روسيات و “دواعش”

تاريخ النشر: 06/06/15 | 9:01

ينشغل الرأي العام الروسي حاليا بقصة اختفاء فتاة روسية تبلغ من العمر تسعة عشر عاما، هي فارفارا كاراؤلوفا، الطالبة بكلية الفلسفة في جامعة موسكو. وتقول وسائل إعلام روسية إن الطالبة اختفت قبل أسبوع بسفرها إلى تركيا، متكهنة باحتمال أن يكون تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أي تنظيم إرهابي آخر قد جندها للعمل لصالحه، خاصة أنها تعرف لغات عدة أخرى غير اللغة الروسية، منها الانجليزية والعربية. ويشير والد الفتاة، المنفصل عن أمها منذ سنوات، إلى أنه لجأ إلى الشرطة وأجهزة الأمن الروسية للبحث عن ابنته، ملمحا إلى احتمال تجنيدها واعتناقها الإسلام في الفترة الأخيرة. ويؤكد أن السلطات الأمنية الروسية أكدت سفرها إلى تركــيا، بل وأكدت أن اقتفاء أثر هاتفها المحمول يدل على أنها كانت بالقرب من الحدود التركية ـ السورية. واللافت أيضا في هذه القصة أن أسرة الطالبة تؤكد أنها حصلت على جواز سفرها من وزارة الخارجية الروسية، بيد أن الوزارة نفت هذا الأمر وأشـارت إلى أن فارفارا حصلت على جواز السفر بالطــرق المعتادة عبر هيــئة الهجرة والجوازات الروسية المختصة بمثل هذه الشؤون.
وتذكر الصحافة الروسية، استنادا إلى تصريحات والدها والمحامي الذي يتابع هذه القضية، أن طالبة «جامعة موسكو» العريقة كانت تهتم في الفترة الأخيرة بالإسلام، وتحديدا بالإسلام الراديكالي، لدرجة أنها خلعت «الصليب»، وكانت ترتدي ما يُشبه الحجاب عند ذهابها إلى الكلية. وتزيد بعض الصحف الروسية في هذه القضية بالقول إن تجنيد فارفارا ربما تم عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو عن طريق عملاء للمنظمات الراديكالية الاسلامية داخل العاصمة الروسية وفي قلب صرحها التعليمي والعلمي الرئيس. وقد تكون هناك مبالغات في سرد وعرض وسائل الإعلام الروسية لهذه القصة، خاصة أن الأجهزة الرسمية تلتزم عمليا الصمت وتكتفي بالقول إنها تتعاون مع انقرة ودول أخرى للبحث عن الفتاة الروسية. وبالمناسبة، السلطات التركية، كما يُفهم من الصحف الروسية، تؤكد أنه من السابق لأوانه الحديث عن تجنيد فارفارا من قبل تنظيم «داعش»، وأنه ليست لديها معلومات عن هذا الموضوع حتى اللحظة.
وهذه ليست الحادثة الأولى من نوعها في روسيا، ففي العام 2014 سافرت الفتاة الروسية ديانا رمضانوفنا، المنحدرة من داغستان، إلى تركيا، وتزوجت هناك من شاب شيشاني يحمل الجنسية النرويجية، اصطحبها بعد ذلك إلى سوريا حيث قُتل وهو يحارب في صفوف «داعش». بعد مقتل زوجها عادت ديانا في مطلع 2015، وهي حامل في مولودها الأول، إلى تركيا، ونفذت عملية انتحارية في اسطنبول ضد مركز للشرطة التركية. وكانت أجهزة الأمن الروسية قد اعترفت في الفترة الأخيرة بأن أكثر من 1700 مواطن من روسيا يقاتلون في صفوف «داعش»، بينما تشير مصادر مستقلة إلى أن عدد هؤلاء لا يقل عن ألفي مواطن روسي، معظمهم من أصول قوقازية. وربما يكون ذلك أحد آثار الحربين الروسيتين الشيشانيتين في تسعينيات القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة. كما أن تسابق أبناء الشعوب القوقازية على التعليم الديني في تلك الفترة وما تلتها في المعاهد الدينية بالدول العربية، ونشاط ما يسمى بالجمعيات الخيرية الاسلامية في التسعينيات في القوقاز الروسي، لا شك أنه ترك أثره أيضا على هؤلاء المواطنين. وتحضرني هنا قصة لشاب في العشرينيات من عمره من أبناء القومية الروسية لا ينتمي إلى الشعوب القوقازية، كان يجلس بجواري في الطائرة العائدة من القاهرة إلى موسكو. وعلمت منه أنه يدرس في مصر بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وقد اعتنق الإسلام مع زوجته، التي تنتمي أيضا إلى القومية الروسية ذات الديانة الأرثوذكسية. وما لفت نظري، حديثه معي عن تزايد أعداد أبناء القومية الروسية، الذين يعتنقون الإسلام في السنوات الأخيرة. قد يكون مثل هذا الشاب وغيره لا يميل إلى المنظمات الإرهابية، التي تعيثُ عنفا وفسادا في المنطقة، ولكن قد يكون أيضا فريسة سهلة لتلك المنظمات.
في العام 2012، خرجت تظاهرات كبيرة في داغستان وتتارستان نظمها الإسلاميون الراديكاليون ضد سياسة روسيا الداعمة للنظام السوري، ولم تتناولها وسائل الإعلام الروسية بالجدية اللازمة. ومن المعروف أن داغستان باتت في السنوات الأخيرة ساحة للصراع العنيف بين ما يسمى بالإسلام التقليدي المؤيد للمركز في موسكو وبين ما يسمى بالتيار السلفي الجهادي الطامح إلى تأسيس «إمارة إسلامية» ويرفض كل ما هو روسي. وتكتفي موسكو، في هذا المقام، بالمعالجات الأمنية أساسا، التي قد تنجح أحياناً ولكن ليس كل الوقت. فانتشار البطالة والتمييز الاجتماعي السافر، خاصة في بعض جمهوريات شمال القوقاز، يلعب دورا غير بسيط في انتشار الأفكار الراديكالية والمتطرفة في صفوف الشباب. وبحسب مدير جهاز الامن الفيدرالي الروسي الكسندر بورتنيكوف، «فقد تضاعف عدد مواطني روسيا الذين يقاتلون في صفوف «داعش» خلال العام الماضي». ودعا بورتنيكوف إلى «ضرورة العمل على منع هؤلاء من المغادرة، ومنع وقوع هجمات ارهابية عقب رجوعهم إلى بلدهم الام». ولكن تبدو الجهود في هذا المجال متواضعة، وربما ينقصها إدراك جوهر المشكلة وضرورة حلها داخل روسيا نفسها.
وبالعودة إلى قصة فارفارا، وهي التي يجري البحث عنها حاليا والتأكد من صحة تجنيدها من عدمه لصالح تنظيم «داعش» أو غيره من التنظيمات الإرهابية، تظل الأمور مشوبة ببعض الغموض ومتروكة لـ «فانتازيا» بعض وسائل الإعلام الروسية. ولكن إذا ثبُتت صحة عملية التجنيد، فإن الأمر قد يكون جد خطير، وقد تترتب عليه تداعيات يصعب إدراكها في الوقت الراهن.
بقلم هاني شادي – السفير
xxx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة