الكتابة تحت الاحتلال
بقلم: مصطفى عبد الفتاح
تاريخ النشر: 28/03/22 | 11:50يعيش الفلسطيني في وطنه، واقصد هنا الفلسطيني في حدود عام 48، في حالة من الضبابية وعدم وضوح حدود هويته الوطنية، بعد النكبة التي حلت به، وفي ظل القوانين التي فرضت عليه، وفي غياب الحماية العربية والدولية له، مما جعل كيانه ووجوده الوطني مهدد، في حالة خطر شديد، فكان عليه اما القبول بالواقع أو النزوح، فآثر البقاء، والصمود والتشبث بالوطن تحت أي مسمى.
خاضت الصهيونية حروبها للسَّيطرة على الجغرافيا الفلسطينية، ما ظهر منها وما بطن، فقد أعلن بن غوريون مُنذ عشرات السنين عندما سُئل عن حدود الدَّولة: ” حدود إسرائيل أينما يصل جيشُها، إذن هي سياسة التَّوسع والسَّيطرة، بصورة مُمنهجة، ودراسة استراتيجية عميقة، لطمس المَعالم الجغرافية والآثار التَّاريخية لفلسطين، من خلال طمس الّلغة والاسماء والأماكن، وتتبيع الانسان الفلسطيني من أجل تركيعه او تضييعه.
النَّتيجة الحتميَّة التي يريد الاحتلال لنا الوصول اليها هي، الغاء فلسطينيتنا، وقطع صلتنا بشعبنا كليًا جسديًا، اجتماعيًا، روحيًا وانسانيًا. وتحويلنا من شعب خرج من اتون النكبة كالمارد وشب على طوق الاحتلال، إلى رعايا، مجرد افراد بلا هوية وبلا انتماء، افراد مِن الدَّرجة الثّانية فما فوق، في دولة معادية لمُجرد وجودنا، تحتوينا كأفراد، عبيد يخدمون أسيادهم، ليس لهم ماض، وليس لهم تاريخ، لا كيان وطني ولا انتماء قومي أو حتى إنساني، وبالتّأكيد ليسوا شعب، اجتُث مِن تاريخه واقتُلع من حاضره، وطٌمس مُستقبله، وهو يناضل ويقاتل فقط من أجل حريته والبقاء على ارضه.
نحن ” الفلسطينيون” واقصد الفلسطينيون الباقين في وطنهم بعد النكبة، وقد احتار العدو في تسميتهم، وحتى هم في تسمية أنفسهم، فهم الأقلية العربية، وهم عرب ال 48، وهم عربيم شلانو، وهم العرب والدروز والبدو والمسيحيون. وعرب إسرائيل. المهم في الامر ان لا تذكر فلسطين، وذلك لأنهم يعيشون صراع الهوية والانتماء القومي والوطني والتاريخي، وقد اخترنا فلسطينيو البقاء اسما.
هذه التسميات هدفها وضع الهوية الفلسطينية على المحك، وهي معركة الصهيونية الاشرس والاهم من كل المعارك لأنها هي من يحدد الوجود على هذه الأرض، وتبدأ هذه الحالة بسؤال الهوية القومية والوطنية والهوية المواطنية ان صح التعبير حتى يقبل كمواطن في مجتمع معادي وفي دولة قامت على أنقاض وجوده العام والخاص. هذا التناقض وهذا الجو المشحون دائما بخطر الوجود يجب ان يفهمه الغير حتى يقبل وجودك في المجتمعين المتناقضين اليهودي والعربي، وعليك في هذه الحالة ان تشرح فلسطينيتك لليهودي وللعربي بشكل عام هذا ان فهمك، وعليك ان تشرح معنى ومغزى هويتك كمواطن في دولة تقمع شعبك، لأخيك العربي وحتى للفلسطيني الذي تعيش معه حتى تخرج بمعادلة تقول هذا انا، وربما تقول هذا واقعي عليكم ان تقبلوه، او ترفضوه ولكنه الواقع وهذه الصورة لست انا وليس بيدي او بمقدوري تغييرها، ولكني اعمل بكل قوتي وارادتي الحرة على تغييرها او وضعها في قالبها واطارها الصحيح. هذا التناقض وهذا الوضع الغرائبي جعل الفلسطيني الذي تشبث بتراب الوطن، وبقي قابضًا على هويته ووجوده كالقابض على الجمر ويعيش في مهب الريح، جعله غير مقبول لا من اهله الذين تركوه ولا من اعدائه الذين ابقوه رغم انوفهم كبقايا حرب لا حاجة لهم بها، وتعاملوا معه كجسم غريب يجب تدجينه ويجب تغيير مفاهيمه، ووضعه في مكان يخدم الوجود الصهيوني اكثر مما يخدم البقاء الفلسطيني على ارض الوطن.
ويجد الفلسطيني نفسه ممزق ومشرذم بين هنا وهناك، ومن يقرا المتشائل لاميل حبيبي ربما يفهم الصورة، ومن يقرأ روايتي “جدار في بيت القاطرات ” يفهم الوضع والصراع الذي يعيشه الفلسطيني ويفهم انسانيته مقابل وحشية وغطرسة الاحتلال، ومن هنا كان لزاما على الفلسطيني ان يبني لنفسه كيانا ووجودا خاصا به، بانتمائه القومي والوطني لشعبه وأمَّته وقضيَّته وعليه أن يُشهر سلاح الرفض والتمرّد على الواقع من اجل بقائه، وعليه بنفس الوقت أن يبقي الخيط الذي يستمد منه مصدر حياته اليومية الاقتصادية والحفاظ على امنه الشخصي والجماعي.
ليس للشعب الفلسطيني مِن سند الَّا الشعب الفلسطيني نفسه، بغض الّنظر عن التقسيمات الاحتلالية، والولاءات الإقليمية والدّولية، وبغض النّظر عن الخلافات الدّاخلية، فقد أثبت هذا الشّعب أنَّه في لحظة الحقيقة يُمكنه أن يقفز عن خلافاته ويتجاوز حتى قياداته إن هي ابتعدت عن الخط الوطني أو مسَّت بجوهر كيانه ووجوده، هذا لا يعني بالضّرورة التّنازل عن الاخوة والاشقاء العرب ولا عن أصدقاء شعبنا في جميع أنحاء العالم، ولكنَّه يعني بالضرورة الاعتماد على الذَّات وفقط على الذَّات، لنكون أسياد أنفسنا.
الواقع والمُمارسة العمليَّة اليوميَّة تقول، ليس الانتماء العربي هو المُهدد، فاللغة العربية والمُحيط العربي كبير، بإمكانه الوقوف في وجه كل المحن والصمود في وجه كل التقلبات الدولية والعالمية. ليس الانتماء الديني هو المهدد فالعالم الإسلامي والمسيحي من الأكبر بالعالم، والقرآن الكريم وحده كفيل بحماية الدين واللغة على حد سواء. المهدد الوحيد هو الانتماء الفلسطيني بكل أعمدته وبكل مُكوّناته الجغرافيا، اللغة، الدين، والتاريخ، والانسان الفلسطيني داخل الوطن، لأنه على ارض الوطن، هذا الفلسطيني، هو القادر والمطالب بالحفاظ على هويته الفلسطينية المهددة يوميًا، هذا ليس بالأمر السّهل، وليس بالأمر المفروغ منه.
في هذه البيئة الطارئة الغريبة المتناقضة الغير مفهومة، يجد الكاتب أو الاديب نفسه وجهًا لوجه أمام قضية غاية في التَّعقيد والخطورة، تهدد كيان شعبه، وتهدد حياته الشخصية، وفي كثير من الاحيان تهدد وجوده وبقاءه، وعليه ان يتَّخذ خطوات وقائية كثيرة قد تكون غير مفهومة وغير مبرَّرة عند الكثيرين، وبعد الكم الهائل من الضغوطات النفسية والجسدية والرقابة المباشرة والغير مباشرة التي تمارس عليه فقد وصل بعض الكتاب إلى مرحلة الرَّقابة الذاتية على كتاباته، ولجأ إلى اختيار مصطلحات خاصة إمَّا بالتورية أو بالتلميح بما يريد والامثلة كثيرة، أو بالاندماج الكلي بما تريده الحركة الصهيونية، ومثال ذلك تقول أنا من الجليل بدل أن تقول أنا من فلسطين، أو اسم البلد بدل المنطقة او استعمال كلمة الوطن بدل استعمال كلمة فلسطين وغيرها.
تبقى الأسئلة الملحة تطرح نفسها على وجدان الكاتب، ويقف أحيانا في حيرة، وهو يسأل كيف نكتب رواياتنا التي يحاول أعداء شعبنا تشويهها؟ كيف نريد للعالم أن يرانا؟ كيف نتصرف اتجاه قضيتنا وتاريخنا ورسالتنا إلى العالم؟ باي طريقة ندافع عنها؟ هل نحن بحاجة لترسيخ هذه الرواية في وجدان أبنائنا وفي وجدان العالم؟ هل نستطيع من خلال روايتنا أن نقنع العالم بصدق قضيتنا؟
جذبني الكم الكبير من الاعمال الأدبية التي أخذت من النكبة الفلسطينية عام 48، الحيز والاهتمام الأكبر، هي الزمان والمكان والحدث لمعظم أعمالهم الأدبية، وقد بدأت أنا أيضا كتابتي الروائية بروايتي الأولى من هنا ” عودة ستي مدللة” .
هذه الاعمال الأدبية التي بمجملها تبغي تثبيت الرواية الفلسطينية، وتجذيرها في الوعي الجمعي للشعب، وقد يختار الكاتب أي مكان في الوطن، كنموذج لما حدث للوطن وللشعب في لحظة زمنية واحدة، ويبقى المكان والزمان هما البوصلة والموجه الأول لأي روائي، في بداية اعماله هذا إذا عرَّفنا الكاتب والروائي على أنَّه ذلك المثقف الواعي المدافع عن القيم الإنسانية والثائر دائما على القيم المضادة لها والرواية وسيلته الأولى في إيصال فكره يقول الدكتور لطيف زيتوني في كتابه “الرواية والقيم” ص 10 ” الرواية فن مرن. فهي تمتاز بقابليتها للتشكل وفق هوى مؤلفها، وبمساحتها غير المحدودة التي تتيح لها معالجة القضايا دون قيود، وبعوالمها القريبة من الحياة اليومية التي تسمح للروائي بتقريب المسائل من الافهام بعرضها في سياق يشبه سياقها الحقيقي، وبقدرتها على استغلال تعدد الشخصيات الروائية واختلاف وجهات نظرها لتقليب المسائل على وجوهها وجعلها اشد وضوحا وجعل آرائها أكثر اقناعا”.
من خلال تحديد مفهوم المكان في الرواية، بشكل عام، وفي الرواية الفلسطينية بشكل خاص تقوم الاديبة الدكتورة كوثر جابر قسوم بتعريف المكان ووضع تصور منطقي وهام للدور الأساسي في الرواية فتقول في كتابها ” التشكيلات المكانية في الرواية الفلسطينية ص: 37 ” وفي المكان يرحل الانسان باحثا عن هويته. وفيه تتأكد هويته ويترسخ شعوره بها. والشعور بالهوية حاجة من حاجات الوجود الإنساني، كي يكون الانسان جزءا متكاملا مع العالم. فهو لا يستطيع ان يثبت انسانيته وكونيته وعالميته، الا إذا حقق بالضرورة، ضربا من الهوية، ولذلك تنفتح الذات على العالم وتخرج اليه لتضرب بجذورها في المكان، وتحقق التفاعل الحيوي بينها وبينه. والذات تنمو من تفاعل الانسان مع المكان، لان المكان بالإضافة الى خصائصه الطبيعية والجغرافية المميزة” لا بد وان ينظر اليه على انه تكوينات او بنى معرفية ووجدانية، تتواجد لدى الافراد والجماعات” والمكان في هذا الدور والتعريف لا بد ان يسهم في تحقيق إحساس الانسان بالهوية. والشعور بالهوية في مكان ما يعني بالضرورة الشعور بالانتماء لذلك المكان.”
وأخيرا يقول الرئيس الأمريكي بايدن في كلمة له: ” لن يكون استقرار في الشرق الأوسط إلَّا إذا اعترفت كُل دول الشرق الأوسط جميعًا بإسرائيل كدولة يهودية مُستقلة”. هذا يعني انَّ الفلسطينيين في إسرائيل عليهم الخروج، أو إخراجهم، أو ترك الوطن لأنهم ليسوا يهود وإسرائيل اذن حسب هذا المفهوم، دولة دينية يهودية عنصرية معترف بها عالميًا، وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك قانون القوميّة الَّذي سنّته حكومة اليمين الليكودية فالمعادلة واضحة، على الفلسطيني ان يكون على أهبة الاستعداد إمّا المُقاومة أو الرَّحيل، وعلى الكاتب ان يقول كلمته وان يرسم صورة وطنه، وتطلعات شعبه.
وفي كُتب التَّاريخ، ذُكِر أنَّه عندما أرادت قبيلة “دواميش”، وهي آخر القبائل التي دافعت عَن البقاء في الوطن، الاستسلام، بعد أن أٌبيدَ شعبهم، وتَشتَّت شمْلَهم، ولم يعدْ أمامهم مفرٌ إلَّا الاستسلام أو الموت، كتب زَعيمهم “سيليث” خطبةً بليغةً بلُغة قومه وممَّا قاله فيها ” عندما يختفي آخر رَجل أحمر من هذه الأرض، وتُمسي ذاكرته مُجرَّد ظِلال غَيمة فوق المُروج، فإنَّ روح أجدادي سَتظل حيَّة في هذه الشَّواطئ وهذه الغابات، لأنَّهم أحبوا هذه الأرض كما يُحب الوَليد نَبَضَات قلْب أمّه.”
اما الفلسطيني فقد قرر سأعيش في ارض وطني، إمَّا عليها او فيها، سأحمي عظام اجدادي، واحلق بأرواحهم في سماء الوطن، لن أكون هنديا احمر آخر، لن استسلم ابدًا، لن اخضع، لا لبايدن ولا للصهيونية وسَأُقاوم حتى العودة.
***مداخلة في ندوة “الكتابة في زمن الاحتلال” يوم السبت 26/03/2022 للمركز العربي الأميركي للثقافة والفنون