جدلية الهوية والجنسية لدى الجزء الذي لا يتجزأ

بين مقال ومقال لي عن “الانتفاضة” وقع المتوقع الذي نبّهت له في مقالي السابق. فها هي اسرائيل تعود وتؤكد انها لن تبدّل الستاتوس كفو في الحرم الشريف ومستعدة لوضع كاميرات لضبط مَن يبدّله. كفى المؤمنين القتال. الاقصى لم يعد في خطر، وما على الجميع الآن الا التهدئة. الآن الآن وليس غداً آذان الجوامع فلتصدح واجراس الكنائس فلتقرع. لقد “حرّرنا” الاقصى ولم يعد محتلاً لا هو ولا فلسطين.
هذا ما يجنيه كل مَن حجّم واختزل القضية القومية الوطنية العامة في اطار ديني ضيّق، ومن جعل الانتفاضة انتفاضة السكين. علماً أنه بالسكين لا تتحرر فلسطين. اما “الستاتوس كفو” الاجرامي الاحتلالي القائم منذ 48 عاما، بما فيه لفلسطين وللقدس وأقصاها، فسيبقى “كفو” – قائمًا. كل ما هنالك اننا سنمنع الوزير أوري ارييه وزعرانه من الوصول لباحة الحرم والصلاة هناك. فاهدئي يا مقاومة.
ذاك هو حديث السرايا. اما حديث القرايا فيقول: هذا هو الوقت للانتفاض لا للتهدئة. هذا هو الوقت لتصعيدها انتفاضة جماهيرية ضد الاحتلال هناك في المناطق المحتلة. وهذا هو الوقت، هنا بين الجماهير العربية في اسرائيل، لإعادة النظر بشكل وبفحوى نضالنا الاحتجاجي بعد ان شوّهه مَن لعب وتاجر به زعيقًا هستيريًا واعمالاً فوضوية وصبيانيةً.

البيان رقم واحد…
لا توجد أقلية قومية في العالم تشبه حالتُها حالتَنا نحن الاقلية القومية العربية الفلسطينية في اسرائيل. نحن أقلية في وطننا. لم نهاجر الى هذا الوطن بل وُلدنا فيه ودخلناه من اكثر الطرق شرعية – من أرحام امهاتنا. الآخر، اسرائيل، هي التي “هاجرت” الى هنا واغتصبت الوطن وأصحابه.
لذا نحن نعاني من اشكالية وتناقضية الهوية والجنسية، لكوننا عربا فلسطينيين (الهويّة) ومواطنين اسرائيليين (الجنسية). ويحتد هذا التناقض بين الهوية والجنسية في اسرائيل بالذات. وهو ليس بتناقض عدائي في أية بقعة او دولة سويّة في العالم.اما هنا فالدولة المغتصبة دولة يهودها لا دولة مواطنيها. وهي دولة عنصرية تمارس بحق العرب في البلاد شتى اشكال التمييزالقومي والمدني، عداك عن التجهيل القومي، وتحتل بقية شعبهم في الضفة وغزة.
وكلما تغلي الاوضاع بين المحتل والمحتلة ارضه وتصل الى حد المواجهات العنيفة، تطالب اسرائيل السكان العرب – “الرعايا” – فيها بادانة مقاومة شعبهم للاحتلال، بصفتهم مواطنين فيها. ولأنه من واجب واخلاقيات المواطن ان يخلص لدولته التي توفر له التعليم والعمل والتأمينات الاجتماعية والديمقراطية.
“الله اكبر” – واخيراً “اعترفت” اسرائيل بأننا مواطنون وبأن الدولة دولتنا وبأننا عرب فلسطينيون، لا كونفدرالية طوائف وحمائل ولا رعايا ولا الدولة دولة يهودها. نحن “مواطنون وفي دولتنا” ما دمنا كويزلينغ وطابوراً خامساً وبوقًا متصهينًا ومتأسرلاً لادانة شعبنا ومقاومته.
“الله اكبر” – على مهلكم. لا تطلقوا الرصاص من مسدساتكم لاعدام هذا الاسمر العربي “المخرّب والارهابي” لأنه نطق بذاك الهتاف. انتظروا البيان الذي سيلقيه عليكم، فقد يكون بيانه عملية انتحارية تفجيرية تخريبية تستدعي استدعاء الفرق الخاصة والاسلحة الاوتوماتيكية الرشاشة ودبابات ومجنزرات الاجتياح والهدم.
اليكم “البيان رقم واحد” : خذوا خدماتكم ومواطنتكم وديمقراطيتكم واعيدوا لي فلسطين وشعبي. وليكن واضحا لكم بأني لست ولن اكون وطنيا اسرائيليًا، ما دامت دولتكم تحتل وطني وشعبي وتتنكر لمواطنتي المتساوية. ولست موظفًا عندكم في خانة واطار ووظيفة (عَل تيكِن – بالعبرية) الاستنكار والادانة لممارسات شعبي في كفاحه لاقامة دولته. استنكر وأدين وسأحارب اساس الداء – احتلالكم. وعندما اتحفظ من بعض ممارسات بعض المقاومين لاحتلالكم… افعل هذا من باب كون تلك الممارسات تسيء لنضالهم ولا تسرّع ازالة احتلالكم.
هذا واجبنا تجاه هويتنا وجنسيتنا ومواطنتنا ووطنيتنا وانسانيتنا عموماً. وهذا واجبنا ايضاً تجاه اليهود الاسرائيليين، اذ نريد لهم ان يتحرروا هم ايضاً من وزر وأعباء ومصائب احتلالهم للآخر، وان يعيشوا بأمان.

الذاكرة الوطنية
“عرب اسرائيل” – هذه هي التسمية التي اطلقتها اسرائيل على العرب الباقين في وطنهم عام النكبة والتهجير – 1948. كان يومها عدد هذه البقية الباقية من شعبها على ارض وطنه 160 الف نسمة، اصبح تعدادهم اليوم مليونا ومائتي الف. وكان وما زال المقصود بهذه التسمية – الفرية طمس وإزالة الهوية القومية العربية والوطنية الفلسطينية للعرب الباقية وسلخهم عن بقية شعبهم في الضفة والقطاع وفي الشتات القسري في دول العالم.
اسقط شعبنا هذا الالغاء لهويته ولانتمائه. وخاض معركة البقاء وتعزيز هويته بنجاح. ورفض مقايضة هذا بالخدمات، بل طرح شعار “الكرامة والخدمات” مطالبًا بالمساواة ولا اقل منها مؤكدًا انه فقط عن طريق الكرامة القومية يستطيع تحقيق المساواة، ومن يفتقدها يفقد الامرين.
لا نبالغ حين نقول ان الهزيمة الاولى والاكبر حتى الان للمشروع الصهيوني الكولونيالي الاقتلاعي هو بقاء تلك الاقلية في وطنها وقبرها لسياسة التجهيل القومي. لقد أفشلت تلك الاقلية ببقائها المشروع الصهيوني في احدى حلقاته الرئيسية: اقامة دولة اليهود على ارض خالية من شعبها. عشرون بالمائة من مواطنين دولة اليهود اليوم هم عرب فلسطينيون تطاول قامتهم السماء كرامة قومية وعزة وطنية.
ولم يكن بالامكان ان يكون هذا الانتصار العربي في زمن الهزائم العربية، لو لم يتأتَ لتلك البقية الباقية قيادة شيوعية وطنية اعتمدت النضال الجماهيري والمدني بشجاعة حكيمة وبحكمة شجاعة، دون ان تغامر وتقامر او تذدنب وتهادن. ودون ايضا ان تعزل شعبها لا عن العمل المشترك والتأثير على القوى الديمقراطية اليهودية المحلية، ولا عن القيم والمبادىء الانسانية العامة وقواها.
نحن في امس الحاجة اليوم الى اعادة استيعاب وتذويت تلك التجربة بكل ايجابياتها، دون السكوت عن بعض نواقص شابتها أحياناً. وحين أرى اليوم بعض الممارسات لبعض شباب من اجيالنا الصاعدة، وحين اقرأ بعض التصريحات لبعض “القادة”، وحين استمع لبعض دعاة الاسلمة السياسية، أصابُ بالقلق ازاء مصير هذه الاقلية وقضيتها وقضية شعبها داعيًا صارخًا ان ثقفّوا الاجيال الصاعدة رجاءً على دروس تلك التجربة الغنية الماضية التي اصبحت ذاكرة وطنية عن ماضٍ يُغني كفاحنا في الحاضر لصالح الانتصار لقضيتنا.

جدلية المتناقضات
القضايا مركبة وهي اعمق من ان نطوش على سطحها. نحن اقلية في دولة لا تعترف لا بهويتنا ولا بمواطنتنا المتساوية. ثنائية القومية (الهوية) والجنسية (المواطنة) حاضرة في كل جانب من جوانب حياتنا. هنا نولد ونحيا ونموت. هنا نتعلم ونأكل ونشرب ونلبس ونعمل ونتزوج ونخلّف. ولهذه الدولة سياستها وقوانيها واجراءاتها العامة وكذلك العنصرية ازائنا. ثمّ لا يمكن ان يعيش الانسان في مجتمع وان يكون حرّا منه في الوقت نفسه. والمساواة ولا اقل منها كانت وما زالت غايتنا. من جهة أخرى نحن في الوقت نفسه جزء من شعب يكافح من اجل حق تقرير مصيره وتحرره من الاحتلال وبناء دولته المستقلة وعودة لاجئيه. لذا قضية السلام العادل كانت وما زالت غايتنا ايضاً.
فكيف نحلّ هذا التناقض التوتيري بين الهوية والجنسية، بين القومي والمدني والاجتماعي الديمقراطي العام، ونلقي بوزننا على هذه الجبهات الثلاث، بما فيها جبهة التأثير لصالح التغيير الديمقراطي داخل اسرائيل عموما وبين الغالبية اليهودية خصوصًا؟
ما من شك عندي ان الطريق الافضل للحل هو رؤية جدلية وحدة وصراع الاضداد في ثلاثية واقعنا الواحد والمتصارع والمتضاد. معركتنا من اجل المساواة القومية والمدنية لنا كأقلية قومية، ومن اجل التقدم والعدالة الاجتماعية والديمقراطية في البلاد عمومًا… هي جزء لا يتجزأ من المعركة القومية العامة من اجل السلام العادل. ومعركتنا لدحر الاحتلال ودعم المقاومة ضده لتحقيق السلام العادل هي في الوقت نفسه معركة من اجل المساواة والعدالة والديمقراطية لعموم المواطنين في البلاد.
ولن تكون هذه المعركة، بجبهاتها الثلاث، مؤثرة وناجحة الا اذا كانت متشبّعة بخطاب ديمقراطي وانساني وواقعي وعادل ومجنّد لاوسع فئات شعبنا، وقادر على مخاطبة الشارع اليهودي ووسائل اعلامه بعقلانية وبدون جعجعة منفّرة. ليس المطلوب من خطابنا ان يسجل فقط نقاطاً واهدافًا في شبكة الاخر عدوًا أم خصمًا كان. ولا يفيدنا خطاب “المحقين” الناشف. نريد خطاب المؤثرين الفاعلين الهادىء والشارح لقضيتنا والمقنع بعدالتها وبمصداقيتها.

أزيلوا الأقنعة
نرفض الموازنة المتساوية بين اقوال وافعال الجاني والضحية. الجاني هو المحتل والعنصري والظالم المبادر والمسؤول الاول. ورد فعل المظلوم، حتى لو حوى بعض عنصرية وتصرفًا لا انسانيًا ولا أخلاقيًا، يبقى حاويًا لجانب عادل وديمقراطي فيه… هو كونه هبّه، انتفاضة، ومقاومة للجاني. وهذا ما كان يقصده اميل حبيبي في كتاباته، مكررًا : “لا تلوموا الضحية”.
لكن، و “لكن” هذه كبيرة جدًا، نقول هذا اعلاه من باب فهم وتحليل الحالة لا من باب تبريرها والسكوت عنها. القضية العادلة بحاجة الى اساليب وادوات كفاح عادلة وانسانية. لا يعقل ادانة قتل المجرم المحتل للابرياء، وقيام المقاوم بقتل الابرياء. لا يعقل استنكار قتل الاطفال واللجوء الى قتلهم في الوقت نفسه. ولا يعقل شجب عنصرية الجاني، والتصرف بعنصرية تجاه ابناء شعبه. المقاومة والكفاح الديمقراطي هما نقيض الاحتلال والقتل الجاني والعنصرية.
وللذي لا تهمّه الجوانب الانسانية الاخلاقية، ويريد التركيز على مهمة انتصار قضيته العادلة، نقول: كفاحك بأساليب وأدوات خاطئة سيشوّه عدالة قضيتك وانسانيتها وسيضعف التضامن معها، وسيزيد من همجية الظالم بحق شعبك، وسيمنع من اختراقك لاوساط في شعبه كان بالامكان كسبها لصالح قضيتك. وتكون بهذا، بدلا من ان تقفز بنجاح وتمتطي صهوة الحصان قد وقعت في الجهة الاخرى على الارض من ظهر الحمار.
نقول هذا لشعبنا هنا في اسرائيل، ونقوله لشعبنا وقواه المقاومة هناك في المناطق المحتلة. ونضيف لسنا مستعدين لاصدار بيانات الإدانة والاستنكار لبعض ممارسات المقاومين، وذلك من باب حق الضحية الواقعة تحت الاحتلال بالكفاح بالوسائل التي ترتأيها. ولسنا معلمين لها، بل نحني رؤوسنا إجلالا امام تضحياتها. لكننا ننصح في الوقت نفسه: ان حافظوا على مصداقية وانسانية وعدالة قضيتكم ولا تسمحوا لبعضكم ببعض ممارساته من تشويهها.
أما لشعبنا هنا، في حدود اراضي ال 48، فنناشده ان يتخلص في خطاباته وممارساته وهتافاته من العنف الكلامي والعملي. بل ندين ونستنكر اي تصرف او تفوّه يشوّه كفاحنا ودورنا هنا لصالح قضايانا المدنية المحلية ولصالح القضية القومية العامة لشعبنا كله، حتى لو جاء هذا من اعضاء برلمان عرب. والذي يطلق شعارات وهتافات عنصرية بحق اليهود كيهود، والذي يقوم بحرق العجلات وعربات النفايات وتكسير واجهات المحلات والقاء الحجارة والزجاجات الحارقة في طرقات وأحياء قرانا ومدننا وفي الشوارع التي تقود لبلدات ولاحياء يهودية، لا يضرّن الا شعبه ولا يسيء الا الى نضاله. هذا عدا عن تنفيره للناس من الاقدام على المشاركة في مظاهرات احتجاجية قادمة.
نعم، ما يراه ويسمعه شبابنا العربي في اسرائيل من اجرام بحق شعبه هناك ومن تهميش واقصاء وعنصرية بحقه هنا، يملأه نقمة واستياء وطاقة مشكورة للكفاح. لكن الكفاح ليس مجرد تفريغ للنقمة. ثم ان شعبنا عموماً، بمن فيه اهالي هؤلاء الشباب وسكان احيائهم واصحاب المحلات والناس عمومًا – أي الحاضنة الجماهيرية – يستاؤن من هكذا ممارسات ويدينوها.
وكان محزنًا ان ترى بعض هؤلاء المتظاهرين الشباب وهم يخفون رؤوسهم ووجوههم بالاقنعة، مقلدين اخوة لهم في المناطق المحتلة اثناء المواجهات العنيفة عن قرب مع جنود الاحتلال. الذي يتقنع في مظاهرة شرعية إما يريد، في احسن الاحوال، ان يقدم على عمل ما… يجعل غيره يتحمل مسؤوليته. وإما، في اسوأ الاحوال، يكون مستعربًا ودخيلاً ومرسَلاً من جهة ما. ثم هذه الاقنعة والممارسات الاستفزازية العنيفة لاصحابها تضرّ بجماهيرية المظاهرة وتمنع الناس من المشاركة في مظاهرات قادمة.
نكافح بالسر هنا، نحن المواطنون في بلادنا؟ يا للعار! ألا فليكشف الشباب عن وجوههم، وليصعدوا نحو المظاهرات الاحتجاجية سافرين وعلى صدورهم اسماؤهم وعناوينهم وعلى جبينهم ارقام هوياتهم الشخصية. كفاحنا ليس بسري ولا بمقنّع، ولا نهاب حكومة نتنياهو وقوات أمنها.
ارض العروبة للعرب، صهيوني شيّل وارحلي. ومن الناصرة لغزة اهتزي يا ارض اهتزي. والارهابي مين مين يا سفاح دير ياسين. ومن الناصرة لجنين شعب واحد ما بلين. يا بيغن ويا شارون هذا وطنا واحنا هون…
هكذا كنّا نهتف في مظاهراتنا، وكانت جماهيرية واستقطبت الالاف، واحياناً بضع عشرات الالاف. وعندما كانت تتصدى الشرطة لنا كنا نعرف كيف نصدّها.

القيادة المنشودة
أعرف أن البعض قد “يقيم قيامتي” لما سأقوله أدناه. لكن سأقوله: لا ليس صحيحًا، حرفيًا، ما اعتدنا ترديده بأننا جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني. لقد تجزأنا خلال 67 عاماً منذ النكبة. نحن كنا وما زلنا جزء لا يتجزأ بالمعنى الهوياتي، القومي والوطني. كلنا عرب فلسطينيون. لكنّا تجزأنا جغرافيًا. ويعيش ويحيا كل من اجزائنا في ظروف جغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية خاصة تفرض عليه برامج واساليب وادوات وخيارات كفاح خاصة.
اختار شعبنا في اسرائيل، بناء على ظروف حياته الزمكانية والتاريخية، طريق الكفاح المدني والسلمي والجماهيري لتحصيل حقوقه القومية والمدنية هنا، وللدعم والمساهمة في كفاح شعبه هناك من اجل التحرر والاستقلال. والحل المطروح فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا هو حل الدولتين. وما من خدمة لمساهمتنا الكفاحية، من موقعنا في اسرائيل، في معركة شعبنا العامة ضد الاحتلال ومن اجل الاستقلال، أرقى من البقاء والصمود والتصدي، والحفاظ على الهوية القومية، واثبات الوجود الجمعي والحضاري والثقافي والامتياز في التحصيل التعليمي وفي العمل وتبؤ أرقى المراكز الوظائفية الممكنة في مختلف المجالات، والتأثير في الوسط اليهودي لصالح قضيتنا.
لذا، لقيادات احزابنا ومؤسساتنا ومختلف أطرنا الاهلية، نقول: كفى تأتأة وسكوتًا وتهادنًا من قبل بعضكم بحجة الحفاظ على الوحدة. تبًا لوحدة شكلية تصبح عائقاً لنهضة حضارية جديدة. نريد قيادة تمتاز أيضًا بشجاعة الخطاب ضد سلبياتنا، لا بحدته فقط ضد ظالمينا. قيادة لا تركب الموجة ولا تذدنب “لأجواء الشارع” (هل حقًا أصلا ان هذا هو جوّ الشارع؟) وانما توجّه وتحسّن وتقود كفاح الشارع وترفعه الى المستوى المطلوب. قيادة تكون طليعة لا ذنبًا. ولا يكون جل همها رفع شعبويتها عن طريق الثرثرة والجعجعة الراديكالية الثورية – (بالمناسبة، كلاميًا لا بالممارسة) – وانما رفع مكانة شعبها.
قيادة لا تحتمي بشعبها، بل تحميه فيحميها. قيادة تجرؤ على التصدي لتسييس وتحزيب الاديان والطوائف ولقبلية الاحزاب وحزبوية القبائل. قيادة لا تغامر ولا تقامر وتمنع زج شعبها في عمل لم تأت ساعته بعد وغير مستعدة وقادرة على دفع ثمنه بعد. قيادة تتخلص وتخلّصنا من خطاب خشبي لاكته فلاكنا، وتجيد مخاطبة الشارع اليهودي والرأي العام المحلي والعالمي لاقناعه بعدالة قضيتنا. قيادة تحرص على ايجاد أنجع الطرق لتحقيق المكاسب لشعبنا، مع الحرص على تحقيق اكثر ما يمكن من المكاسب بأقل ما يمكن من الخسائر.
هل احلم؟ لا. إذ بين قياداتنا الحالية يوجد بعض قادة على شاكلة القيادة المنشودة. ثم شعبنا تحلّى بهكذا قيادة في عقود النصف الثاني من القرن الماضي. أتذكرون؟

سميح غنادري