التي لم أعرف معناها، وتلك الجملة التي استغلقت علي…… هذا طالب يشاغب ويلقي بطبشورة أمامي، وذاك يزمزم بأصوات يتبعها ضحك مكتوم. ورغم أنني كنت أعاني الأمرَّين فقد كنت أستمتع بهذه الوظيفة الاجتماعية المرموقة، فـأعود إلى بيتي وأحضّر دروسي جيدًا، وأستفتي بعض المعلمين القدامى عن مسائل معينة، وأتوجه إلى الطالب المشاكس لأبني معه علاقة شخصية إنسانية ليس فيها ضعف، وهكذا كنت أسوّي الأمور…… وأسعد بلقب"أستاذ".

* * *

حصلت على تعيين رسمي للعمل في مدرسة عسفيا للبنات في 1/2/1961م.

وكنت أولاً مربيًا للصف الثالث، أعلّم الموضوع الشامل. وقد ظننت أولاً أن الذي يعلّم جميع المواضيع لا شك بأنه معلم ممتاز، إلى أن نبّهني لاحقًًا مثقف أجنبي بضرورة التركز على موضوع واحد، والتقدم فيه حتى"تكون عنوانًا معروفًا به".

كنت في عسفيا أبني علاقات اجتماعية لم يكن لي بها سابق عهد، فهنا دروز ومسيحيون، ونحن في المثلث لا نكاد نتصل بأبناء المذاهب الأخرى، أو على الأصح قلما اتصلنا بهم آنذاك.

وتوطدت علاقاتي إلى درجة أنني كنت أحمل دفترًا صغيرًا أدوّن فيه الدعوات المتواصلة من غداء إلى عشاء (فأين هذا اليوم؟!).

بعد سبعة أشهر جميلة نقلتني الوزارة إلى المدرسة المشتركة – وادي القصب خور صقر (في وادي عارة)، فكنت مع مدير المدرسة أحمد خواجة ثاني اثنين، فعهد إلي بتربية الصف المشترك (البستان والأول)، وعليــه كنت"معلم الروضة" في المدرسة، ولذا لبَّيت دعوات المفتشة لاجتماعات المربيات، وكان حضوري يثير الابتسامات أو الدهشة أو الحسد أو الشماتة.

اقترح علي المدير أن أرافقه لإقناع طفل كبير من قرية البيار القريبة بأن يحضر إلى المدرسة، فقد تمرد وبدا كأنه غير أليف. استطعنا بكل وسائل التحايل والتحبب أن نقنع الصبي بالقدوم إلى المدرسة. (وكبر الصبي، وأصبح أكاديميًا يعلّم الرياضيات في إحدى ثانوياتنا).

كنا نتوجه إلى المدرسة البعيدة عن الشارع العام ثلاثة كيلومترات تقريبًا، فنترجل، ولا بد من أن نتسلح باللباس الثقيل في الشتاء وبالسوقاء (الجزمة) لخوض لجة الوادي الذي كان يغمر الأرض بالمياه بعد كل مطر.

أما العلاقات الاجتماعية في القرية فكانت على أحسن ما تكون من الثقة والإعزاز، فكنا نُدعَى لقراءة المولد النبوي، وبالطبع فالمدير هو القارئ المرتِّل، كما كنا نحل مشكلات محلية، أو نصلح ذات البين هنا أو هناك.

وتركنا المدرسة بعد أن غرسنا أرضها بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، وما زالت هذه الأشجار تداعب الرياح وتداعبها.

***

مع ابتداء صيف 1963م قررت أن أتوجه إلى الجامعة العبرية لإكمال تحصيلي العلمي، فلا بد مما ليس منه بد.

وقفت على تلة تشرف على القرية، وودعتها بمقولة هرقل يوم أن ودع دمشق (وشتان بين السببين) وقلت:"وداعا يا وادي القصب، لن أعود إليك معلمًا بعد اليوم".

ويبدو أن القدر ساق قراره هو الآخر، فقد تم نقلي إلى مدرسة باقة الغربية الابتدائية، فسلمت بالأمر خشية أن يتعذر علي ذلك في المستقبل، وأجلت الدراسة الأكاديمية إلى أجل غير مسمّى.

عرض المدير الجديد علي أن أعلم الصف الأول، بدعوى أنه يعهد بالصف الأول إلى المعلمين الممتازين حرصًا على تنشئة الطلاب بصورة صحيحة. كنت أعرف أنها ذريعة وحسن تخلص، ولكن ما العمل؟ لنعلّم الصف الأول!

كان المدير يقسم طلاب الصف الأول إلى قسمين- الأول فيه أبناء"المحسوبين" عليه، والثاني أبناء الناس الذين ليس لهم خصوصية معينة، فكان يعهد إلى بالقسم الثاني، حتى رفعت مرة صوتي محتجًا: "ألأن هؤلاء ليسوا أبناء ذوات تعاملونهم معاملة أخرى؟؟؟!".

وظل التعبير"أبناء الذوات" على ألسِنة المعلمين في مزاحهم وجدهم.

مع ذلك فقد اشتركت أنا ومعلم خاص بـتعليم "أبناء الذوات" في إعداد كراسات تعليمية، وحررنا مجلة للصف الأول، بل كنا نتنافس تنافسًا بناءً حول مَن مِن طلابنا يستطيع أن يقرأ في الصحيفة؟ أية نسبة إملاء أعلى في صفي أم في صفك؟

وأيقنت أن كل تعليم لا بد فيه من منافسة إيجابية، وأذكر أن طلابي في الصف الأول كانوا يصرّفون الجملة بضمائر الغيبة، نحو:"هذا هو الرجل الذي كان عندنا".

بل كنت أعلّمهم حروف الجر وحركة الاسم المجرور بعدها، كما أعلمهم مقطوعات شعرية مختارة.

وعلّمت كذلك اللغة الإنجليزية للصف الثامن، فاخترت طريقة الترجمة، لأعطي الجملة العربية ليترجمها الطالب إلى الإنجليزية. وما زلت مقتنعًا – على خلاف أساتذة الإنجليزية المختصين- أن هذه هي أفضل طريقة لتعلم أية لغة. (وقد ثبت لي ولبعض طلابي ذلك وبشهادتهم).

واتفق أن كان بين زملائي في المدرسة نخبة من عشاق الأدب – أذكر منهم الأساتذة – أحمد غنايم، لطفي منصور،شاكر جبارة،المرحوم حسن سمارة، وكنا نناقش بعضنا البعض في تفسير بيت ما أو في إعراب كلمة ما، أو استخراج معنى معين.

الأمر الذي كان يحفز فينا المطالعة والدرس والتنقيب وحب الظهور أيضًا، وأحيانًا بل كثيرًا المناكفة والمشادة.

وكانت مدارسنا –عادة- تحتفل بعيد الاستقلال كل سنة، فتزين الصفوف، وترفع الأعلام، وتُلقَى الكلمات، وينصرف الطلاب والمعلمون مبكرين – ولعل هذا يكفي بالذات لأن يكون سبب فرحة.

كنت من الذين يتذمرون، بل رفضت أن أزين صفي، وأذكر أنني هجوت زميلاً لي، لأنه قال قصيدة في عيد الاستقلال، فقلت له سنة 1967م:

يا أقل الناس معنى معتنى لا تقل في الشعر قولاً مُذعنا

يا لسخفٍ صاغه مستشعرٌ كله سخفٌ وما فيه الجنى

وهذه الروح الوطنية التي كانت كامنة في نفوسنا أخذت تتقد بعد حكاية ما جرى سنة سبع وستين.

فإذا سجن الجيش إمام المسجد الأقصى لأنه خطب وذكر في خطبته: "عيد بأية حال عدت يا عيد" فإن أول قصيدة محفوظات علمتها يومها هي هذه القصيدة للمتنبي.

ثم أخذت أختار لهم قصائد أذكر منها :"لو كنت من مازن" لقُريط بن أُنَيف، و"أبلغ إيادًا.." للـَقيط بن يُعمُر،و"أبت لي عفتي" لعمرو بن الإِطْنابة، و"أقول لها.." لقَطَري بن الفُجاءة. (العجيب أن بعض طلابي عندما التقيهم الآن يعيدونها على مسامعي مزهوين،مع أني نسيت أكثرها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة