“داعش” يفرض ضرائبه.. في أوروبا!
تاريخ النشر: 10/10/14 | 0:04رغم الحساسية الشخصية لقصتها، لم تتردد يسرى حين سألناها إن كانت ترغب في نشرها. قالت مباشرة «نعم بالتأكيد، نريد أن يعرف العالم أن ما يفعله تنظيم داعش بعيداً عنا آلاف الكيلومترات، صار قصة تنغص حياتنا يوميا».
وصل هذا التأثير إلى درجة تجاوزت كل الحدود. كانت يسرى تتجول مع شقيقتها أمل في إحدى مدن الألعاب البلجيكية الكبيرة. صيحات الابتهاج والصخب لم تمنع التعليقات الجارحة من الوصول إلى مسمع الشابتين. كانت تعليقات جارحة مع سبق الإصرار والترصد. «انظروا هناك إرهابية»، قال أحدهم لمن معه. سمعت أمل من يناديها مباشرة «يا إرهابية».
الصدمة التي خلفها تكرار ذلك، حول يوم عطلة الفتاتين إلى تعاسة. صارت يسرى تبكي، فيما راحت أختها تواسيها، رغم أنها المستهدفة. «لا تحزني»، قالت أمل، «فهذا ليس تعليقاً شخصياً، لأن هؤلاء الناس لا يعرفونني، لو عرفوني لما قالوا ذلك».
تكمل امل (22 سنة) سنتها الجامعية الأخيرة من دراسة اللغة والثقافة العربية. تصغرها يسرى بسنة، وهي تدرس ترجمة اللغة العربية. ولدت الشابتان في أوروبا لعائلة مسلمة من أصول مغربية، لكن لكل منهما طريقتها الشخصية في عيش إيمانها. يسرى لا ترتدي حتى الحجاب، فيما لا تخرج أمل بدون الخمار الذي لا يُبقي مكشوفاً سوى وجهها.
ما تعيشه هذه العائلة يمثل وضعاً غير مسبوق، فـ«قبل داعش، ليس كما بعده»، تقول يسرى، مشيرة إلى أنه «بعد الضجة التي أثارها هذا التنظيم، صارت أختي تتعرض كثيراً لتعليقات تتهمها بأنها إرهابية، أما في الماضي فكان الناس يكتفون بالنظر كثيراً إليها».
روت يسرى بعض تفاصيل حكايتها مع شقيقتها أمام زملائها في صف الترجمة في الجامعة. معظمهم أبناء عائلات مسلمة مهاجرة. مجرد أن طرحت عليهم أستاذتهم سؤالاً إن كانوا يتابعون ما يحدث قي الشرق الأوسط، صار «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» بطل القصة بلا منازع. قال أحدهم معلقاً على ما يحدث إنه «صار علينا أن نبرر دائماً لماذا يقوم هؤلاء الناس المجانين البعيدون بتلك الجرائم».
وتؤكد المؤسسات المعنية أن الظاهرة باتت تؤرق المجتمعات المسلمة في أوروبا. هذا ما رصدته أيضا الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية. في حديث مع «السفير»، يقول رئيسها ميكائيل بريفو إن المسلمين الأوروبيين «باتوا يشعرون فعلاً بالضغوط الاجتماعية الكبيرة عليهم كي يشرحوا ما يحدث. هذه الضغوط تلاحقهم في أماكن العمل والمدارس، وفي كل بيئة اجتماعية يتواجدون فيها».
وتصنف هذه التبعات على أنها متصلة بما يسمى «رهاب الإسلام». جمعيات المسلمين في أوروبا رصدت زيادة في عدد الاعتداءات على أفراد مسلمين، خصوصاً تجاه النساء، وهي تتدرج من الألفاظ الجارحة، لتصل إلى نزع الحجاب في بعض الحالات. تم تسجيل مئات الحالات في بريطانيا، خصوصاً بعد نشر «داعش» لمقاطع فيديو إعدام الرهائن الغربيين.
لكن المسألة لم تعد تتعلق بردة الفعل على مشاهد إجرام مروّع، بل تعدتها إلى الخوف من تهديد مباشر. في مترو العاصمة البلجيكية، كان أحد الشبان المسلمين يتمتم بصوت مرتفع آيات قرآنية. مظهره مع لباسه «الأفغاني» الأبيض جعل الذعر يحل بمن كان يجلس خلفه. كانت إحدى الراكبات تريد الخروج من المترو قبل أن تصل إلى محطتها، فسألت بصوت مرتجف «ماذا لو كان يقول تلك الأشياء قبل أن ينفذ هجوما انتحاريا؟». ولكن الشاب غادر بهدوء. كانت تلك طبيعته، التي لا يمكن القول إنها لا تلفت الانتباه، وإنها لا تسبب ذعراً في ظل الأجواء المشحونة السائدة.
وصار تضاعف هذا الخوف ملحوظاً أكثر بعد كثرة الحديث عن تهديد «الجهاديين» الغربيين. وتعد بلجيكا من أكثر الدول التي سافر منها هؤلاء، نسبة إلى عدد سكانها (أكثر من 300 «جهادي» نسبة إلى 11 مليون نسمة هم سكان البلد). الضجة تصل ذروتها الآن بعدما انطلقت الأسبوع الماضي أكبر محاكمة لـ «الجهاديين» الغربيين في مدينة أنتويرب. 46 شخصاً يواجهون احتمال السجن حتى 15 سنة، لتورطهم بالقتال في سوريا أو التجنيد.
ولم تعد المخاوف مجرد وهم ، بعدما فعله مهدي نموش. نزل «الجهادي» العائد من سوريا إلى وسط بروكسل، ركن سيارته ومشى إلى المتحف اليهودي، ليقتل ببندقيته أربعة أشخاص.
وارتفعت حدة التهديدات بعد حرب التحالف الدولي على «داعش». ليس فقط من احتمال حصول هجمات لـ«الجهاديين» العائدين، بل من المتعاطفين مع هذا التنظيم. وفي هذا الصدد، تم تشديد الإجراءات الأمنية، خصوصاً في مقر المفوضية الأوروبية، الذي كان هدفاً لاعتداءات أحبطتها أجهزة الأمن مؤخراً.
وفق هذه الخلفية، صار المجتمع البلجيكي بدوره يصدر ردود فعل غير مسبوقة. قبل أيام، انتشرت أخبار إلغاء مدرسة بلجيكية رحلة استكشافية إلى بروكسل، رغم أنها حدث سنوي ينتظره الطلاب. كانت هذه المدرسة الابتدائية، في مدينة هاسلت شمال بلجيكا، معتادة على إرسال طلاب الصف الأخير (12 سنة) للتعرف على المؤسسات الأوروبية ومعالم العاصمة.
وسائل الإعلام البلجيكية نشرت رسالة المدير، فيليب كويبرز، وعنوانها «لا رحلة إلى عاصمتنا هذه السنة»، قال فيها مبرراً إلغاء الرحلة إن «ما الذي سيأخذنا إلى هناك مع الأطفال؟ نقرأ يومياً عن تهديدات إرهابية لتلك الأماكن، وإضافة لذلك أرسلت بلجيكا طائرات إف 16 إلى العراق. إذا لم نتمكن من ضمان أمن أطفالنا بالكامل في بروكسل فالأمر سهل: لن نذهب».
ما يؤكد أن القضية تجاوزت ظاهرة «رهاب الإسلام» هو إطلاق حملة «ليس باسمنا». آلاف المسلمين من أنحاء العالم، بينها المدن الأوروبية، سجلوا مقاطع فيديو يدينون فيها جرائم «داعش»، مشددين على أن دين الإسلام بريء منها تماماً.
يتذمّر البعض من اضطرار المجتمعات المسلمة في الغرب لتقديم تبريرات، كما لو أنهم مشتبه بهم، كلما ضج العالم بقضية كهذه. مع ذلك، يقول البعض إن هذه الحملات ضرورية. من أصحاب هذا الرأي، عز الدين الزير، وهو إمام مدينة فلورنسا ورئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية في إيطاليا. خلال حديث مع «السفير»، قال الإمام إنه «حين نرى أن الآخر غير المسلم أصبح يعيش بالفعل حالة فوضى وحالة رعب، فحينها يفرض علينا واجب الشراكة في المواطنة أن نبين له موقفنا»، معتبراً أنه «ليس من السهل أن يكون الإنسان خائفاً، لذلك نشرح لهم أن هذه الجرائم ضد مبادئ ديننا. أن من يرتكبها هم قلة مجرمة يتولى أمرها القضاء مثل كل الجرائم الأخرى».
شارك الإمام الإيطالي في مؤتمر نظمته مؤسسة «التفاهم العرقي»، لتأكيد أهمية محاربة التطرف، بمشاركة خبراء ورجال دين مسلمين ويهود.
من جهته، يعتبر مدير الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية، محدثاً من شاركهم طاولة النقاش، أن «كل هذا كلام نخبة ليس له تأثير فعلي». الرجل مقتنع بأن الطريقة التي تتصرف بها الحكومات الأوروبية «لن تحل لا مشاكل التطرف، ولا الجهاديين، ولا غيرها».
وكانت الحكومات الأوروبية، حين طفت مشكلة «الجهاديين»، لجأت، من ضمن الحلول الإسعافية، إلى رجال الدين والمؤثرين في البيئات المسلمة لنشر دعاية مضادة للتطرف. يرى بريفو أن الحل هو في «إشراك المجتمعات المسلمة في صنع القرار، عبر آليات دائمة تنظمها الدولة صاحبة السلطة والمسؤولية».
كل هذه المشاكل برأيه تأتي من تراكم «الإقصاء للمجتمعات المسلمة في أوروبا». يؤكد بريفو أن تنظيم «داعش» لعب على ذلك، فـهو «يخاطب الشباب المسلمين داخل غيتوهات أوروبا (المعَازل) ليقول لهم: مكانكم ليس هناك بل معي».
على الأرض، يمكن رصد كيفية تدهور أوضاع «المعازل» في مدينة كبروكسل. بعض الأحياء المعروفة بغالبية سكانها المسلمين، مثل حي «مولنبيك»، صارت موصومة بالعدوانية والتطرف. بعض الشبان الذين يعيشون متسكعين على أرصفة الحي، يواصلون جعله، مثلا، منطقة «محظورة» على الصحافة. نادراً ما دخلت كاميرا تلفزيونية إلى الحي، ومنها لمراسلين عرب، من دون أن يعترضوها ويعطلوا عملها. مراسلو الأخبار البلجيكيون فقدوا الأمل من العمل في تلك الأحياء. أما حينما تسأل أحد أولئك الشبان عن دوافع عدوانيتهم، يردون، كما قال أحدهم، «لأنهم يأتون فقط كي يبحثوا عما يشوه صورة الإسلام». يحدث ذلك رغم أن معظم سكان الحي ليس لديهم أي مشكلة، وبعضهم يقف عاجزاً عن منع طرد مراسلي التلفزيون، حتى لو كان دعاهم بنفسه، متعهداً بأن يكون دليلهم.
في مقابل ذلك، يسري «الرهاب» كالماء، ويتفرع في كل اتجاه. وهو لا يتعلق فقط بالدين، بل يمكن أن تحركه مشاهدة أحد يقرأ كتاباً باللغة العربية، أو خلال مقابلة أحد يحمل اسماً عربياً.
وفي هذا السياق، يشدد مسؤول الشبكة الأوروبية لمكافحة التطرف على أنه «يجب التصدي لخطاب الكراهية، لأنه حاضنة لجرائم الكراهية، ويقود إلى ارتكابها».
وبما أن الحلول العامة مفقودة، تبحث أمل عن حلول شخصية لتقلل الضريبة التي تدفعها. تشرح شقيقتها أنها لاحظت ارتباط عدد التعليقات والشتائم بلون الخمار: «حينما تلبس أمل خماراً أسود، تزداد التعليقات الجارحة، فيما تقل حينما تلبس خماراً أزرق أو أخضر».
ولأنها تخاف عليها من الأذى، توضح يسرى أنها لن تترك شقيقتها تخرج وحدها، فحينما تكون بصحبتها شابة غير محجبة «ستبدو طبيعية ويقل احتمال التهجم». تتحدث الفتاة المسلمة بضيق عن الظرف الذي وضعن فيه مرغمات: «أمل ترفض وصف المرأة التي تلبس الخمار بأنها إرهابية، مثلما ترفض وصف المرأة التي تلبس تنورة قصيرة بأنها عاهرة».
بقلم وسيم ابراهيم – السفير