سقوط آدم وحواء في زمن الفوضى: تأملات في الإنسان المعاصر

أ‌. سامي قرّه

تاريخ النشر: 22/06/25 | 12:35

يمكننا استخدام قصة سقوط آدم وحواء في جنة عدن كإطار رمزي للتأمل في حال البشرية في القرن الحادي والعشرين. فهذه القصة، التي تجاوزت حدود الزمان والثقافات، تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإنسان، والحرية، والمسؤولية، وأصل المعاناة. وبعيدًا عن أبعادها الدينية، تمثل القصة نصًا غنيًا بالرمزية، يُصوّر انتقال الإنسان من حالة انسجام فطري مع الذات والطبيعة – عالم يسوده الوئام، والطمأنينة، والبساطة الرعوية – إلى واقع يطغى عليه الألم، والانقسام، والصراع، والذنب، والموت، والمعرفة المربكة.

وتكمن القيمة الإنسانية العميقة للقصة في تناولها الدائم لتجربة العصيان وتبعاته، وهي ثيمة تتكرر في الأدب، والفلسفة، وعلم النفس. إنها قصة عن ثمن الحرية، وهشاشة الثقة، والنزعة البشرية للسعي وراء المعرفة المحرّمة. لذلك، فهي ليست مجرد رواية دينية عن أصل الخطيئة، بل سردية إنسانية كاشفة عن صراعاتنا الداخلية والأخلاقية. وما تزال هذه القصة تغذّي النقاشات المعاصرة حول المسؤولية الفردية، والعلاقات بين الجنسين، وحدود الطموح البشري، مما يجعلها حاضرة بقوة في الوعي الأخلاقي والثقافي، سواء في سياقات تاريخية أو حديثة.

في هذا المقال، سأسعى إلى تحليل أبعاد هذه القصة في ضوء التحديات التي تواجه الإنسان في القرن الحادي والعشرين، من خلال قراءة رمزية تربط بين تجربة السقوط القديمة والانقسامات الحديثة في الضمير الإنساني. سأطرح سقوط الإنسان كمرآة أسطورية تعكس عالمنا المعاصر المنقسم بالحروب، والاستقطاب السياسي، والانهيار البيئي، واغتراب الإنسان عن أخيه الإنسان. وكما أدّت معصية آدم وحواء إلى النفي، والصراع، والموت، فإن عالمنا الحديث يشهد أنماطًا مشابهة من الرغبة المحمومة، والانتهاك، والانفصال عن الطبيعة والمجتمع، تقود بدورها إلى أشكال جديدة من السقوط والانقسام.

لا يُمثّل أكل الثمرة المحرّمة في قصة الخلق مجرد عصيان بسيط، بل هو فعل رمزي يعكس تجاوز حدود الطبيعة، ورغبة الإنسان في أن يكون “كالله، عارفًا الخير والشر”. هذه الرغبة العميقة في المعرفة والسيطرة لا تزال حاضرة حتى اليوم في سعي البشرية المحموم إلى الهيمنة التكنولوجية والجيوسياسية.

يرى المؤرخ والأستاذ الجامعي في قسم التاريخ في الجامعة العبرية في القدس يوفال نوح هراري، في كتابه الشهير “الإنسان الإله”، أن الإنسان المعاصر لم يعد يكتفي بالبقاء على قيد الحياة، بل يسعى إلى “ترقية نفسه”، والتحوّل إلى كائن شبه إلهي. يقول هراري: “بعد أن تجاوز الإنسان صراعات البقاء، بات يطمح لأن يُرقّي نفسه إلى مرتبة الإله، ويحوّل ‘هومو سابينز’ إلى ‘هومو ديوس'”.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي، والأسلحة النووية، والهندسة المناخية، والمراقبة الجماعية بوصفها ثمارًا حديثة من “شجرة المعرفة”: أدوات تعد بالسلطة والتفوق، لكنها في الوقت ذاته تحمل أخطار وجودية حقيقية. وكما أدّى السقوط في جنة عدن إلى سلسلة من العواقب على آدم وحواء، فإن طموحات الإنسان المعاصر، حين تُطلق بلا ضوابط أخلاقية، تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي، والنزوح الجماعي، والانهيار البيئي، واغتراب الإنسان عن ذاته وعن الآخرين. المعرفة من دون حكمة تظل سيفًا ذا حدّين.

ورغم هذا السعي المحموم نحو السيطرة والمعرفة، لا يبدو أن الإنسان المعاصر قد ازداد حضورًا أو فاعلية في العالم، بل على العكس، يتنامى شعوره بالتفاهة واللاجدوى. فكما أدّى السقوط في جنة عدن إلى وعيٍ موجع بالضعف والمحدودية، يعيش الإنسان اليوم حالة من الانكشاف الوجودي العميق، حيث لم يعُد مركز الكون، ولا الحاكم المطلق لمصيره، بل كائن هشّ في عالم معقّد تحكمه خوارزميات لا يفهمها، وأنظمة اقتصادية وتكنولوجية تسير بمعزل عن إرادته. لقد تحوّل من “خليفة في الأرض” إلى ترس في ماكينة ضخمة، لا يملك السيطرة على مصيره ولا حتى فهم موقعه فيها.

هذا الشعور بالتفاهة، الذي التقطه جان بول سارتر في روايته “الغثيان”، يتجلى بوضوح في تجربة بطل الرواية أنطوان روكنتان، الذي يصطدم بإدراك فجائي بأن وجوده، ووجود العالم من حوله، لا يحمل أي ضرورة أو غاية مسبقة، بل مجرد حضور عبثي صامت. في لحظة يقظة وجودية، يشعر روكنتان بأن الأشياء قد انكشفت على حقيقتها الخام، فزالت عنها كل تبريرات الإنسان، لتظهر كما هي: غريبة، عديمة الجدوى، وغير قابلة للفهم أو الاحتواء.

وهكذا، يبدو السقوط في عصرنا لا كمجرد فقدان للجنة، بل كفقدان للمكانة والمعنى؛ الإنسان الذي ظنّ أنه سيُصبح “كالله”، يجد نفسه في النهاية مخلوقًا صغيرًا، غريبًا عن ذاته، وعن العالم، وعن الحقيقة. في جنة عدن، لم يكن السقوط مجرّد عصيان لأمر إلهي، بل كان تمرّدًا معرفيًا – محاولة الإنسان الخروج من موقعه الطبيعي، والسعي إلى ما يتجاوز حدوده الفطرية. هذا النمط من الطموح المعرفي والانفلات الوجودي يتكرّر في الأدب، ونلمسه بوضوح في المسرحية التراجيدية “فاوست” للكاتب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته، حيث يعقد العالم اليائس فاوست صفقة مع الشيطان، ويبيع روحه مقابل تحقيق السعادة وبلوغ قمة المعرفة. فاوست يشبه آدم في توقه إلى المعرفة الكلية، لكنه، مثل آدم أيضًا، يدفع ثمنًا فادحًا لتجاوزه حدود الطبيعة والروح.

وفي العصر الحديث، يتجسّد هذا التمرّد في سعي البشرية المحموم نحو السيطرة عبر الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والقوة العسكرية النووية. وكما أكل آدم وحواء من الشجرة المحرّمة، تواصل الإنسانية اليوم قضم “ثمار محظورة” تؤدي إلى الانقسام، والاضطراب، واللايقين، بدلًا من التحرر، والاتزان، والازدهار.

بعد السقوط، يكتشف آدم وحواء أنهما عاريان، فيختبئان من وجه الله. ليست هذه مجرّد لحظة خجل جسدي، بل تجسيد لصدمة الوعي الوجودي الأول: انكشاف الذات أمام حقيقتها الهشّة، وبداية الانفصال عن حالة البراءة والانسجام الطبيعي. العُري هنا يحمل دلالة رمزية عميقة، إذ يُعبّر عن الانهيار الداخلي للإنسان لحظة إدراكه محدوديته، ومسؤوليته، ومصيره في عالم لم يعد مألوفًا.

في هذه اللحظة يظهر الاغتراب، ليس فقط عن الله أو الطبيعة، بل أيضًا عن الذات والآخر. يتحوّل الإنسان من كائن مندمج في العالم إلى كائن منفصل، واعٍ، مشكّك، يحيا في توتر دائم بين ما هو عليه وما كان يمكن أن يكون عليه. وهذه الفكرة تظهر بشكل مكثّف في الأدب الحديث، كما في قصة “المسخ” للكاتب التشيكي فرانز كافكا، حيث يستيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه متحوّلًا إلى حشرة، فيجسد حالة الاغتراب الجذري عن الجسد، والأسرة، والمجتمع. وكذلك في رواية “1984” لجورج أورويل، حيث يعيش البطل في ظل نظام شمولي يمحو الفرد، ويصنع وعيًا مزيفًا يقطع الإنسان عن ذاته وتاريخه وذاكرته، نظام يعيد تشكيل الحقيقة ويجرّد الإنسان من إنسانيته تحت وطأة الدولة الكلية.

في العالم الحديث، يظهر هذا الاغتراب في الشعور بالوحدة الوجودية المتزايدة في المجتمعات الصناعية. صعود القومية، والتطرف الديني وصراعات الهوية ليست سوى محاولات لاستعادة الانتماء المفقود، لكنها كثيرًا ما تؤدي إلى الانقسام والعنف. وكما طُرد آدم وحواء إلى عالم عدائي، يعيش الإنسان المعاصر واقعًا تسوده المنافسة والخوف بدلًا من الترابط العلاقات الإنسانية وقبول الآخر.

تمامًا كما اختبأ آدم وحواء بعد السقوط، يختبئ الإنسان الحديث خلف الأقنعة الاجتماعية والتقنية، خائفًا من انكشافه، غريبًا عن جوهره. وهكذا تصبح لحظة السقوط بداية لتاريخ طويل من التمزق الداخلي والبحث المستمر عن المعنى في عالم غير يقيني.

تدخل العداوة إلى الوجود بعد السقوط – بين الإنسان والطبيعة، كما في ألم الولادة ولعنة الأرض التي أصبحت تُنبت بالشقاء، بعد أن كانت معطاءة بلا عناء؛ وبين الرجل والمرأة، حيث تحلّ التوترات محلّ التناغم، وتبدأ ملامح الصراع على السلطة والمكانة؛ وبين الإنسان والحيّة، كرمز دائم للخداع والخطر. ويظهر اللوم فورًا: آدم يحمّل حواء المسؤولية، وحواء تُلقي باللوم على الحيّة. إنها اللحظة الأولى في التاريخ البشري التي يتم فيها إسقاط الذنب على الآخر، وهو نمط نفسي وأخلاقي يتكرّر باستمرار حتى يومنا هذا.

فالصراعات العرقية، والحروب، وصعود الحركات الشعبوية، كلّها تتغذّى من الحاجة إلى اختراع “عدو” خارجي أو داخلي يُعلَّق عليه سبب الألم والانقسام، لتجنُّب الاعتراف بالمسؤولية الذاتية. إنّ الدافع ذاته الذي جعل آدم يبتعد عن حواء لحظة المحاسبة، نراه اليوم يتكرّر في ممارسات التمييز، والإقصاء، وإلقاء اللوم على “الآخر” المختلف، سواء من حيث الجنس، أو الدين، أو الطبقة، أو الأصل.

تُظهر هذه العداوة طبيعتها الدائرية المتكرّرة، إذ إنها تغذّي نفسها بالخوف، فيولّد الخوف عنفًا، ويؤدّي العنف إلى مزيد من الانفصال والشك والنبذ. وقد التقط الأدب الحديث هذه الآلية البشرية بكثافة. ففي رواية “الطاعون” لألبير كامو، تتجلّى العداوة في أشكال متعدّدة: تجاه المرض، وتجاه الغرباء، وتجاه الذات أحيانًا، حيث يبحث الناس عن جهة يُحمّلونها مسؤولية الكارثة، بدلًا من الاعتراف بالهشاشة المشتركة. وفي رواية “سيد الذباب” للكاتب البريطاني ويليام غولدينغ، نرى مجموعة من الأطفال تنزلق بسرعة إلى العنف والهمجية، بعد أن تتفكك الهياكل الاجتماعية وتُستبدل بها غرائز الخوف والهيمنة، ويبدأ كل فصيل في شيطنة الآخر. يظهر هنا كيف أن العداوة تنبع من غريزة الانقسام حين تغيب الضوابط الأخلاقية والمعنوية.

إنّ هذه الديناميكية القديمة – ديناميكية اللوم، والعداوة، والاغتراب – ليست مجرّد سردية دينية، بل بنية وجودية تُعيد تشكيل العالم باستمرار، وتُلقي بظلالها الثقيلة على ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا.

من بين أكثر جوانب قصة السقوط صدى في عالمنا المعاصر، يبرز مشهد الطرد من الجنة؛ ذلك الانفصال الجذري بين الإنسان والطبيعة. فكما خرج آدم وحواء من فضاء الوئام والوفرة إلى أرضٍ قاحلة تتطلّب الكد والتعب، يبدو أن البشرية اليوم تمرّ بتجربة نفي جماعي من “جنة الأرض”. التغيّر المناخي، إزالة الغابات، الانقراض الجماعي، وتدهور النُظم البيئية، كلها مظاهر لانهيار العلاقة التي كانت يومًا ما متوازنة بين الإنسان والبيئة.

هذا الانفصال ليس مجرد نتيجة، بل امتداد لـ”السقوط”، حين تتحوّل هيمنة الإنسان إلى قسر واستغلال لا يعرف حدودًا. كما أن الأرض في السرد التوراتي تُلعن بسبب عصيان الإنسان، كذلك نرى اليوم كيف يدفع البشر ثمن تجاوزهم لحدود الاستدامة، بتحوّل الطبيعة من مصدر للحياة إلى قوة مختلّة تهدد بقاءنا.

لقد تحوّل “عمل آدم في الأرض” من رمز للكرامة إلى علامة على عقوبة متواصلة. والمفارقة المؤلمة أن طموح الإنسان للسيطرة المطلقة – الذي بدأ برغبة في “أن يصير كالله عارفًا الخير والشر” – لم يؤدِّ إلى الحرية أو التقدم الأخلاقي، بل إلى خراب مادي وروحي يشمل الكوكب كله.

وهكذا، تُصبح قصة السقوط تحذيرًا دائمًا من الغطرسة البشرية: عندما نتجاوز حدود الانسجام والمسؤولية، لا نحصد المعرفة ولا السيادة، بل الاغتراب والدمار. إن الطرد من الجنة لا يمثل فقط فقدان الموقع المكاني، بل يعني الانفصال عن نظام بيئي متوازن. في رواية “موبي دي” للكاتب الأمريكي هرمان ملفيل، يلاحق القبطان أهاب الحوت الأبيض بدافع الانتقام مما يعكس في طبيعته تمرّد الإنسان. ينتهي سعيه بهلاكه وهلاك طاقمه في تكرار رمزي للسقوط الناتج عن الغرور والجهل.

تستمر قصة آدم وحواء في التأثير ليس لأنها مجرد أسطورة دينية، بل لأنها مرآة تعكس طبيعة الإنسان بكل تناقضاته: تجاوز الحدود، الانقسام، والاغتراب. واليوم، في عالم يعصف به الحروب والكوارث البيئية والتفكك الاجتماعي، نجد أنفسنا أمام نسخة معاصرة من هذا السقوط القديم، تتطلب منا أن نعيد التفكير بعمق في علاقتنا بأنفسنا، وبالآخر، وبالطبيعة.

التحدي الحقيقي لا يكمن في الحنين إلى جنة مفقودة، بل في استشعار مسؤوليتنا الجماعية للفوز بمعركة الانفصال التي فرضناها على أنفسنا. تدعونا قصة السقوط إلى التواضع، والانضباط الأخلاقي، وإعادة بناء جسور التواصل مع الطبيعة والإنسان. إذا أردنا أن نخرج من ظلال السقوط، فعلينا أن نتحرك بوعي وشجاعة، نزرع الحياة حيث بدت الأرض قاحلة، ونخلق عالمًا جديدًا يعكس أفضل ما فينا من حكمة ورحمة.

كما يقول المهاتما غاندي: “كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.”

لتحقيق هذا، يمكننا البدء بخطوات عملية مثل تعزيز الوعي البيئي والاجتماعي، دعم العدالة والمساواة في مجتمعاتنا، تبني ممارسات مستدامة تحافظ على الأرض، والعمل على بناء مجتمعات تقوم على الاحترام المتبادل والتفاهم. كل جهد صغير يُحدث فرقًا، وكل تواصل إنساني صادق يُعيد لنا قطعة من الجنة التي فقدناها.

إنها ليست مهمة سهلة، لكنها ممكنة – وكل خطوة نحوها هي انتصار صغير ضد الفوضى التي نخشاها. فربما تكون مهمتنا الآن هي أن نجد طريقًا كي نزرع جنات جديدة في الصحاري التي صنعناها بأنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة