كي لا ننسى..
تاريخ النشر: 23/11/14 | 7:29هل ثمّة قاسم مشترك، خيط رفيع أو غليظ، يربط بين “أزمة باقة” و”أزمة أبو سنان”؟ وهل يمكن الحديث بنَفَس واحد عن التّحريض على مُدرّس للّغة العربيّة وعن طوشة عموميّة يحبّ الجميع تسميتها بالطائفيّة، مع أنّ أيّ طوشة هي دائمًا بين زعران؟ أنا أدّعي أنّ الأزمتيْن مرتبطتان ببعضهما البعض، لكنّ المقلق أنّهما ليستا إلا بداية أو حلقة من سلسلة متنامية ومتصاعدة يعيشها مجتمعنا الفلسطينيّ في “دولة اليهود”.
أنا أدّعي أنّ هناك ما يربط بين هاتين الأزمتين، وسأحاول توضيح ادّعائي بأكثر ما يمكن من الوضوح: الرّابط المباشر وغير المباشر بين هاتين الأزمتين يكمن –بنظري- في استمرار انهيار المشروع الوطنيّ لدينا. لا يتوقّف هذا الانهيار أو ينحصر في “جماهير الداخل”، بل هو جزء أساسيّ وعضويّ من انهيار المشروع الوطنيّ التحرريّ الفلسطينيّ ككلّ منذ اتّفاقيات أوسلو الكريهة. ستقولون إنّ مشروعنا الوطنيّ لم ينهَر، بل هو في تصاعد وتطوّر مستمرّيْن مع المؤسّسة الصّهيونيّة وأذرعها، وسأقول لكم نعم؛ لكنّ هذا التّصعيد والمواجهة المحتدمتين هما نصف المشروع الوطنيّ، وربّما رُبعه. ما يجعل مشروعنا وطنيًّا حقيقيًّا هو قدرته على لمّ شمل القبائل والحمائل والطّوائف وتجنيدها ضمن خطاب وطنيّ بمواجهة المشروع الصّهيونيّ وبمواجهة آفاتنا الداخليّة. ونحن في هذا المضمار نحصد مؤخّرًا الأصفار تلو الأصفار، والفشل تلو الفشل.
من أكثر الألغاز المستعصية عليّ حتّى اليوم، ذلك اللّغز المحيّر الصّادم الّذي لم أعثر على جواب له حتّى الآن: كيف نكون كآساد الشّرى في وجه الشّرطة و”الشّاباك” و”اليسّام”، ونكون نعاجًا تافهة أمام مُحتكري الدين والمنظومة الدّينيّة الشّعبيّة والطّائفيّة؟ تجد النّاشط(ة) أو الحزبيّ(ة) أو الوطنيّ(ة) يهبّ ويرشق الحجارة ويتصادم مع الشّرطة، ويُعتقل ويخرج للتّظاهر ويبحّ صوته في الفيسبوك، وهو نفسه(ها) من ينخرس وينكمش إذا خرج داعشيّ أو ظلاميّ أو متعصّب في خطاب تحريضيّ على أحدٍ ما منّا، فتصبح النّيوب المكشّرة في وجه “العدوّ” أسنانَ حليب طريّة لأرانب مخصيّة تخشى الصّدام “معهم”، وتخرّ خجلى عاجزة عن الصّدام، مع أنّ المحرّضين السّلفيّين والدّاعشيّين قلّة تافهة، أحقر من أن يلحقوا الأذى الحقيقيّ بأحد، وأسخف من أن يكونوا أصحاب حجج دامغة.
وفي غياب مشروع وطنيّ بالحدّ الأدنى على المستوى الاجتماعيّ والثقافيّ، يصبح الشّقّ الصداميّ من هذا المشروع مع السّلطة برجًا عاجيًّا، أو نشاطات وطروحات لا ترتبط بالحياة اليوميّة لعوام الناس وسوادها. ولنستدرك منذ الآن: الشّق الصداميّ مع السّلطة من المشروع الوطنيّ هو واجب وضرورة وفعل سامٍ من الدّرجة الأولى؛ لكنّ غياب الشقّ الثّاني، الّذي لا يقلّ أهميّة، يجعل من الفعل الصّداميّ مع السّلطة شهادة خزي وعار علينا كلّنا بسبب تقصيرنا في شقّ العمل المجتمعيّ والثقافيّ والحياتيّ. أنا لا أعني المجاري وتشييد “الدّوّارات”، بل أعني قدرة الكوادر الحزبيّة والوطنيّة على التّجنّد ببأسها وقوّتها في وجه عصابات التّسلّح في قرانا ومدننا، وفي قدرتها على طرح المناشير الشّجاعة الّتي تحبّ طرحها في وجه إسرائيل، بنفس الحدّة والقوّة والوضوح، في وجه تجّار الأسلحة وفتوّات “الخاوا” والدّاعشيّين الظّلاميّين. لذلك نحن نشهد بداية نهاية مشروعنا الوطنيّ في باقة الغربيّة وأبو سنان، والأعمى فقط لا يرى ذلك بتسويغات “رفع سقف المواجهة مع السّلطة”. ماذا سنجني من رفع سقف المواجهة مع السّلطة ما دمنا خفّضنا سقف المواجهة مع التّخلّف والجهل والطّائفيّة والظّلاميّة فأضحى تحت المصطبة؟
عارنا في طرعان والرّامة والمغار يشهد علينا ويمدّ خيطًا قويًّا متينًا بين فشل مشروعنا الوطنيّ المجتمعيّ والثقافيّ وبين أزمة باقة وأزمة أبو سنان: الطّائفة تغلب دائمًا، والغوغائيّة السّلفيّة الانتهازيّة تُرعب النّاس دائمًا. ترى حَمَلة الآيفون وراكبي المرسيدس والمازدا 3 فتقول: ما أجملنا، وما أجمل أنّنا عصريّون وحداثيّون و”أفضل من غيرنا بكثير”، ثمّ ترانا نحن أنفسنا ننكمش خائفين مثل أيّ إنسان بدائيّ خارج من الكهف لأوّل مرة، في وجه أيّ تحريض داخليّ.
تستطيع زمرة تافهة من “أنصار الباطل” أن تشتم وتحرّض وتكفّر مثقّفًا وحزبيًّا عاليَ القامة مثل علي مواسي، ولا يحدث أمر جدير بالذّكر. الغالبيّة السّاحقة تقول مُدّعية: دعكم منهم، لا يستأهلون الردّ. ولكنّ هذه جمل عقيمة وخشبيّة تأتي في محاولة فاشلة للتّستّر على الجبن الكامن في جيناتنا الوراثيّة مِن كلّ من يقتبس آية من القرآن أو حديثًا نبويًّا بهدف التّسلّق وحصد البطولات الزّائفة. نرتجف ونُشلّ. نحن ما زلنا نؤمن في قُرارات أنفسنا بأنّ مفاتيح الجنّة مع هذا الشّيخ أو ذلك، ويُعزّز من ذلك الإيمان الجهل القاتل بالدّين، لدرجة أنّك تسأل الغالبيّة السّاحقة من المسلمين من حولك: لماذا تحبّون دينكم وتنتصرون له كالقطيع، وأنتم جهلة أغبياء في فقهه وأصوله؟ ولو كنّا متمرّسين في ديننا، قارئين له، لما استطاع أحد أن يجتزئ مقولاتٍ وآياتٍ وأحاديثَ وأن ينثرها في الهواء مهبّ الريح، فنختار زاوية قصيّة نتدثّر بها خوفًا من جهلنا وهلعنا من حاملي مفاتيح الجنّة.
نحن لم نصبح أقليّة قوميّة ولم نعد “جماهير كادحة”. نحن مسخ غير معرّف، هويّتنا عصيّة على أكبر السّوسيولوجيّين وعلماء النّفس. تشويهاتنا قاتلة ومنفّرة مثل قباحة قرانا الهجينة الرّازخة تحت بشاعة “القصارة الملوّنة” والقرميد الأحمر الأوروبيّ. لم ينجح الشّيوعيّون واليسار ببنائنا كجماهير كادحة وهادرة في وجه القمع الطبقيّ، ولم ينجح التّيار القوميّ بتحويلنا إلى جماعة قوميّة حقيقيّة تنتظم وفق انتماء فوقيّ يتغلّب على الطّائفيّة والقبليّة والحمائليّة والمصالح الانتهازيّة. نحن “دول” كثيرة: على مستوى الحمولة وعلى مستوى القرية وعلى مستوى المنطقة وعلى مستوى “عرب إسرائيل” مقابل “الضّفّاويّة” والعالم العربيّ. دول لها رؤساء ومرشّحون للرّئاسة ومفوّضون أمام الزّعيم الحزبيّ/ الانتخابيّ/ المجالسيّ، وهو الّذي يقرّر لمن “سنحلب صافي” مثل المعز في الانتخابات. من تابع تفاصيل المعركة الانتخابيّة الأخيرة في أبو سنان بين المرشّح “الدّرزيّ” وبين المرشّح “المسلم” لن يستغرب أبدًا ما يحدث الآن، ولا تستغربوا أبدًا لو هبّ مسلمو أبو سنان وانتقموا من مسيحيّيها لأنّهم دعموا “الدّرزيّ” في الانتخابات، وأضاعوا فرصة تاريخيّة لقلب ظهر المجنّ على رؤوس الدّروز. لا تستغربوا- فنحن مشوّهون لدرجات ينعدم فيها أيّ منطق، ولا تستغربوا لأنّ المسيحيّين عندنا كانوا دائمًا اللّقمة السّائغة والهدف السّهل للتّحريض والبطش (مرّة أخرى: طرعان، الرامة، المغار…)
عقولنا في غياب متزايد. وبدلًا منها: مشاعر محليّة قبليّة متنامية لدرجة الخوف. لكلّ قرية جريدة وموقع إلكترونيّ يزفّ أخبارها ويُخلّد شخوصها بأخبار وصور وفيديو؛ ظاهرة إعلاميّة- اجتماعيّة لا أعتقد أنّ هناك مثيلًا لها في العالم كلّه. ولذلك انتهى الفارق الكبير والحاسم بين “الغثّ” و”السّمين”: مظاهرة احتجاجًا على الميزانيّات؟ دعك من هذه التّرّهات، ألم ترَ صور حادث الطّرق لدار أبو فلان في الإنترنت؟ وتسأل نفسك: لماذا يحظى شخص ما، عاديّ، من عوام النّاس، بتغطية صحفيّة و200 صورة من كل الزّوايا لسيّارته المخدوشة؟ وكيف يمكن للعربيّ الّذي يتابع هذه الأخبار، بكلّ صفارها وغريزيّتها المناطقيّة القبليّة، أن يتحمّس للأخبار القُطريّة الهامّة، أو لنقل: للأخبار الجامعة للهويّة؟ إعلامنا مثلنا: مشوّه وغريب وعصيّ على التحليل في الكثير من جوانبه، واللّايك متساوية القدر والأهميّة والحضور، لعنزة بثلاثة رؤوس ولخبر عن غرق عشرات الفلسطينيّين الهاربين من غزّة إلى بعض من الحياة.
حين يفشل مشروع وطنيّ مجتمعيّ، تعود النّاس إلى غرائزها الأولى: الحمولة والطّائفة والقبيلة. يمكنكم أن تحاججوا وأن ترفضوا هذا الإعلان المأساويّ عن بداية احتضار مشروعنا الوطنيّ المجتمعيّ، لكنّ هذا لا يهمّ أبدًا. فأنتم لن تفعلوا سوى التّهجّم الشّخصيّ على كاتب المقالة أو جماعته أو بلده. هكذا نفعل دائمًا. اَطلِق الرّصاص على من تجرّأ على خدش الكذبة الّتي نروّجها للنّاس بأنّنا “عصريّون” و”ديمقراطيّون” و”وطنيّون”. من يخرج لصِدام “اليسّام” ولا يخرج لصدام مافيات الظلام هو جبان وليس وطنيًّا. الوطنيّة الموجّهة للآخر فقط هي ملاذ من الجبن المتأصّل فينا وليس بطولة. وإذا كان لا بدّ من توزيع الجهود فأنا قد حسمتُ أمري: اِسحبوا جُلّ جهودنا من المعركة مع المؤسّسة الصّهيونيّة ووجّهوها (الآن!) نحونا نحن، نحو قبائلنا وطوائفنا وحمائلنا وجهلنا. ستقولون إنّنا سنخسر المعركة أمام المشروع الصّهيونيّ؟ لا لن نخسرها! سنخسرها إذا رفعنا شعارات الثّورة في وجوههم وبتنا ننام تحت السّرير خوفًا علينا من أنفسنا.
يحاججني البعض دائمًا بأنّ المشروع الوطنيّ السياسيّ لدينا بألف خير، وأكبر دليل على ذلك نجاح أحزابنا الوطنيّة والإسلاميّة في الانتخابات. لكنّ كلّ ناشط حزبيّ متوسّط الأهميّة يعرف حجم التّزويرات الّتي تحدث في الصّناديق بين الثّامنة والعاشرة ليلاً، وتحاصص أصوات من لم يُدلوا بأصواتهم. الأرقام الّتي نشاهدها هي ضعفا أو ثلاثة أضعاف الأرقام الحقيقيّة، ناهيك طبعًا بأنّ عددًا كبيرًا من مصوّتي الجبهة والتّجمّع والإسلاميّة يصوّتون لهذه القوائم لأسباب طائفيّة وحمائليّة، وتقسيمة الحمائل في قرانا ومدننا أثناء الانتخابات معروفة لكلّ سائل. أي أنّ المشروع الدّيمقراطيّ الّذي يمكن أن يتجلّى للبعض في الانتخابات وفي أحزابنا هو في جزئه الكبير كذبة وتكريس للمباني القائمة والشّائعة الّتي تدّعي الأحزاب أنّها تحاربها.
يستقيل مثقّف ومُعلّم رائع مثل علي مواسي كي يستطيع العمل بحرّيّة واتّخاذ الخطوات الّتي يريدها –وبشجاعة- في وجه محرّضيه، لأنّ الماكينة القبليّة في باقة وتوازناتها لا تبقي له هامش مناورة كافيًا. علي مواسي يستقيل من المدرسة كي يبدأ معركته الثقافيّة والمجتمعيّة، لا كي ينهيها. وبدلاً من أن يرثي البعض هذه الخطوة ويرجوه البقاء، فإنّني أدعو أصحاب النّفوس الرّهيفة والحسّاسة للظّلم لترك الفيسبوك والقدوم إلى باقة والتّجنّد –فعليًّا- في هذه المعركة. ستُفاجأون عندها كم نحن أقوياء وكم هم تافهون وسخيفون. لكنّكم لن تفعلوا. فالطّوشة على الفيسبوك أحلى وأكثر تشويقًا وإثارة.
علاء حليحل