سنةٌ أُرِّخ بها في باقة الغربية :سنة 1938م هي سنة«النسف» في باقة الغربية
تاريخ النشر: 21/08/13 | 23:24سنة لا زال المتقدمون والمتقدمات في السّن من سكان باقة الغربية وممن عاصروا «النسف» يؤرخون بها أيامهم، أيام الزواج والوفاة والحج وما إلى ذلك، وبالنسبة لهم فإنّها تاريخ مهم يتردد كثيراً على ألسنتهم خاصة عند الحديث عن الثورة الفلسطينية الكبرى والطويلة والتي نشبت عام 1936، وسنة «النسف» هذه هي السنة التي نُسفت أو فُجرّت فيها العديد من بيوت قرية باقة الغربية وذلك سنة 1938، وفي الخامس والعشرين من شهر تموز لهذا العام.
عملية نفذها جنود انجلترا اتخذوا من مدرسة القرية الوحيدة آنذاك وهي مدرسة البريّة أو «المدرسة الفوقا» كما كانوا يسمونها معسكراً ويذكر المؤرخ السيد صبحي محمد خالد بيادسه في كتابه «باقة الغربية تاريخ لا يُنسى» أن عدد البيوت التي نُسفت قارب السبعين منزلاً بالإضافة إلى الخشاش والسقف التي أضرموا النار بها، ولسان حالهم يقول: خسارة استعمال الألغام في نسفها.
أما التقارير البريطانية آنذاك فذكرت أن عدد البيوت التي نُسفت فكان 52 بيتاً…. وسواءٌ كان العدد 70 أو 52 فهذا ليس بالمهم انما المهم في الأمر هو فظاعة العمل ووحشيته، فقد طلب من الأهالي وقبل البدء بعملية «النسف» إخلاء منازلهم ومغادرتها دون حمل أي متاع أو مؤونة. أما الذين لم يغادروا منازلهم من المسنين والمرضى، فقد أخرجوا عنوةً عنها وكان من مُحصلة هذا العمل البربري أن دُمرّت البيوت وعن بكرة أبيها وبما احتوته من أثاث وأدوات منزلية ومؤن، وشُرّد ساكنوها مما اضطرهم اللجوء إلى الأصدقاء والمعارف من أهل البلدة الذين نجت بيوتهم من النسف، والى القرى المجاورة كما حدث معنا حيث لجأنا إلى أخوالنا في قرية جت المجاورة، ولربّ سائل يسأل: ولماذا نُسفت هذه البيوت الكثيرة العدد وعن بكرة أبيها وعلى ما احتوته؟! انه الانتقام من أهالي باقة الغربية لمقتل ضابط وجنديين بريطانيين على أيدي ثوار فصيل فلسطيني مقاوم للاحتلال البريطاني لفلسطين منذ عام 1917 والذي استعمر بلادنا تحت اسم انتداب، حتى عام 1947.
تفصيل الحادثة كما وردت في كتاب تاريخ باقة الغربية تاريخ لا يُنسى لمؤله السيد صبحي بيادسه، أن مجموعة من الجنود الانجليز كانت في «دورية» وفي منطقة في باقة تسمى «وادي الحودة» جابهت وهي في مهمتها فصيل من الثوار الفلسطينيين لتدور بينهما معركة، كانت من محصّلتها مقتل ضابط الوحدة البريطانية وجرح ثلاثة منهم، فكان أن انضمت إلى القوة البريطانية المقاتلة مجموعة من الجنود البريطانيين انتقلت معها المعركة إلى داخل القرية، كانت محصلتها مقتل جنديين بريطانيين إضافيين، وجرح بعضهم.
حدث هذا يوم 25 من شهر تموز عام 1938 وكان عمري آنذاك ثلاث سنوات ورغم صغر سني فقد كنت شاهداً على أعمال إذلال وتعذيب من الصعب نسيانها، فكيف كان ذلك؟ سآتي على ذكره…
وصبيحة اليوم التالي أي يوم 26 تموز أُمِروا الأهالي بإخلاء منازلهم ومغادرتها دون أن يتزودوا بأي شيء، وطولبوا بالتجمع في ثلاثة مواقع: الرجال في كل من : خلّة الديك وبيادر السدره، أما النساء ففي «عمارة» (كرم الزيتون) المرحوم راشد مسعود مواسي، وكان الطقس في ذلك اليوم حاراً جداً مُنعت فيه مياه الشرب عن المُحْتجَزات والمُحْتجزَين، هذا بالإضافة إلى الشتائم البذيئة وعبارات الاهانة والإذلال ومن قبل الجنود الانجليز المدججين بالسلاح، وفي لحظة معينة قرّرت قوات الاحتلال البريطانية إطلاق سراح النساء على أن لا يغادرن القرية وأن يبقين داخلها، أما الرجال فسيقوا إلى معسكر نور شمس (القريب من طولكرم) مشياً على أقدامهم المنهكة، ومع كل ما ذاقوه من عطش ومن مرارة الذل والهوان والشتائم والضرب بأعقاب البنادق ، وفي هذا الحر القائظ حرّ شهر تموز، قضوا ليلتهم في العراء وهم يعانون الخوف والإرهاق، والجوع والعطش، ليعودا في الغداة إلى قريتهم كما جاءوا إلى معتقلهم أي مشاةً وليروا ما حل في بيوتهم من دمار وأعمال بربرية، اختلط فيها الأثاث بالزيت والطحين ، وقرطاسية طلاب المدارس.
قلت آنفاً أن هذا الحدث المأساوي حدث عندما كنتُ طفلاً ابن ثلاثة أعوام فقط، أذكره ولا زلتُ ورغم صغر سني آنذاك ونادراً ما يتذكر طفل في مثل سني وفي تلك الحقبة الزمنية أشياء حدثت له أو مع من حوله، ولكن لهول وفظاعة وقساوة ووحشية الحدث وما تركه من آثارٍ سلبية عليّ وعلى أطفال كثيرين غيري ومن مثل سني وأكبر مني، حَدَثٌ اخترق كل الحواجز واستقّر في رأسي في ذاكرتي، أذكر جيداً أن نساء القرية صعّدن إلى «الظهرة» إلى «عمارة» المرحوم راشد المسعود ومعهن المرحومة أميّ، تعلقّتُ بأمي وأمسكت بأطراف ثوبها وسرتُ خلفها، وأنا أرتجف خوفاً وأبكي بكاءً مًراً وهي تحتضن وفي نفس الوقت أخي حسين ابن السنة، أما أخي رسمي وهو الأخ البكر وابن الخمس سنوات، فقد سار بجانبها وقد أمسك «بردانها» أي كُمّ ثوبها المتدّلي طالباً الاحتماء بها من كيد الجنود الانجليز الأشرار.