حرب غزة وإسقاط أقنعة الحكام العرب

أبو زياد المغربي

تاريخ النشر: 29/04/25 | 23:11

في زمن تتكلم فيه بعض الفضائيات الملغومة بلغة العروبة، وتصطف المنابر السياسية لإعلان الدعم “غير المشروط” للقضية الفلسطينية، يقف المشاهد العربي مذهولاً من حجم التناقض بين الخطاب والواقع، بين ما يُقال على قناة “الجزيرة” وأخواتها، وما يُحاك في الكواليس من صفقات وتنسيقات أمنية وتجارية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. إنه زمن النفاق السياسي بامتياز، زمن يلبس فيه بعض القادة عباءة المقاومة نهاراً، ليخلعوها ليلاً في غرف الفنادق المكيّفة، حيث تُدار المصالح وتُوزع خرائط النفوذ على حساب معاناة الفلسطينيين، وتُصنع التحالفات على أنقاض الأجساد المهشمة.

بينما يطل علينا هذا الزيف بشعاراته الرنانة، تبرز المملكة المغربية بموقفها المختلف، الواضح، والشجاع. نعم، لقد أقامت الرباط علاقات رسمية مع دولة إسرائيل، لكنها لم تفعل ذلك من باب التواطؤ ولا من باب المتاجرة بالقضية، بل أعلنت ذلك في وضح النهار، وشرّعت الباب أمام نقاش وطني مفتوح، يعترف بالتاريخ كما يتطلع إلى المستقبل.

فالمغرب، بتاريخ يربو على 2000 سنة من التعايش الإسلامي اليهودي، لا ينطلق في قراراته من خلفية ظرفية أو تحت ضغط سياسي خارجي، بل من قراءة عميقة لموقعه الإقليمي ومصالح شعبه. هناك ملايين اليهود من أصول مغربية، الذين يعيشون اليوم في إسرائيل وأمريكا وفرنسا وكندا، لا يزالون يحتفظون بجوازات سفرهم المغربية، وقلوبهم معلّقة بأضرحة الأولياء في فاس، وصفرو، ومراكش، وحنينهم للوطن الأم يتجاوز كل انتماء ديني أو سياسي.

ومن هنا، فإن الانفتاح المغربي لم يكن مجرد صفقة، بل كان اعترافاً بتشعّب الهوية المغربية وتاريخها المركّب، وقراءة اقتصادية دقيقة لما يعيشه المغرب اليوم من تحديات هيكلية . ففي الوقت الذي يتظاهر فيه الشباب المغربي دعماً لغزة، وهو موقف نعتز به ونتقاسمه، فإن هؤلاء المتظاهرين أنفسهم هم من يركبون قوارب الموت في اتجاه الضفة الأخرى من المتوسط، هرباً من البطالة واليأس، بحثاً عن حياة أفضل في مرافئ الغربة.

نعم، نحن مع أهلنا في غزة، لا مساومة في ذلك. ولكننا أيضاً مع أبنائنا في المغرب، مع شبابنا الذين أنهكتهم البطالة، وأسرنا التي تُصارع الغلاء، ومناطقنا المهمّشة التي تنتظر مستثمرين يُعيدون لها الأمل. فهل من العيب أن تبحث الدولة عن شركاء دوليين، من ضمنهم إسرائيل، لتطوير التكنولوجيا الزراعية، واستقطاب الاستثمارات، وتوفير مناصب شغل؟ هل نغلق الباب على الملايين من المغاربة بدعوى “التطبيع”، بينما تفتح بعض العواصم العربية أبوابها للإسرائيليين من تحت الطاولة وتمنحهم قواعد عسكرية واستخباراتية على حساب السيادة الوطنية؟

المفارقة أن أولئك الذين يُزايدون على المغرب في الإعلام العربي المأجور كقناة الجزيرة القطرية ، هم أنفسهم من يحتضنون وزراء إسرائيليين في مؤتمرات الأمن والدفاع، ويتبادلون الرسائل السرية معهم منذ عقود. بعضهم يستقبل الجنرالات، وبعضهم الآخر يموّل إعلاماً معادياً لكل ما هو وطني. كل هذا في الخفاء، تحت ستار “الضرورات الاستراتيجية”، بينما يُقدّمون أنفسهم في العلن كحماة للقدس و”أعداء للصهيونية”.

إن المغرب، في المقابل، اختار الوضوح والمصارحة، واختار أن يقول لشعبه: نحن مع فلسطين ومع أنفسنا أيضاً. مع المقاومة، ولكن أيضاً مع التنمية. مع الكرامة الوطنية، ولكن أيضاً مع الشراكة الدولية. لقد اختار المغرب أن يجعل من علاقته بإسرائيل أداة تفاوض وضغط، لا أداة خضوع وتبعية. وهذا ما تجلى في المواقف السياسية للمغرب، الداعمة بلا تردد لحقوق الشعب الفلسطيني، في المحافل الدولية، وفي الدعم الإنساني المتواصل لغزة، وفي التصريحات الثابتة للملك محمد السادس، بصفته رئيس لجنة القدس.

ليست العلاقة مع إسرائيل نهاية العالم، بل قد تكون، إن أحسنّا توظيفها، بداية مسار جديد لمغرب أكثر استقلالية، وأكثر واقعية. فالدبلوماسية الذكية لا تعني التخلي عن المبادئ، بل تعني إيجاد التوازن بين العاطفة الوطنية والحسابات الاستراتيجية.

ربما آن الأوان أن نكفّ عن تصدير خطاب مزدوج، ونسأل أنفسنا بصراحة: ماذا قدم الذين يرفعون شعارات فلسطين في العلن، ويبيعونها في الكواليس ؟ ومتى ندرك أن القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى مواقف؟ لا تحتاج إلى متحدثين باسمها من منابر النفط والدعاية وعلى رأسها قناة الجزيرة ، وفي مقدمتها دويلة قطر بل إلى أفعال حقيقية على الأرض، مثل تلك التي يقوم بها المغرب في القدس وفي الضفة وفي غزة، بعيداً عن الضجيج، وبعيداً عن الاتجار بآلام الشعوب.

فلتسقط أقنعة النفاق. وليبقَ المغرب كما كان دائماً: صادقاً في حبه لفلسطين، ووفياً لمصالح شعبه العظيم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة