وتبقى القدس في الفصح صرخة المدى

جواد بولس

تاريخ النشر: 14/04/23 | 11:30

أصدرت ما تسمى “لجنة الستاتيكو الكنسية – القدس” يوم الاربعاء الفائت بيانًا تحت عنوان “الاحتفال بسبت النور ، أحد أهم الطقوس الدينية في المسيحية”، وذلك في أعقاب قيام الشرطة الاسرائيلية بفرض تقييدات تمنع المصلّين المسيحيين، لا سيما أبناء الكنائس المحلية، أي الفلسطينيين المسيحيين، من مشاركتهم في هذا الطقس الديني الهام بالنسبة لهم.

وكما جاء في البيان المذكور ، “فإن الاحتفال بطقوس سبت النور ، لهي لحظة تربط المؤمنين بنور السيد المسيح .. حيث تجذب هذه الشعائرُ المسيحيين من جميع انحاء العالم”. وكما يتضح من البيان، فإن رؤساء الكنائس المشاركة في إصداره كانوا ينسّقون مع “السلطات القائمة” تنظيم إجراءات هذه الطقوس، إلا أنهم لاحظوا في العام المنصرم إقدام السلطات الإسرائيلية على فرض حواجز مشددة في جميع انحاء البلدة القديمة، مما جعل من المستحيل على الحجّاج المسيحيين وعلى أبناء الكنائس المحلية الدخول الى باحة كنيسة القيامة، وممارسة حقهم في العبادة. أما هذه السنه، حسب ما ورد، فان محاولة التنسيق باءت بالفشل حيث “أن السلطات الإسرائيلية تريد أن تفرض قيودًا غير مبررة وغير مسبوقة على وصول المؤمنين الى كنيسة القيامة، أكثر بكثير من العام الماضي”؛ وبسبب هذا الموقف الاسرائيلي يؤكد لنا رؤساء بطريركية الروم الأرثوذكس، وحراسة الأراضي المقدسة، وبطريركية الأرمن، أنهم سيواصلون: “الالتزام بالعرف القائم “الستاتيكو” ، وسيتم إقامة الطقوس كالمعتاد منذ ألفي عام” ويدعون “كل من يرغب في العبادة معنا للحضور”، ويعلنون بكلمات تدعو للدهشة أنهم يتركون “للسلطات لتتصرف كما تراه وسوف تقوم الكنائس من جانبها بالعبادة بحرية وبسلام” !

لا يمكن لعاقل أن يستوعب هذا الكلام “بحرية وبسلام” وبهدوء، خاصة بسبب ما أوحت به نهايته، التي لا يمكن أن تفهم إلا بتخلي رؤساء تلك الكنائس، وفي طليعتهم رؤساء البطريركية الأرثوذكسية، صاحبة الحصة الكبرى في مراسم هذا العيد، عن رعايا كنائسهم من المواطنين الفلسطينيين العرب، وتركهم كضحايا “للسلطات لتتصرف كما تراه”. لقد رأينا تلك السلطات كيف تصرفت في السنوات الماضية مع المؤمنين العزّل، عندما كانوا من جانبهم يقومون “بالعبادة بحرية وبسلام”، باسم المحافظة على الوضع القائم، “الستاتيكو”. لم يبدأ قمع حرية العبادة في هذا العام ولا في العام الذي سبقه ولم تتوقف حدوده على عتبات الشرطة الاسرائيلية وحسب؛ فأنا على قناعة، كما كتبت في الماضي وفي نفس المناسبة، بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون، الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في “الأرض المقدسة”، ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة؛ وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ، مستغلة مواقف تلك الكنائس المهادنة، سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه المؤمنين من احفاد الغساسنة والمناذرة وغيرهم، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.

لن أستعيد، في هذه العجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد العرب المسيحيين وبين من استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين وتواطوء حفنة من أبناء هذه الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد على مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانًا، التي تنتاب كل عربي مسيحي حرّ، حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كهنة يونانيون، خاصة في كنيستي القيامة (أم الكنائس) والمهد؛ وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية.

فالقضية برأيي، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة للمؤمنين الذين ينتظرون فيض هذا النور عسى أن يجدوا في تكرار حدوث المعجزة موطئاً لآمالهم الضائعة ؛ إنها وجه لمعركة بقاء المسيحيين العرب في وطنهم وحفاظهم على “صليب” هويتهم، وحقهم في ممارسة حياتهم الايمانية بكرامة وبانتماء حر.

فعيد الفصح، عند مسيحيي الشرق، يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو عيد الأعياد الكبير وموسم التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يُعتبر القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم.

ليالي شرقنا طويلة، “فكليني لهمٍّ يا أميمة ناصبٍ”، هكذا كتبت في الماضي، وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجميات تراقص أهداب الغيم. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه “أشعر الناس إذا رهب” وأنه “لا يرمي إلا صائبًا ” فأجاد حين وصف “ليلنا البطيء الكواكب”.

عدت إلى ما كتبت لأنني أحسست بنفس الخيبة والوجع ؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل “بنات الجبال” ؛ و”جمعة القدس” تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دقّت المسامير في راحتيّ “ابن الإنسان” بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا.

لقد كانت أيام الخلّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية لتجدوا أن أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها بعد أن اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوبًا لتروي دماؤه قحل الزمن ولتبقى كلماته نورًا في الأرض وغرسًا في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء ..

لم يعترف الاسير ، ابن الناصرة ، بتهمة التجديف، ورفض يسوع التلحمي رغم تعذيبه، شرعية الوالي الروماني والتعاطي مع “المحكمة”. لن أسترسل في تفاصيل “أسبوع الآلام” ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف بأن الاجراءت بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم فلفقوا ضده قضية. لقد قضّت تعاليمه مضاجع الكهنة اليهود وأخافهم مشهد الجموع، “رقاق النعال”، التي خرجت لاستقباله، حتى مشارف اورشليم، بالريحان وبالاهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني واهل عصره .

لقد آمنّا صغارًا بدافع الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق؛ فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به”. ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا “القيامة” في بيضة وأعطيناها للاطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكًا من قمح هذه الأرض فطحنّاه وعجنّاه وحشوناه بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها، بأجواء كلها إلفة عائلية، معمولا ليؤكل وتمحو حلاوته، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم. إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيرًا أو عصيًا.

عيد القدس اليوم كعيد الذبياني؛ فاليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتمتمون “دستور الايمان”، كما حفظوه، عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم .

لقد ذهبت روما وبقيت “قوس بيلاطس البنطي” في القدس البهية شاهدةً على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء؛ وبقيت فلسطين وحفنة أبنائها الصابرين ،المحتفلين في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وفي سماء الشرق هي قطرة الندى؛ وإن غفا على جفونها الوعد، ، هكذا يؤمنون، فإنها حتمًا ستصحو ذات نيسان ليحتضن أبناؤها “قاف” القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.

فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة