رحلة التكفيري إلى الجنّة

تاريخ النشر: 12/10/14 | 19:05

ما الذي يجعل طالباً جامعياً او عاملاً بسيطاً او مُطرباً شهيراً يلتحق بتنظيم إرهابي يقتل بلا تمييز ويعتدي على النساء والأطفال بحجة أن هؤلاء كُفار يستحقون الموت؟ ما هي الدوافع النفسية العميقة المُحرّكة لسلوك هؤلاء الأشخاص؟ فليس محض صدفة ان يتحوّل إنسان كان بالأمس القريب شخصا هادئا ومُسالما، وربما مرِحا، الى وحش مُرعب يرتكب المجازر باسم الدين! وليس محض صدفة ان يستجيب احد أفراد العائلة الواحدة الى مُحرّضات ثقافية ودينية تُنادي بتطهير المُجتمعات الفاسدة بينما لا يفعل ذلك سائر أفراد أسرته!
هذا الاختلاف بين شخص وآخر في الاستجابة لنداء «العقيدة الدينية» يعود لأسباب خاصة بالبُنية الذهنية والنفسية لكل منهما. إذ ان رحلة التكفيري مع عقيدته الشخصية التي تُحدد نظرته الى الحياة، تبدأ عادة في مرحلة مُبكرة من مراحل العمر. وما الهدوء الذي يُبديه هذا الإنسان في سلوكه اليومي إلا ساتر مؤقت لحالة من السخط والإستنكار تعتمل في داخله ولا تجد مُتنفسا لها في الواقع المعيش. بيد ان أفكارا خارجة عن المألوف قد تخرج من فمه الى العلن لتُشير الى حالة من الضيق وعدم الرضا والرغبة في تغيير العالم. وتظهر عوامل الأزمة النفسية لدى أشخاص من هذا النوع في الأوقات التي يتعرّضون فيها للضغوط الاجتماعية والاقتصادية. في حين تُعتبر المُنظمات التكفيرية بالنسبة إليهم الحاضنة النفسية والعقائدية والمادية للتعبير عما يعتمل في دواخلهم المُظلمة من مشاعر.
ان المُجاهد التكفيري هو النسخة الدينية للإنسان الشمولي المُتطرّف الذي ينتقد كل شيء ويعترض عليه في اي وقت واي مكان، بحيث لا يعرف ما يريد ولا يعرف الآخرون ذلك أيضا، علما ان الثابت لديه هو عدم الرضا عن حياته وحياة الآخرين كما هي، او كما قد تكون عليه في المستقبل. إنه في الأصل شخص مُتطرّف في «آليات تفكيره» قبل ان يُصبح إنسانا مُتديّنا. وهو إنسان حاقد على المجتمع لا ينشد الإيمان الديني من باب التسامح والشكر، وإنما من باب البحث عن خلاصه الذاتي من الوحش الذي يسكنه. عدا عن ذلك هو يعتقد أنه مؤمن وطاهر ومظلوم، وان الله يُحبه لهذا السبب ويطلب منه – عبر وسطاء ورجال دين أتقياء – ان ينضم الى صفوف المُجاهدين في سبيل الله. معنى كل هذه التناقضات والإشكالات ان هناك إمكانية لأن ينضم آلاف المؤمنين المُزيفين الساخطين على المجتمع والجنس البشري الى جحافل التكفيريين تحت راية الإيمان الديني! فهؤلاء يجمعهم قاسم مُشترك عميق وشخصي هو الذهنية المُتطرّفة، اي آلية التفكير المُخالفة للآليات الطبيعية وليس العقيدة الدينية القائمة على الإيمان الحقيقي.
ان المُتطرّف، من منظار علم النفس التحليلي، هو الإنسان غير المُتزن عاطفيا الذي ينزع غالبا الى الذهاب نحو أطراف الحلول في التفكير النظري او السلوك العملي / أقصى اليمين او أقصى اليسار /. فالذهاب الى الوسط يُربك منظومته الذهنية والسلوكية التي تشكلت أيام طفولته ومُراهقته ردا على تحديات صعبة او صدمات عنيفة اوإعتداءات تعرّض لها من مُحيطه وهو لم يزل قاصرا، فقرر ان يتشدد طوال حياته في كل شيء منعا لتكرار ما واجهه في الماضي. هو إذن إنسان مُتشدد في لاوعيه ولا يعرف شيئا عن دوافعه النفسية العميقة. وهو إنسان كاره للتعقيد ونازع نحو التبسيط (أسود/ أبيض) لأنه لا يملك طاقة نفسية ومعنوية تؤهله للتعامل مع التعقيد او الغموض، فهذه الطاقة شحيحة لديه وقد تنضب في أي وقت بسبب صرفها على صراعات النفس الداخلية. لذا يتميّز هذا الإنسان المريض بقلّة الصبر وسرعة الإنفعال، فضلا عن العطش الشديد للعاطفة المفقودة لديه والتي يستحضرها عبر المُشاركة في طقوس الحداء الجماعي المؤثرة. كما يتميّز بدرجة كبيرة من الحقد والكراهية لكل من يُحددهم مُذنبين او مُسببين لما وقع عليه من ظلم وجور في حياته، سواءٌ تجسّدوا في أشخاص مُحددين ام في مؤسسات تابعة للدولة. بهذا المعنى هو يسعى الى الانتقام وتحقيق العدالة، لكنه ما ان يُحرز هدفا من أهدافه المنشودة حتى يسعى الى مزيد من الأهداف في مرمى الأعداء، وهكذا دواليك الى ما لا نهاية. فهو لا يعلم أنه وقع في دوامة لا يحلها إلا المُعالج النفسي او.. الموت. لهذا السبب ينظر المُتطرّف الى الموت بإعتباره آخر وأنجع الحلول الجذرية التي قد يلجأ إليها للخلاص من محنته النفسية التي يظنها محنة العالم الفاسد المُحيط به.
لكن ماذا عن عقل المُتطرّف؟ ماذا عن نجاحه في التحصيل العلمي او تبوؤ مراكز عُليا في الأحزاب والتنظيمات التي ينتسب إليها؟ لقد أثبتت العلوم الطبية ان الجانب العاطفي في الإنسان يُدار من النصف الأيمن للدماغ، فيما يُدار الجانب العلمي فيه من النصف الأيسر. اي ان القدرات العلمية مفصولة تماما عن القدرات العاطفية. لهذا السبب نرى أطباء ومهندسين وحملة شهادات عُليا مُنتسبين الى أحزاب وتنظيمات مُتطرّفة او تكفيرية. هؤلاء أثبتوا أنهم قادرون على النجاح في مُختلف مجالات الدراسات العُليا القائمة على المناهج العلميـة والعقلانـية في دراسة العلوم الطبيعية والإنسانية. إلا ان الشهادة الجامعية – مهما علت – لا تحُل مُشكلة المُتطرّف النفسية والعاطفية. فالإنسان الجامعي قد يقتل ويُعذّب ويثأر وينتصر لعقيدة مُطلقة اختارها عن قصد بواسطة أناهُ المُمزّقة لتستجيب لدوافعه النفسية العميقة. هذه العقيدة تُشكّل بالنسبة إليه الحل الحاسم والعلاج الشافي للخلاص من أزمته العاطفية والنفسية. وقد يصل المُتطرّف الى رئاسة الدولة او اي منصب رفيع إن كان خطيبا مُفوّها او مُنظرا ناجحا لعقيدته. فأزمته العاطفية والنفسية لا تحول دون إمتلاكه قدرات تنظيمية وتعبوية وتكتـيكية يتفوّق بها على خصومه ومُنافسيه لأن هذه الأمور هي بطبيعتها قضايا إجرائية لا علاقة لها بمنظومات القيم السلوكية العُليا التي تنهي الإنسان الطبيعي عن القتل الوحشي او سبي النساء او إستغلال الأطفال او التمييز الديني.
ان أخطر ما يقوم به رجل الدين التكفيري هو نشر أفكاره وتصوراته الذاتية في بيئات اجتماعية بُنِيّ إيمانها الجماعي على الطاعة العمياء والثقافة الخلاصية. فهذه البيئات المُقفلة آفاقها الداخلية بسلاسل الطاعة والاستسلام للعقائد المُقدّسة تنشد الخلاص الحضاري عن طريق الحل الديني. وهي لا تستسيغ الوسائل المدنية لتحقيق نموها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لهذا السبب تُعتبر تجمعاتها الديموغرافية حواضن للمُتطرّفين الذين يقودونها نحو تعميق مأزقها الحضاري الذي ما برحت تتخبّط فيه. وليس صُدفة ان ينتقي بعض دُعاة الإسلام المُتطرف آيات قرآنية اضافة الى أحاديث نبوية تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، فيقوموا بتحريفها ليُسوّغوا بها العنف الوحشي الذي تُمارسه المنظمات التكفيرية.
تجدر الإشارة الى ان هذا التحليل النفسي – السوسيولوجي لا يشمل دوافع الأشخاص الذين يستغلون الدين لزيادة ثرواتهم او نفوذهم السياسي. فهؤلاء ليسوا مُتطرفين في الغالب الأعم، ولا تقودهم مشاعر عميقة من اي نوع، وهم قادرون على تغيير جلودهم بسرعة فائقة وفقا لما تقتضيه مصالحهم.
ان التنظيمات التكفيرية تُشكّل اليوم عامل جذب لشرائح كبرى من المُتطرّفين الناقمين على مُجتمعاتهم. وهي بأعمالها الإرهابية الوحشية تُقدّم لأنظمة الإستبداد في المنطقة العربية خدمات كبرى لا تُقدّر بثمن. كما أن هذه التنظيمات، التي كانت سرية في الماضي، باتت تعبّر عن نفسها بشكل صارخ ومُباشر دون اي حاجة الى التمويه او التجميل. خاصة ان هناك مُنافسة مُحتدمة بين العقائد الدينية الإسلامية تختلط في آتونها المصالح السياسية والاقتصادية. وهو ما يجعل الأشخاص التكفيريين المُصابين بمرض التطرّف النفسي وقودا لحروب جهنمية يستفيد منها تجار الحروب من دول وأفراد وجماعات. وهي حروب عمياء تفتك بالمدنيين العُزل والأشخاص الضعفاء الذين يعتقد التكفيري أنه يُرسلهم الى الجنة (او الى النار) قُربة الى الله.
فؤاد مرعي – السفير

uuuu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة