حتى تكون “الانتفاضة”… انتفاضة حقا
تاريخ النشر: 11/11/15 | 8:01اكتب هذه الكلمات صباح يوم الاثنين 2015/10/12. اعدام الشباب الفلسطيني المنتفض مستمر. تحظرني كلمات الكاتب المرحوم اميل حبيبي الذي كتب قبل اكثر من عقدين: اسرائيل ليست بحاجة الى اصدار قانون يجيز الاعدام، لانها تعدم الناس ميدانياً في الشوارع خارج اروقة المحاكم بدون قانون.
القاتل ليس نتنياهو الشخص، ولا الجندي او الشرطي او حرس الحدود او المواطن المسعور عنصريا، وانما نتنياهو – الحكومة والسياسة والاحتلال. والمقتول الذي لا يموت هي… فلسطين.
سبعة وستون عاماً مرّت منذ سنة 1948، والمقتول حي عصي على الموت. و48 عاما مرت منذ حرب حزيران 1967، والمقتول – الحي ينهض كطائر الفينيق، من بين رماد الاحتلال، ويحلّق. او مثل غوليفار المربوط والممسّمر بحبال ومسامير واوتاد الاحتلال وذوي القربى من المحيط الأسن الى الخليج الفاسد.
أما آن لهذا الفارس الفلسطيني ان يترجل؟ أما آن لمسيح هذا الزمان وصاحب هذا المكان ان ينزل عن صليبه وينهض من بين الاموات رغم انف الروم – الفرنجة الغرباء وصنيعتهم الصهاينة الدخلاء؟ في الانتفاضة امل ورجاء…
استمع الى واشاهد نشرات اخبار الصباح، لا لمعرفة احوال الطقس، ولا للاستماع الى اخبار الفن والادب والرياضة، وانما لأحصي عدد شهيدات وشهداء اليوم من اخوتي واخواتي. هل حقاً اصبح عددهم ما يقارب 30 شهيداً؟ اعرف ان المجرم الجاني هي اسرائيل، وانه لا وجود لكفاح تحرري غير ممهور بالشهداء. لكن لا يسعني الا ان اتحفظ من استشهاد من اجل الاستشهاد، او نتاجاً لقرار فردي لشخص اختنقت انفاسه تحت واقع الاحتلال فاصبح فقدان الحياة اسهل عليه من استمرار الموت وهو في الحياة.
واذا كان لا بد من الاستشهاد فليكن هذا اضطرارياً وفداءً لتحقيق هدف سياسي وطني عام. نريد للانتفاضة ان تتفاخر بمكتسباتها وانجازاتها، لا بعدد شهدائها. ونريد لاهل الشهداء وللناس عموماً وللوطن ان يكون الحاضنة والدفيئة للانتفاضة ولابنائها. وحين يكون الاستشهاد المعلم الابرز للانتفاضة، لا توفير المكاسب للشعب، عندها تفقد الانتفاضة حاضنتها وتحكم على نفسها بالعزلة وربما بالموت رغم بطولاتها الفردية.
سئمتُ كوننا مشروع شهادة. واصبحت أنفر من اغنيات وأناشيد تمجد الشهداء وتوصي ام الشهيد بأن تزغرت لان كل الشباب اولادها. لقد أنجبت اولادها للحياة، للحبور لا للقبور. وتريد ان تزفهم/ تزفهن لأبناء ولبنات اختيار قلوبهم، لا لأربعين حوريّة متخيّلة في جنّة متخيّلة.
تشهّت فلسطين فرح الاعراس. وفلسطين هي العرس والعروس والعريس. فهل تأخذ الانتفاضة زمام الامور بايديها، بقيادة شابة وحدوية جديدة، واستراتيجية تحرير جديدة، وتقرّب أملنا بتحقيق وعدنا منذ مائة عام واكثر باستقلال وطننا وبناء دولتنا؟ ام ستخبو قريبا بعد ان تكون قد نجحت في زيادة صفوف ورفوف قبور الشهداء؟ ولا يبقى بعدها الا الذكرى والتواريخ المتراكمة لمهرجانات احيائها.
“انتفاضة السكاكين” – يسميها ذاك الدجال الملتحي المستشيخ (من شيخ)، لا انتفاضة التحرير. يطلّ علينا كالفزاعة من شبكة التواصل الاجتماعي، والسكين في يده والدم يرشح منها والبصاق يغمر ذقنه وهو يعظ:”اطعن. اذبح. إنحر”. اما “انا”- الشعب المتشوّق لانطلاق الانتفاضة فأصبت بالاختناق. على حد علمي ينتفض شعبنا لشل وهزيمة سكاكين الاحتلال الموغلة في اجسادنا. فحتام تحيل الضحية نفسها الى قاتل وتجعل من القاتل ضحية؟ يتساءل الفلسطيني “القتيل” الذي انتفض اصلاً حباً بالحياة لا بهدف القتل،تأكيداً منه على انهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم…
الوطن الشهيد
كأننا يا بدور ما رحنا ولا جينا، وما زلنا ندور في دائرة بغل الحنانة ذاتها- دائرة الجهل والغباء والمراوحة في المكان نفسه. تلقينا اسرائيل في تيه صحراء اللجوء فعلياً، ونلقيها نحن كلاميًا في البحر. تحتل وطننا وتحرق زرعنا وتسرق مياهنا وتستوطن على صدورنا عمليًا، وندمّرها ونبيدها انشاءً كلامياً.
تتوحد سائبة اليمين الصهيوني مع يساره في شرعنة احتلالنا بحجة الدفاع عن حقها في الوجود، ونقيم نحن اكثر من عشرين تنظيم وحزب وفصيل تحرير يكون همّها الاول لا التحرر من الاحتلال وانما الالغاء لبعضنا البعض، والهيمنة على قطعة ارض وعلى سلطة ما زال يهيمن عليهما الاحتلال. تخترق اسرائيل وطننا وتحيله الى ما اشبه بالجبنة السويسرية المنخورة بالمستوطنات،وتحده من كل الجهات، وتتحكم في مجمل مرافق حياة ابنائه المعيشية.اما نحن فنتصارع للفوز بفتات السلطة الوهمية على الوطن بدلا من رفع راية الوحدة الوطنية الخارقة لقبلية الاحزاب وحزبية القبائل، سعيا منا معًا للتحرر من الاحتلال. ونهدد، وان كان بتأتأة، بعدم الالتزام باتفاقيات اوسلو ما دامت اسرائيل لا تلتزم بها (وهي لا تلتزم منذ عشرين عاماً!) – ، ونواصل التنسيق الأمني معها.
ابك يا وطني الحبيب. اضحكي يا امة ضحكت من جهلها الامم. زغرتي وغردّي وارقصي يا ام الوطن كالطائر مذبوحا من الالم، فالوطن شهيد. اما انت يا انتفاضة، فكيف وبأي حق نسميك انتفاضة اذا لم تنتفضي ضد كل هذا لإعادة احياء الوطن الشهيد.
ايّة انتفاضة هذه؟
بوركت الانتفاضة، كل انتفاضة عادلة، لأنها اعلان انطلاق من ركود واقع آسن بهدف الاطاحة به. والانتفاضة حق لكل شعب يقع تحت الاحتلال، بل هي واجب على شعب يجب ان يتصرف كشعب حتى يحقق حقوقه كشعب. ولن يزول الاحتلال، اي احتلال، اذ لم ينتفض ابناء الوطن ويقاومونه ويدفعّونه الثمن الباهظ.وما من محتل تخلى عن احتلاله ما دام هذا مكسباً مربحاً له لا عبئاً عليه.
لكن ليست هذه هي الانتفاضة التي انتظرناها. واتحفظ اصلا من اطلاق هذا الاسم عليها، هي حتى ليست بهبة بعد. صحيح ان الامور ما زالت في بداياتها، وقد تكون حبلى بتطورات وتغيّرات افضل، مع ان المكتوب يُقرأ من عنوانه احياناً. والجيد الاساسي في هذا العنوان حتى الان هو الانتفاض بحد ذاته والخروج من حالة السبات والسلبية في مقاومة المحتل، والاستعداد للتضحية. لقد اسقط هؤلاء الاولاد – الشباب المنتفض – المراهنة على تدجين الشعب الفلسطيني وكسر شوكته.
الانتفاضة ليست ان تقوم قلة من شباب تتراوح اعمارهم بين13-19 عاما، بشكل فردي وبدون توجيه وقرار جهة ما، بل بقرار كل واحد منهم على حدة وبدون تنسيق وترابط حتى فيما بينهم، بحمل السكين او المفك لطعن اول يهودي يلاقونه في طريقهم تتاح لهم امكانية طعنه قبل قتلهم.
الانتفاضة ليست تجمعاً لبضع عشرات لشباب يتجمع على اطراف حدود حيّهم – قريتهم، ويتبادل”المواجهات” الكلامية عن بعد مع مجموعة من الجنود يطلقون النار عليهم ويرسلون “العصافير” – “المستعربين” للإيقاع بهم.
ولا يجوز للانتفاضة ان تبدأ وتعمل وتستمر بعفوية، وبدون أجندة لخطة تجمعها، ولبرنامج سياسي يوجّهها ولقيادة حكيمة ومسؤولة تقودها. الحاصل حتى الآن هو حالة يأس وغضب ونقمة من وعلى وضع قاتم خانق لا يحمل أي امل او أفق لوضع افضل.
نريد انتفاضة قيادة شابة جديدة، تنهل من خبرة ودروس شيوخ شقوا الطريق بايجابياتهم وسلبياتهم. قيادة وحدوية وطنية تضع استراتيجية جديدة وبرنامج سياسي جديد، وتوفّر شتى ادوات ووسائل وامكانيات نضال جديد، وتتصرف باخلاقية وانسانية المقاتل المقاوم صاحب الحق.
قيادة تعي ان مقياس الانتفاضة حتى تكون انتفاضة حقاً في ظروف فلسطين اليوم، زمانيا ومكانيا، ووضعاً عربيا، ودولياً ، وامكانيات متاحة، وقدرة شعب على الاحتمال… لا يكون بمدى لجوئها الى العنف. لا لان الكفاح المسلح ليس من حق المنتفضين، وانما لان الانزلاق بهذا الاتجاه، في الظروف القائمة في الضفة المحتلة وما يحيط بها، لن يقود الى نجاحات وسيوّفر الفرصة لاسرائيل لقمع الانتفاضة عسكرياً، ولاغراقها بالدم وعزلها عن حاضنتها الشعبية الواسعة. باعتقادنا ان مكاسب الانتفاضة واستمراريتها واحتضانها جماهيريا يرتبط بمدى مدنيتها وسلميتها. وطوبى لانتفاضة تحقق اكثر ما يمكن من المكاسب باقل ما يمكن من الخسائر، وتكون هموم الناس دينها وديدنها.
وعلى الانتفاضة بصفتها تحمل لواء قضية عادلة، ان تطرح سياسة عقلانية عادلة وبرنامج عادل، وان تستخدم وسائل وادوات كفاحية عادلة، في كفاحها الميداني وفي خطابها السياسي والثقافي والاعلامي الحضاري والانساني. هذا واجبها تجاه شعبها اولاً، وفي مخاطبتها للناس في اسرائيل وللرأي العام العالمي ثانياً.
واخيراً، غياب المصالحة الفلسطينية وتسعير العداوات بين “حماس” و”فتح” ستلقي بظلالها السلبية على انتفاضة يجب ان تكون عّامة وجامعة حتى تكون انتفاضة. ونلاحظ، للاسف الشديد ان هنالك من يحرك بعض الخيوط، مثلاً بعض قادة حماس غزة، لجعل الانتفاضة خشبة قفز للاطاحة بالسلطة الفلسطينية لا بسلطة الاحتلال. هذا بدلاً من العمل على اعادة اللحمة الوطنية بين فصائل الشعب الواحد وجعلها جميعها حاضنة للانتفاضة. فها هو محمود الزهار،مثلاً، يصرّح ان م.ت.ف تحولت من منظمة تحرير الى سلطة عملاء وجواسيس لاسرائيل(؟!).
أما بخصوص تديين (من دين) وتطييف الانتفاضة وكونها انتفاضة من اجل الأقصى لأنه في خطر… فهذا هو موضوع المقال القادم.
سميح غنادري