هل جفّفونا ونحن في الشتات!
حسن عبادي/ (القدس/ حيفا)
تاريخ النشر: 24/06/25 | 12:13
قرأت رواية “عين التينة” للروائي صافي صافي (143 صفحة من القطع المتوسط، لوحة الغلاف: تصوير المؤلف، الإخراج الفني: سناء صباح، صادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله، وصدر له روايات الكوربة، الباطن، تايه، زرعين وغيرها) لأشارك في ندوة “أكثر من قراءة” بعمان وتعذّرت مشاركتي فقرأتها ثانية حين قرّر القائمون على ندوة اليوم السابع المقدسيّة مناقشتها مساء الخميس 12 يونيو 2025.
كُتب على الغلاف الداخلي أنّ لوحة الغلاف من تصوير المؤلف وحين أبديت ملاحظتي خلال الندوة أن صورة الغلاف تدمج بين صورة للطبيعة الفلسطينيّة وفتاة تتأمّلها، وليست بصورة عفويّة، تبيّن أنّ الغلاف الرائع من تصميم أيمن صافي زيد.
عنوَن الكاتب روايته “عين التينة” وتساءلت لماذا لم يعنونها ب “بيسان” المشتهاة التي ظهرت فجأة في نهاية الرواية؟
جاءت الرواية في (26) فصلاً قصيراً، يصلح كلّ منها أن يكون قصّة قصيرة؛ بيسان، كن صديقي، حنين، المدينة، باقة، حنين، كوشان، البوسطة، التيه، الطريق، الدرباشية، البركة، رقص، اليعسوب، الأزرق، العليق، العنق، العصي، الفرز، عين التينة، اشتباك، الحولة، أصدقاء أعداء، الغجر، بيسان، الحبس.
يستقبل السارد صديقته حنان المقيمة في الشتات، (زميلة الدراسة الجامعيّة) القادمة إلى فلسطين لزيارة بيسان، بلدة الآباء والأجداد، رحلة للوطن تحمل الكثير من التخبّطات؛ وكيف للفلسطيني المهجّر زيارة بلدته بجواز سفر أجنبييّ يُختَم على يد حارس الحدود، المحتلّ الغاصب، مما أخذني مجدّداً لرواية “تذكرتان إلى صفّورية” لسليم البيك (تنتهي حين يغادر إلى المطار مع ليا، وتذكرتان، يصلان صالة الانتظار، بوّابة العودة إلى صفّورية، ويبدأ الصراع النفسي ويتخبّط بنفسه، ستكون زيارة وليس عودة، ليست بعودة عن أجداده الأربعة وعن والديه وعن نفسه، ولم يُرد أن تكون زيارته هو الفلسطينيّ إلى فلسطين بجواز سفر فرنسيّ وإلى مطار إسرائيليّ، ليس هذا ما انتظره سبعين عامًا، منذ خرج جدّه من الجليل إلى الشّام، توالى الخروج، أبوه من المخيّم إلى دبي، وهو من كلّ ذلك مغرّبًا إلى أوروبا).
يتخذ الكاتب من قدوم حنانه المتخيّل إلى فلسطين عتبة وركيزة لدحض الرواية الصهيونيّة التي تحاول طمس الرواية الأصلية وتغييبها.
السارد مهجّر “فأنـا مـن هنـاك، مـن وسـط الوسـط، قـرب حــدود الخط الأخضر، قــرب المطار، قــرب نعلــين وبــدرس وقبيــا، ورنتيــس مــن الجهة الشــرقية، واللــد مــن الجهة الجنوبية الغربيــة”، وحنانه من بيسان، يأخذ بيدها بتلك الرحلة المتخيّلة لتزور بلدة أهلها وتمر الحافلة بقرية “عين التينة” لتُواجه بهتافات عنصرية تجبرهم على المغادرة نحو بيسان المشتهاة وحين وصولها يتم اعتقالهم مما يحرمها من رؤيتها، ويتيح لهم لحظات من الحميميّة الدفينة “قلـت انزوينـا، فكانـت الزاويـة مكاننـا، ولـم نعـد نشـعر أن هنـاك أهميـة لـو اتسـخت ثيابنا، أو ازداد تصبــب عرقنــا. مــرت ســاعة، ســاعتان، فشــعر آخــرون بالنعـاس، وشـعرت أنـا وحنـان بالقـرب، فاقتربنـا، وشـعرنا بالوحـدة، فاتحدنا عناقـا وقبلاً، شـفاه حـارة جائعـة، بهـدوء صوفييـن، طاويـين، تمددنا والتصقنــا، بهــدوء، بســكينة هــذه المدينة، فحــل علينــا الإله. بهـدوء كنـا معـا، وبهـدوء اجتمعنـا، بهـدوء شـآن، وبهـدوء، بهـدوء، عشـنا معـا، ومتنـا معـا، ثـم عشـنا بسـكون”.
توطّدت في السنوات الأخيرة علاقاتي مع الأهل في المنافي والشتات، وغالبيّتهم بطبيعة الحال من قرى مهجّرة، وزرت غالبيّتها بناءً على رغبتهم وطلبهم، وبدأت في حينه بمبادرة لإطلاق إصدارات بعض الكتّاب منهم من على أراضي بلداتهم المهجّرة، (وسأعمل على تجديد المبادرة بعد انتهاء حرب الإبادة على غزّة)، وها هو صافي يحاول الغوص في تلك العلاقة بين الداخل والخارج، من خلال علاقة السارد الموجود في “الداخل”، ولو أنّه داخل منقوص، على حدّ قول صديقي الراحل أحمد دحبور، وبين الخارج عبر حنان القادمة من هناك لزيارة بيسان. هل يمكن لتلك العلاقة أن تكون عفويّة طبيعيّة تحت مظلّة المحتلّ الغاصب وكنفه؟
راقت لي كاميرة الكاتب ووصفه للأمكنة، رغم أنّه مرّ بها مرور الكرام دون استراحة لفنجان قهوة، ووصفه المجهريّ ثلاثي الأبعاد لحنانه؛ لبسها، تفاصيل تنّورتها البنيّة التي تصل حتى الركبة وكسرات تجعّدها، وقميصها وصور حبات القهوة المتناثرة عليه، وساعتها الذهبية وحقيبة الكتف الجلديّة، ورقصة مها وحركاتها، وتصوير مشاعر المرافقين وأحاسيسهم ونبضهم.
جاء ذكر الكثير من القرى المهجّرة التي بقيت في الذاكرة وشاهدة على الجريمة، وقرى أخرى في الداخل الفلسطيني قد صمد أهلها وبقوا شوكة في حلق المحتل الغاصب (عارة وعرعرة وكفر قرع بلدات في المثلث وليس الجليل عزيزي صافي ص. 116)
للكاتب مواقفه السياسيّة والفكريّة التي تجلّت في الرواية؛ تتساءل حنان “وهل جففونا ونحن في الشتات! لم يفعلوا، وها أنا أحاول العودة إلى بيسان، وإن كانت زيارة، وإن كانت بتصريح، وإن كنت وحدي. اعتقدت قبل المجيء هنا، أن الحولة قد جففت تماما، لكني أرى أنها تنبت من جديد، فأرى المستنقعات، ومزارع الأسماك، ولولا تدخلهم الدائم، لعادت كما هي. هل تعود الحولة كما هي يا حنان؟ سألت. المهم ستعود، فالطبيعة تعرف نفسها، ونحن نعرف أنفسنا، إن الحولة تشبهنا.” (ص. 117)
وتناول علاقة الفلسطيني باليهود/ الإسرائيليين/ الصهاينة وجدوى اللقاءات العبثيّة بين مجموعات من الطرفين، ويصل إلى نتيجة مفادها أن “الأغلبية منهم نقيضا لنا”، هل يقبلون أن نعيش معاً؟ “نحن نود ذلك. أما هم فالأمور عندهم معقدة جداً. ربما بحاجة لتغييرات جوهرية، ليصلوا إلى هذه النقطة”.
يلخّص الكاتب وِجهته ورؤيته الثاقبة للمشهديّة؛ “هل هناك فروق بين أوائلهم القادمين من الخارج، وأولئك الذين ولدوا هنا؟ الأوائل الذين طردونا من قرانا ومدننا، واستولوا على مزارعنا ومصانعنا، يعرفون أصلنا وفصلنا، وبعضهم سكن في بيوتنا التي لم تُهدم، لكن الجدد لا يعرفون تماما ما حدث، وتبنوا رواية الدولة، تلك الرواية التي عملوا عليها كثيرا. ما ألحظه أن الدولة تتحول لتصبح أكثر يمينية، أكثرعنصرية”. (ص. 124)
حمّل الكاتب الرواية جانبا معرفيّا شمل بعض الفصول المغَوغَلة، واستفاض أحياناً وبدت (over) كما هو الحال حين تناول اليعسوب (ص. 76)، واللون الأزرق ودلالاته (ص. 84)، وراقت لي أنواع التين البلدي “بياضية، سمارية، حميرية، سويدية، عسيلية، خضارية، موازية، شحيمية وغيرها (ص. 109).
استعان بأسلوب الحوار بين أبطاله وجاء موفقاً، وعلى سبيل المثال؛
– إنكم تحملون سلاحا، وتخشون العصي!
– ونخشى حجارتكم، ونخشى ما في داخل عقولكم، ونخشى أعضاءكم التناسلية، التي ستأتينا بما هو أسوأ منكم.
– وهل هناك أسوأ منكم؟
– أنتم. (ص.103)
جاءت النهاية سرياليّة رائعة، وتساءلت هل الاعتقال يؤدي إلى الحميميّة؟ فصبيحة الندوة زرت معتقلة حامل في سجن الدامون، أم لثلاثة أطفال وحامل ومحرومة من لحظة حميميّة مع أولادها أو احتضانهم.
[*] مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسيّة يوم الخميس 12.06.2025