التطبيع العربي والطريق إلى “كانوسا” تل أبيب

جمال زحالقة

تاريخ النشر: 27/03/22 | 6:21

نبذة مختصرة:

شكل إقدام أربع دول عربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، سقوطاً نوعياً صبّ بالكامل في مصلحة إسرائيل. ولم يكن هذا السقوط زلّة، وإنما كان انهياراً أخلاقياً بالدرجة الأولى، لأنه عنى ويعني التخلي عن شعب فلسطين ومعاناته المستمرة، والارتماء في أحضان المجرم المحتل المستعمر، وتقديم الدعم والعون له، بشكل مباشر وغير مباشر. ولم يكن ذلك خطأً فحسب، بل خطيئة فادحة في حساب ميزان المصالح أيضاً، نمّ عن سوء تقدير للأوضاع المحيطة، وسوء فهم لإسرائيل ونياتها ومخططاتها، والشعوب العربية هي التي تدفع وستدفع ثمن هذا الخطأ وهذه الخطيئة.
النص الكامل:

في الطريق إلى تل أبيب، تخلى قادة التطبيع العربي عن شروطهم المعلنة كلها، ورموا جانباً مبادرة السلام العربية التي لوحوا بها منذ بداية القرن الحالي، وخضعوا بالكامل للشروط الإسرائيلية في مقابل بعض الفتات، ومن دون أن تُقْدم إسرائيل على أي تغيير في سياساتها العدوانية المعهودة، بل إنها لم تكن مستعدة حتى أن تدفع ضريبة كلامية عن التفاوض والتسوية.

لقد ذهب الملك هنري الرابع إلى كانوسا ذليلاً[1] يطلب العفو من البابا غريغوريوس السابع، وكان الهدف حماية عرشه، وكان له ذلك. أمّا القيادات العربية المطبّعة التي جاءت إلى “كانوسا تل أبيب” تطلب الصلح وتقبل بالشرط الإسرائيلي المركزي وهو التخلي عن الحقّ الفلسطيني، فإنها لم تفعل ذلك خياراً فقط، بل نوعاً من الترف السياسي وليس ضرورة تمليها متطلبات المحافظة على العروش، فضلاً عن المصالح الحقيقية للدول وللشعوب. لقد كانت فتحة باب كانوسا منخفضة بحيث اضطر الملك هنري الرابع إلى أن يطأطىء رأسه قليلاً كي يدخل، أمّا فتحة مدخل تل أبيب فهي أكثر انخفاضاً ولا يدخلها إلّا الزاحفون على بطونهم.

في العقود الأخيرة اتّبع العرب طريقَين للتعامل مع الكيان الإسرائيلي ومشتقاته العدوانية: الأولى طريق المقاومة بجميع أشكالها وتجلياتها، من المقاطعة الهادئة إلى الحرب الطاحنة، والثانية طريق التطبيع والقبول بالأمر الواقع، أملاً بالحصول على بعض المكاسب.

ومثلما أن للمقاومة تاريخها ومنطقها، وقد كُتب عن ذلك وسيُكتب الكثير، فإن للتطبيع أيضاً تاريخه ومنطقه الأعوج، وهناك حاجة إلى كشفه وفضحه بقدر الإمكان. لقد شكّل اتفاق الصلح المنفرد الذي وقّعه الرئيس المصري أنور السادات في آذار / مارس 1979، أولى خطوات التطبيع الرسمي والعلني مع إسرائيل، واعتُبر تحولاً ضخماً في مسار الصراع مع إسرائيل، لأن مصر هي أكبر الدول العربية وأقواها، ولم تكن إسرائيل تحسب حساباً لأي دولة عربية سواها. ويذهب البروفسور يوسف زعيرا، مؤلف كتاب “اقتصاد إسرائيل”،[2] إلى أن اتفاق كامب ديفيد أنهى ما سمّاه “الصراع الكبير” مع العالم العربي، وأبقى على “الصراع الصغير” مع الفلسطينيين، مضيفاً أن الاتفاق أدى إلى هبوط دراماتيكي في الإنفاق العسكري الإسرائيلي، وإلى خفض ميزانية الأمن من أكثر من 30% إلى أقل من 10% من الميزانية العامة، وذلك تبعاً لاستبعاد إمكان وقوع حرب أو مواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل، وتلاشي الحاجة إلى مرابطة قوات ضخمة مدججة بالسلاح. لقد أنهت اتفاقية كامب ديفيد الحروب العربية – الإسرائيلية، وأبقت على المواجهات معها على نطاق ضيق نسبياً، وبطابع أمني محدود مع منظمات وليس مع دول.

بعد كامب ديفيد جاء اتفاق أوسلو في سنة 1993، والذي اعترفت بموجبه منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل كدولة في مقابل اعتراف إسرائيل بها كمنظمة ممثلة للشعب الفلسطيني. وجاء إنشاء السلطة الفلسطينية ليهمّش دور المنظمة، وينقل مركز الثقل من مشروع التحرر الوطني إلى مشروع مفاوضات وإدارة حكم ذاتي تحت الاحتلال. ثم أتى اتفاق “وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل، وتطورت في السياق ذاته علاقات تطبيع عربية – إسرائيلية متفرقة، توقفت رسمياً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، مع أن جزءاً منها استمر سرّاً. لقد كان واضحاً أن أوسلو فتحت أبواباً للتطبيع العربي باعتبار أنه ما دامت السلطة على تنسيق مع سلطات الاحتلال في القضايا الأمنية والاقتصادية والمدنية، فلماذا هذا ممنوع عن العرب؟ هذا ما قاله ويقوله مسؤولون مغاربة وسودانيون وخليجيون، كلما واجههم انتقاد على تطبيعهم. وبالتالي، ما دامت القيادة الفلسطينية تتمسك باتفاق أوسلو وبالتنسيق الأمني، فإن الموقف الفلسطيني الرافض للتطبيع سيبقى ضعيفاً، ومضعِّفاً لأنصار الشعب الفلسطيني. فمواجهة التطبيع، فعلاً لا قولاً، تتطلب تغييراً جذرياً في التوجه الفلسطيني على النحو التالي: التحرر من قيود أوسلو؛ بناء الوحدة الوطنية؛ ردّ الاعتبار إلى مشروع التحرر الوطني؛ بناء التحالفات؛ مواجهة التحديات وفق هذه الأُسس.

سياق وخلفية

تتميز موجة التطبيع الأخيرة بأنها جاءت من دول ليس لها حدود جغرافية ولا صراع مع إسرائيل، وهي لم تخُضْ حروباً ولم تدخل في صراع حقيقي معها، الأمر الذي طرح تساؤلات عن الأسباب والخلفيات والأهداف من مثل هذا الارتباط بإسرائيل. ومهما تكن المبررات، فإن إسرائيل سجلت لنفسها انتصاراً على الفلسطينيين من خلال تثبيت فكرة أن قضيتهم لم تعد عائقاً أمام تطبيع العلاقة بالدول العربية، وكذلك إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق بنيامين نتنياهو، أنه صنع “السلام” من منطلق قوة،[3] وليس عبر إبداء ليونة، أو “تنازلات متبادلة”، أو “حلول وسط”. وبتسجيلها هذا الانتصار، احتفلت إسرائيل بفرض معادلة “السلام في مقابل السلام” التي نادى بها اليمين الإسرائيلي منذ عشرات الأعوام، ردّاً على معادلة “الأرض في مقابل السلام”.

أوضح مئير بن شاباط، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والذي أدار الاتصالات التمهيدية مع دول التطبيع، في تصريح له، أن التحضير للاتفاقيات استمر عدة أعوام، وجرى مع كل دولة على حدة.[4] وحين بادرت إدارة ترامب إلى دفع دول عربية للتطبيع مع إسرائيل مستخدمة وسائل الإغراء والضغط، وجدت درجة متقدمة من الجهوزية العربية لأسباب خاصة بكل دولة، ولعوامل إقليمية عامة شكلت خلفية للبوح بالعلاقة مع إسرائيل والانتقال بها إلى مستوى جديد رسمي وعلني. ومن المهم تشخيص حيثيات التطبيع العربي مع إسرائيل وتفسير ملابساته، لكن يجب التأكيد سلفاً أن ما من تبرير للتطبيع الذي يعني الوقوف مع إسرائيل ضد فلسطين، مهما تكن النيات، إذ كثيراً ما تكون الطريق إلى جهنم مرصوفة بالنيات السيئة، وليس بالضرورة بالنيات الطيبة مثلما جاء في الأمثال. إن السير في اتجاه سراب الفردوس الإسرائيلي هو الطريق نفسها إلى جهنم العرب، لأنه يعني تفكيك ما تبقّى، في الواقع، من كيان نسميه العالم العربي، أو الوطن العربي، أو الأمة العربية.

يُمكن ذكر بعض العوامل والسياقات العامة والمهمة التي تُعدّ خلفية لمسار التطبيع العربي مع إسرائيل:

أولاً: الانسحاب الأميركي من المنطقة الذي أثار مخاوف كثيرة لدى حلفاء الولايات المتحدة العرب، وخصوصاً بعد مشاهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. فالأنظمة العربية التي اعتمدت على السند الأميركي الأمني والسياسي، أصبحت بحاجة إلى بديل، ووجدته في إسرائيل أقوى دول المنطقة وأكثرها ارتباطاً بالسيد الأميركي.

لقد انتقل مركز الثقل في السياسة الأميركية إلى مواجهة التحدي الصيني بالدرجة الأولى، وإلى التصدي لروسيا بالدرجة الثانية، ولم يعد الشرق الأوسط ضمن الأولويات الوازنة والملحّة، وخصوصاً أن النفط العربي فقد أهميته المعهودة. كما أن المؤسسة السياسية والأمنية في الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لخوض “حروب لا تنتهي”، ولصرف موارد في صراعات لا تمسّ مصلحة الأمن القومي الأميركي مباشرة. هكذا بدأت الدول المرتبطة بالولايات المتحدة تجهز نفسها للمتغيرات ولمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وبدأت عملية إعادة النظر في سلّم الأولويات. فهذه الأنظمة التي أدمنت الاعتماد على الولايات المتحدة باتت تمر بحالة فطام ورعب ممّا يخفيه المستقبل واتخاذ القرارات تحت وطأة الخروج من الإدمان الذي عادة ما يكون موسوماً بالتخبط.

ثانياً: الخوف من إيران يقضّ مضاجع دول الخليج العربي، فهي تعتبر إيران أكبر تهديد لها، وبالتالي فإنها مستعدة للذهاب بعيداً في التعاون مع إسرائيل تحت شعار “عدو عدوي صديقي”. أمّا إيران فتفعل كل ما تستطيع لزيادة مخاوف الدول العربية، بتدخلها السافر في عدد منها، وبمشروعها المعلن بشأن نيّتها قيادة العالم العربي. فلو أنها حقاً تعطي صراعها مع إسرائيل الأولوية، فلماذا إذاً لا تعرض على الدول العربية تحالفاً ندّياً لمواجهة المشروع الكولونيالي الإسرائيلي؟ أمّا الدول التي تطبّع مع إسرائيل، علناً وسراً، خوفاً من إيران، فتكبّل نفسها بنفسها، وتضيّق حيّز المناورة في خياراتها، وتعرّض دولها وشعوبها لمخاطر هي في غنى عنها. إن الارتباط بإسرائيل يحرم هذه الدول من تحالفات بديلة أوسع، بل حتى أنجع. ومن الخيارات: أن تعرض دول الخليج الغنية على مصر مئات المليارات في إطار مشروع دفاع عربي، والاتكال على الجيش العربي المصري لحماية دول الخليج وشراء أسلحة ملائمة لهذه المهمة؛ أن تبادر هذه الدول معاً وبالاشتراك مع مصر إلى حوار عربي – تركي – إيراني لحل قضايا المنطقة. قد نفهم الخوف من إيران والمشاريع الإيرانية، لكن إسرائيل ليست الحل، بل إنها تزيد الطين بلّة. إن التطبيع بتلك الذريعة هو تعبير عن حالة هلع وليس قراراً عقلانياً موزوناً، فضلاً عن أنه قرار غير أخلاقي بامتياز.

هناك سؤال يجب طرحه، وهو: ماذا يفعل حلفاء إيران العرب؟ ولماذا لا يبادرون هم إلى مصالحة عربية – إيرانية؟ وإذا كان خطابهم جدياً، فعليهم أن يثبتوا أنهم مستقلون وليسوا تابعين، وأن يكونوا فاعلين ومؤثّرين في إنشاء أسس صداقة عربية – إيرانية، لا أن يكونوا شركاء في مشروع هيمنة إيرانية أساسه علاقة غير متوازنة وغير ندّية مع العرب. وحتى إن كان بعض الأنظمة العربية ليس مستعداً للدخول في مسار صداقة ندّية مع إيران، فإنه يجب طرح هذا المسار وبقوة كبديل من حالة التدهور القائمة التي لا تفيد العرب ولا إيران.

ثالثاً: تهميش القضية الفلسطينية كان في خلفية موجة التطبيع العربي الأخيرة التي لم تكن ممكنة لولا أنها أتت في إطار تهميش منهجي لقضية فلسطين، عبّد الطريق أمام المطبّعين العرب. فبعد أن جرى في الفضاء العلني ترتيب سلّم الأولويات في المنطقة، وأصبحت قضية إيران هي الأولوية الأولى، وقضايا الصراعات العربية الداخلية هي الأولوية الثانية، وأمست القضية الفلسطينية في أولوية عربية منخفضة وتحتل الخبر الخامس أو السادس في نشرات الأخبار، بات من السهل على قيادات أربع دول عربية الانتقال إلى التطبيع العلني، والتحول السريع نحو التحالف السياسي والعسكري بلا وجل ولا خجل. وقد زاد التطبيع العربي في تهميش القضية الفلسطينية، وساهم في نشر الادعاء المريض أن قضية فلسطين أمست “غير مهمة”، الأمر الذي أثّر سلباً في الرأي العام العربي، وفي الساحة الدولية أيضاً.

لقد دخلنا في دورة خطرة: تهميش يمهد للتطبيع، وتطبيع يعمّق التهميش ويفتح المجال أمام مزيد من التطبيع، وهكذا دواليك. ولهذا، بات هناك حاجة إلى رد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية عربياً وشعبياً وثقافياً وتعليمياً وسياسياً ومؤسساتياً، فتهميش فلسطين لم يعد حالة دولية فقط، بل حالة عربية تستدعي القلق أيضاً. والأمر الذي يزيد القلق هو أن هناك تجاوباً في دول التطبيع مع مطلب إسرائيل تغيير مناهج التعليم وتكييفها للحقبة الجديدة،[5] فقد جرت الإشادة في تقارير إسرائيلية بالتغييرات الجارية في هذا المجال في الإمارات، وببداية التحول في المغرب والسعودية. ومن القضايا التي تشغل بال المخططين الاستراتيجيين في إسرائيل هي التأثير في الرأي العام العربي، وتحديداً في جيل الشباب، وفي النقابات المهنية (وخصوصاً المصرية)، ومختلف مؤسسات المجتمع المدني.

حالة التهميش هذه ليست وليدة تراكم عشوائي لمتغيرات في المنطقة والعالم، على الرغم من مساهمة التحولات الدولية والإقليمية في تسهيل نشوئها وتطورها، وإنما هي نتاج لمشروع سياسي إسرائيلي مدروس ساهم في إنجاحه التواطؤ العربي والعقم السياسي الفلسطيني. والتهميش في المفهوم الإسرائيلي هو إحدى الأدوات الأساسية لمشروع أكبر هو الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وهو المشروع الذي عمل عليه أريئيل شارون وطوّره بنيامين نتنياهو من بعده، وجاء التطبيع ليكون من حوامل هذا المشروع، فإسرائيل تعتقد أن الفلسطينيين من دون السند العربي سيكونون ضعفاء، وسيفقدون وزنهم ووزن قضيتهم السياسي.

لقد ثبت تاريخياً أن شعب فلسطين لا يقبل التهميش، فحين كانت تجري محاولات، وحتى مؤامرات، لإبعاده عن الساحة، كان يعود إليها بقوة ليقلب الموازين ويحطم أحلام مَن عملوا على التهميش. وهذا بالضبط ما حدث عشية الانتفاضتين الأولى والثانية، حين أحس الشعب بأن هناك محاولات لتصفية القضية الفلسطينية من وراء ظهره. ومع أن إسرائيل سجلت برضى وارتياح أن التطبيع لم يتأثر بما حدث في أيار / مايو 2021 من مواجهات في القدس والداخل، ولا بالقصف الوحشي على غزة،[6] إلّا إن بعض المحللين الإسرائيليين حذّر من أن مواجهات على نطاق أوسع ربما تؤدي إلى غضب شديد في الشارع العربي، وإلى زعزعة اتفاقيات التطبيع وردع دول أُخرى عن الانضمام إليها.

رابعاً: الأوهام بشأن إسرائيل هي خليط غير منسجم من السذاجة وسوء النية. ومن تجليات هذا الخليط الادعاء أن التطبيع العربي سيدفع النخب الإسرائيلية إلى تغيير مواقفها، وأنه سيؤثر، نفسياً وسياسياً في عمق المجتمع الإسرائيلي، ويدفعه إلى تطوير نزعات أكثر اعتدالاً وأقل تطرفاً وعداء للعرب والفلسطينيين. فالمطبّعون الجدد وأبواقهم يحاولون الترويج أن التطبيع يبعث على الطمأنينة ويبدد المخاوف، وسيؤدي في رأيهم إلى تليين قلوب الإسرائيليين، لكن التطبيع العربي جعل إسرائيل عملياً تشعر بمزيد من نشوة القوة، وأدى ويؤدي إلى انخفاض منسوب الخوف، وارتفاع منسوب الغرور، ولم ولن يخفف من منسوب العنصرية والكراهية.

يخطىء مَن يظن أن تبديد الخوف يؤدي تلقائياً إلى زوال الكراهية على منوال قراءة عكسية لمقولة شكسبير المعروفة “بمرور الوقت نكره ما نخافه كثيراً”، وذلك لسبب بسيط هو أن الخوف الإسرائيلي من الفلسطيني هو من النوع الذي لا يزول لأنه خوف المجرم من ضحيته، وإسرائيل هنا أقرب إلى ما وصفه بيرتولد بريخت في “القاعدة والاستثناء” عن حال التاجر المرعوب من الحمّال الذي يرافقه، لأنه يعلم جيداً أنه يسيء معاملته وينكّل به، ويعتقد أن من “الطبيعي” أن يحاول الانتقام منه. إسرائيل تعلم، أكثر من غيرها، ماذا فعلت بالفلسطينيين، وتظل لا تثق بهم وتخاف منهم. فهي، بطبيعة الحال، تريد الطمأنينة، لكنها لا تبحث عنها من خلال العمل على التوصل إلى تسوية سياسية، بل بزيادة قوتها أكثر فأكثر. وقد ذهب المفكر الإسرائيلي يوفال نوح هراري إلى القول إن إسرائيل أقوى لا ترى حاجة إلى تقديم تنازلات للفلسطينيين.[7]

ومن المبالغات في شأن إسرائيل، تلك الأفكار السائدة عن تأثيرها وتأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، في صنع القرار الأميركي. فهناك فرق كبير جداً بين تأثير إسرائيل بكل ما يخصها هي مباشرة، وبين قدرتها على إقناع الإدارة الأميركية بتليين موقفها من أنظمة معينة لمجرد أن هذه الأنظمة تحسّن علاقاتها بإسرائيل. والتأثير الإسرائيلي يتعلق أيضاً بمَن يسكن في البيت الأبيض، فما حدث أيام حكم ترامب ليس القاعدة العامة، وإنما هو إمعان في الولاء لإسرائيل، لم يسبقه إليه أي رئيس أميركي سابق. فقبل ترامب، تجاهل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما معارضة إسرائيل وعويلها، ووقّع الاتفاق النووي مع إيران، كما أن الرئيس الحالي، جو بايدن، يسعى للعودة إلى الاتفاق نفسه على الرغم من معارضة إسرائيل. أمّا التطبيع العربي فيجري تكريسه غالباً لخدمة مصالح إسرائيل، ولزيادة وزنها ومكانتها في الولايات المتحدة ودول العالم، لا أكثر.

هناك أيضاً وهم بشأن قدرات إسرائيل العسكرية، وتحديداً أنها مستعدة وتستطيع مواجهة إيران عسكرياً، وهذا غير صحيح أبداً، بسبب ضخامة المهمة وعدم جهوزية الجيش الإسرائيلي لها، وفق ما يُجمع عليه معظم المحللين في إسرائيل.[8] علاوة على ذلك يبقى الظهير الأمني والعسكري، الذي من الممكن (وليس من المؤكد) أن توفره إسرائيل لدول الخليج، محدوداً جداً ولا يفي بالمطلوب لمواجهة ردة فعل إيرانية على الوجود الإسرائيلي في الخليج، فإسرائيل هنا تزيد في المخاطر، بل إنها لا توفر الحماية والردع.

خامساً: انهيار النظام العربي، وحالة التفكك والحروب الأهلية التي تعيشها عدة أقطار عربية، جعلا بعض الأنظمة يتملص بخفّة من التزاماته ويتصرف كأن قضية فلسطين غير قائمة. صحيح أن هناك انهياراً في البيت العربي، إلّا إن هذا لا يمنح أحداً الشرعية لهدم ما تبقّى من البيت عبر التطبيع وترك فلسطين وحيدة. وليس مبالغة القول إن العرب لن يتفقوا على شيء إذا لم يتفقوا على فلسطين، ولن تقوم لهم قائمة كأمّة إن هم تجاهلوا معاناتها، فمَن يتخلَّ عن فلسطين يتخلَّ عن عروبته في الطريق.

التطبيع المغربي

السياق السياسي لالتحاق المغرب بركب التطبيع هو اتّباع سياسة الابتعاد والتراجع في العلاقات مع العالم العربي، باستثناء علاقته بالسعودية، وتفضيل العلاقات الأفريقية والدولية لتحقيق مصالح يعتقد النظام المغربي أن العرب قليلو الفائدة فيها، وخصوصاً مسألة التنمية الاقتصادية، وقضية الصحراء الغربية. وإنصافاً للحقيقة يجب الإشارة إلى أن المغرب، كدولة، وقع هو أيضاً ضحية انهيار النظام العربي وتفكك أواصر اللحمة السياسية، في ظل تعزيز هيمنة قوى الثورة المضادة، وترسيخ سياسات الاستبداد، لكنه كان مبادراً إلى تعميق التبعية للولايات المتحدة ومعها إسرائيل، فضلاً عن الترويج لفكرة: “لتبحث كل دولة عن مصالحها.” بناء على ذلك، جرى تسويق ما يسمى السلام على أنه يستند إلى مصالح الدول، وإلى مبدأ القرب بين اليهودية والإسلام، والذي له جذور عميقة في المغرب تحديداً، في تجاهل تام لحقيقة أن مشكلتنا ليست مع اليهودية، بل مع الصهيونية، ومثلما قال الشاعر اللبناني وديع البستاني في ديوانه “الفلسطينيات”: “أجل عابر الأردن كان ابن عمنا / ولكننا نرتاب في عابر البحر.” عبّر البستاني بوضوح عن الفرق بين اليهود والصهيونيين، بينما يجري اليوم خلط الأوراق عبر المصالحة مع الصهيونية والتغطية على ذلك بادعاء الانفتاح المتسامح على اليهود واليهودية.

إن ما خرج به بعض المسؤولين المغاربة من أن اليهودية هي جزء من الهوية المغربية، هو من حيث المبدأ فكرة ثورية معادية للصهيونية لو قيلت في سياق الصراع مع الكيان الإسرائيلي، لكنها جاءت متصهينة وتحمل معاني التزلف لإسرائيل، وليس من منطلق أن الوطن الحقيقي ليهود المغرب هو المغرب وليس فلسطين.

لقد استغلت إسرائيل احتدام النزاع بين المغرب والجزائر، وأبرمت مع المملكة المغربية معاهدات واتفاقيات تعاون عسكري وأمني واستخباراتي غير مسبوقة. وهي لم تُخفِ نيّـتها استخدام موطىء قدمها في المغرب لرعاية مصالحها في أفريقيا ومواجهة النفوذ الإيراني فيها. إن لإسرائيل مصلحة مباشرة في تأجيج الخلافات المغربية – الجزائرية، بهدف تعميق وجودها في الشمال الأفريقي والمغرب العربي، وبيع مزيد من الأسلحة والمعدات والبرامج الاستخباراتية.

وليست العلاقة بين المغرب وإسرائيل حديثة العهد، وإنما لها سياق تاريخي بدأ في الخمسينيات من خلال التعاون بين الموساد والسلطات المغربية في تهجير يهود المغرب، كما أنه كان لإسرائيل دور مركزي في اغتيال زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة، وهي ساعدت المغرب في الحصول على أسلحة وزوّدتها بمعدات تجسس ودرّبت طواقم مغربية على استعمالها، علاوة على دعمها المغرب في المواجهة مع الجزائر ومع الثوار الصحراويين؛ أمّا المغرب فساعد إسرائيل في التجسس على اجتماع القمة العربية.

لقد استند التعاون الأمني بين إسرائيل والمغرب إلى أن للنظامين توجهات غربية وعلاقات متميزة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وكان كلاهما في عداء شديد للمدّ القومي واليساري في العالم العربي. وسادت معادلة بين النظامين اعتبرَتْ إسرائيلُ من خلالها المغربَ بوابة للعالم العربي، بينما اعتبر المغرب أن إسرائيل هي مفتاح واشنطن. ومن هنا فإن التطبيع المغربي مع إسرائيل هو استمرار لما كان سرّاً، وليس انعطافاً في التوجهات.

التطبيع إماراتي والمكاسب إسرائيلية

ماذا تريد إسرائيل من الاتفاق مع الإمارات، وماذا الذي تكسبه منه؟

أولاً: ترى إسرائيل في التطبيع مع دولة الإمارات مكسباً استراتيجياً مهماً يضعها في قيادة حلف أمني – سياسي تشارك فيه دول عربية، وتساهم الإمارات والولايات المتحدة (والسعودية من خلف الستار) في توسيعه في مواجهة إيران وحلفائها بالدرجة الأولى، وفي التصدي لبسط النفوذ التركي أيضاً. وهكذا تبني إسرائيل لنفسها معسكراً تريده أن يشكل حزاماً يحمي أمنها بتمويل عربي ومساندة أميركية. وهي لم تعد تكتفي بتطبيع العلاقات مع الدول العربية، بل باتت تسعى للقفز مباشرة من التطبيع المعلن إلى التحالف المعلن من دون المرور بمرحلة التعاون، مثلما هي العلاقات بين الدول.

ثانياً: تحقق إسرائيل إنجازاً عسكرياً كبيراً بالتحالف مع دولة قريبة جغرافياً من إيران، وتقع على شواطىء الخليج، وهو ما يسمح لإسرائيل التي تشنّ غارات عسكرية ضد الوجود الإيراني في سورية، بأن تزيد الضغط على إيران وتهددها: “سنقترب من حدودكم، إذا اقتربتم من حدودنا.” وإذ تستفيد إسرائيل من القدرة على تمكين سلاحها البحري من أن يكون موجوداً في مياه الخليج، استناداً إلى الحاضنة الإماراتية، فإن الأمر ربما يصل بها إلى إدخال غواصات استراتيجية قادرة على حمل الأسلحة النووية لتهديد إيران بها كورقة ضغط جنونية. أمّا بالنسبة إلى صفقة الأسلحة المتطورة وضمنها طائرات “أف 35″، فإنها لا تثير قلقاً حقيقياً لدى إسرائيل، بل إن خبراء عسكريين يعتقدون أن هذا الأمر إيجابي على اعتبار أن الجيش الإسرائيلي متطور وحديث، ومن مصلحته أن يكون له حليف يملك سلاحاً متطوراً. كذلك فإن إسرائيل، وكعادتها، تضخّم الصفقة الإماراتية للحصول على مزيد من الدعم العسكري الأميركي للمحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي، ولهذا الغرض تحديداً، سافر الجنرال بيني غانتس، وزير الأمن الإسرائيلي، عدة مرات إلى الولايات المتحدة، ولم يعد بخُفَّي حُنين.[9]

ثالثاً: تسعى إسرائيل لمكسب أمني من خلال التعاون الاستخباراتي ونصب أجهزة تجسس إسرائيلية في الخليج، واتخاذ الإمارات وغيرها نقطة انطلاق للقيام بعمليات تخريب في إيران، وهذا بالتأكيد سيعرّض أمن الإمارات وسكانها لخطر الرد الإيراني. وما تروّجه إسرائيل وكثير من العرب، من أن لدى الاستخبارات الإسرائيلية قدرات خارقة ومهارات عالية، يؤدي دوراً في تسويق الخدمات والمعدات الأمنية الإسرائيلية المعروضة للبيع في السوق الخليجية، فهناك مَن يشتريها للتجسس على مواطنيه وعلى مواطني وقيادات دول أُخرى، وفي هذه الحال، فإن الاستفادة الإسرائيلية مضاعفة: من جهة ربح اقتصادي وتدريب كادرات وتجربة أساليب وأجهزة، ومن جهة أُخرى تحصل إسرائيل على كثير من المعلومات بتمويل خليجي بإبقائها برامج التجسس الإسرائيلية، وخصوصاً برنامج بيغاسوس، تحت سيطرة إسرائيلية كاملة تتيح التجسس على المتجسسين.

رابعاً: حصلت إسرائيل على مكسب سياسي كبير يساعدها في تعزيز مكانتها الدولية، وحمايتها من الضغوط، وعلى سلاح في محاربة “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (BDS). فقد انضم بعض العرب إلى إسرائيل في الادعاء أن المشكلة التي تمنع حل الصراع هي العناد الفلسطيني، وليس مشاريع الاحتلال والحصار والاستيطان الإسرائيلية. ويمنح الاتفاق الرواية الإسرائيلية دفعة قوية على حساب الحقّ الفلسطيني، ويضعها في موضع الهجوم بعد أن كانت لعقود طويلة في حالة دفاع. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه في ساحة الصراع على الرواية تحديداً، يملك الفلسطينيون قدرة على الانتصار، فقط إذا توفرت الإرادة على القرار وعلى العمل.

خامساً: مكسب اقتصادي إسرائيلي ضخم بجميع المقاييس، وناتج من التفوق الاستراتيجي عسكرياً وأمنياً وسياسياً، إذ بينما وصل حجم التبادل التجاري السري إلى نحو مليار دولار سنوياً، فإن الخبراء يتوقعون أن يصل إلى عشرات مليارات الدولارات خلال أعوام قليلة. علاوة على ذلك، تتوقع إسرائيل التي تمر بأزمة اقتصادية بسبب وباء كورونا، أن يساعدها التعاون الاقتصادي مع الإمارات في الخروج من الأزمة، وفي تطوير الاقتصاد الإسرائيلي عبر استثمارات إماراتية في مشاريع اقتصادية إسرائيلية، وعبر تعاون في مجالات الزراعة والصناعة، والصحة والبيئة، والتجارة العالمية والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي وغيرها. فإسرائيل تحاول استثمار الاتفاق في عدة اتجاهات، وقد نشر نائب رئيس الغرفة التجارية الهندية – الإسرائيلية دافيد كينان، المقيم في الهند، مقالة في صحيفة “غلوبوس” الإسرائيلية نقلها موقع “عرب 48″، وجاء فيها أن “حجم التبادل التجاري بين الإمارات والهند يصل حالياً إلى 60 مليار دولار”، ويمكن لإسرائيل أن تستفيد منه، وتدخل كطرف فيه، ولا سيما في مجالات الزراعة والمياه والتكنولوجيا، وبالتالي فإن هذا الاتفاق هو مفتاح لقفزة كبيرة في العلاقات التجارية الإسرائيلية – الهندية.[10] وباختصار تسعى إسرائيل لتحقيق حلم شمعون بيرس القديم ببناء رأس مال عبر الربط بين الرأس الإسرائيلي والمال العربي.

سادساً: مكسب معنوي، هو الحصول على اعتراف عربي رسمي آخر بشرعية الوجود، وهذا هاجس رافق المشروع الصهيوني منذ بدايته. فالدولة العبرية تعتقد أنها لن تحظى بالأمن والاستقرار، ولن يزول الخطر الوجودي عليها، إلّا بعد الفوز باعتراف بشرعيتها وبتطبيع العلاقة معها من العالم العربي. وهنا تسجل إسرائيل نقاطاً مهمة لمصلحتها على هذا الصعيد أيضاً.

سابعاً: حدوث مزيد من الانفتاح على المنطقة، وفتح مجالات جوية أمام حركة الطيران إلى إسرائيل ومنها، الأمر الذي سيؤدي إلى فتح خطوط مباشرة وبتكلفة أقل إلى الشرق الأقصى الذي يؤمّه مئات الآلاف من الإسرائيليين سنوياً. وفي المقابل بدأ التخطيط لفتح خطوط سكة حديد وخطوط ملاحة بحرية وحرية حركة للإسرائيليين في المنطقة، لكن إسرائيل، في المقابل، لا تقبل أن يأتي إليها عرب إلّا إذا جاؤوها حاملين كميات كبيرة من الأموال للصرف والاستثمار، فيكاد يكون من المستحيل مثلاً، أن يحصل مواطن أردني على تأشيرة دخول إلى إسرائيل. إن التطبيع الذي تريده إسرائيل هو أن تكون الدول العربية مفتوحة بالكامل أمام جميع الإسرائيليين، بينما تكون إسرائيل مفتوحة للأثرياء العرب فقط.

ثامناً: صورة الانتصار التي تكسبها إسرائيل المغرمة بتلك الصورة، ليست أقل من الانتصار ذاته، فهي تريد صورة انتصار على العرب بالحرب أو بالسلم. فإسرائيل خاضت حروباً كثيرة وحققت انتصارات عسكرية عديدة، لكن صورة الانتصار لا تكتمل إلّا بأن يرفع العرب الراية البيضاء، ولهذا فإن الاتفاق مع الإمارات، في الوعي وفي اللاوعي الإسرائيلي، هو وثيقة استسلام للشروط والإملاءات الإسرائيلية، وهذا هو المعنى الحقيقي لما أراده نتنياهو، فإسرائيل وفق تصريحاته تصنع السلام من منطلق القوة، وبالتالي: “لأننا أقوياء نحقق السلام”،[11] وهذه لغة مخففة للرسالة الحقيقية: أيها العرب، نحن الأقوياء وقد هزمناكم، وآن الأوان لأن تستسلموا.

تاسعاً: نصر لليمين الإسرائيلي الذي نادى طوال الوقت باعتماد مبدأ “السلام في مقابل السلام” خلافاً لليسار الصهيوني الذي اعتمد صيغة خاصة لمبدأ “الأرض في مقابل السلام”. وهذا المكسب يخص نتنياهو شخصياً، ذلك بأن الاتفاقيات منحته المجد بأنه جاء باتفاق سلام بعد بيغن ورابين.

هناك طبعاً مكاسب أُخرى كثيرة تراكمها إسرائيل عبر هذا الاتفاق وما يمكن أن يليه، لكن ما هي مكاسب الإمارات دولة وشعباً؟ ربما يكون النظام قد حصل على بعض الفتات، لكن محاولات التنقيب عن مكاسب لدولة الإمارات وشعبها باءت بالفشل، بل ستثبت الأيام أن الاتفاق مع إسرائيل يزيد المخاطر ولا يوفر الحماية.

التطبيع البحريني والوجود الإسرائيلي في الخليج

هناك أبعاد خاصة للتطبيع البحريني مع إسرائيل:

أولاً: التطبيع مع البحرين هو تطبيع بالوكالة عن المملكة العربية السعودية التي تطبّع سرّاً مع إسرائيل بقدر المستطاع، وترعى الخطوات التي تتّبعها مملكة البحرين علناً. فقد فوجىء الإسرائيليون بالحفاوة العلنية والمبالغ فيها، التي قوبل بها وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس في المنامة خلال زيارته الرسمية للبحرين في مطلع شباط / فبراير 2022، وكان التفسير أن السعودية معنية بذلك، وأن هذا هو رسالة منها إلى طهران. وبالتنسيق بين الإمارات والسعودية وإسرائيل، وقّع وزير الأمن الإسرائيلي اتفاقيات أمنية تجعل العلاقة بين إسرائيل والبحرين علاقة تحالف عسكري علني. ويبدو أن السعودية معنية بأن تكون البحرين في المقدمة وفي واجهة التعاون والتنسيق مع إسرائيل.

ثانياً: البحرين هي مقر الأسطول الخامس الأميركي في الخليج، والعمل المشترك والتنسيق مع القوات العسكرية الأميركية الموجودة في المنطقة، هما من ركائز التحالف الإسرائيلي الخليجي.

ثالثاً: البحرين قريبة من إيران وإسرائيل تعتبرها من أفضل المواقع الخليجية للتموضع في الخليج. ويُستدل ممّا تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد زيارة غانتس، أن عملية بناء الوجود الأمني الإسرائيلي الاستراتيجي في البحرين تزداد حجماً وسرعة.

رابعاً: الرفض الشعبي للتطبيع في البحرين يفوق إلى حد كبير الرفض القائم في الإمارات. وبينما يبدو أن هذا ليس بالأمر الحاسم هذه الأيام، فإن بذور تحوّله إلى عامل مؤثر ومهم لا تزال قائمة، وقد تعبّر عن نفسها بقوة في المستقبل، وخصوصاً في حال اندلاع مواجهات عنيفة في فلسطين.

السودان تطبيع وابتزاز

انضم السودان إلى ركب التطبيع بعد ضغط إماراتي وإغراء سعودي وابتزاز أميركي وتوهيم إسرائيلي، عبر استغلال الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها هذا البلد، والإغراء بتقديم المساعدات وشطب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وقد أثار هذا القرار غضباً شعبياً واسعاً في السودان حيث للقضية الفلسطينية مكانة مهمة في وجدان الشعب وتاريخه، كما عبّرت قوى سياسية وتنظيمات نقابية ونخب ثقافية عن معارضتها الشديدة للانزلاق نحو التطبيع واعتبرت القرار فاقداً للشرعية.

لقد حشرت إسرائيل أنفها في الصراعات الداخلية في السودان، انطلاقاً من استراتيجيا التحالف مع الأطراف والأقليات، فعملت على بناء علاقات مع الحكم المركزي من جهة، وعلى تطوير روابط مع حركات أقليات انفصالية من جهة أُخرى.

كان هناك في بعض المراحل علاقات تعاون سري بين أطراف سودانية وإسرائيل،[12] ومراحل أُخرى تميزت بمواجهة متعددة الجوانب، فقد شاركت قوات سودانية في حرب 1948 وفي حرب 1967، أمّا في حرب 1973، فإن هذه القوات لم تصل إلّا بعد وقف إطلاق النار. ومن جانبها، دعمت إسرائيل متمردين وقوات انفصالية، وقدمت إمدادات عسكرية ومساعدات طبية، وشارك جنود وضباط إسرائيليون في بعض المعارك بشكل مباشر، كما أن الطيران وسلاح البحرية وقوات خاصة إسرائيلية شنّت اعتداءات على منشآت ومخازن وسفن وقوافل سيارات في السودان بادعاء محاربة الإرهاب ومنع تهريب الأسلحة إلى غزة.

في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حاولت إسرائيل بناء علاقات خاصة مع قوى سودانية مناهضة للناصرية، فوزارة الخارجية الإسرائيلية وجهاز الموساد كانا على اتصال دائم بقيادات من حزب “الأمّة”. وفي سنة 1957 التقت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك غولدا مئير، رئيس الحكومة السودانية حينذاك عبد الله خليل، وتبع ذلك سلسلة من اللقاءات في تل أبيب وإستانبول وباريس، جرى الاتفاق فيها على أن تقدم إسرائيل دعماً مالياً مباشراً لحزب الأمّة، وتقوم بتجنيد دعم فرنسي وبريطاني وأميركي لحكومة “الأمّة” لتقوية الحزب في الانتخابات في وجه خصومه، وللحدّ من تأثير مصر ونفوذها. غير أن هذه العلاقة لم تدم طويلاً، إذ توقفت بعد انقلاب إبراهيم عبّود في سنة 1958، والذي اتّبع سياسة منسجمة مع التوجهات الناصرية.

استؤنفت الاتصالات الإسرائيلية بالسودان في عهد الرئيس السابق جعفر النميري الذي التقى أريئيل شارون في سنة 1982، وجرى في أعقاب اللقاء السماح بتهريب يهود “الفلاشا” من أثيوبيا إلى إسرائيل عبر الأراضي السودانية. وتوقفت الاتصالات مجدداً في عهد الرئيس عمر البشير، ونظمت إسرائيل حملة دولية محمومة ضد السودان متهمة إياه بدعم ما يسمى الإرهاب ورعايته.

ومن المهم في سياق التطبيع السوداني الانتباه إلى النقاط التالية:

أولاً: إسرائيل معنية بالاستمرار في تطبيق مبادىء “صفقة القرن”، حتى لو جرى تجميدها عملياً، وذلك عبر تنفيذ بنودها المتعلقة بالتطبيع وبالتعاون الأمني والاقتصادي ومنح الشرعية للسياسات الإسرائيلية، وبتر العلاقة بين “السلام” مع العرب ومصير القضية الفلسطينية، وتوسيع تحالف “المعتدلين”، وهو الاسم الممنوح لكل الذين يتخلون عن الشعب الفلسطيني وعن حقوقه العادلة وينقادون خلف ركب إسرائيل والولايات المتحدة، فهؤلاء “معتدلون” حتى لو ارتكبوا جرائم حرب بالجملة.

ثانياً: إسرائيل معنية ببقاء أصدقائها السودانيين في الحكم للمحافظة على “زخم التطبيع العربي”، وكي لا يأتي نظام يلغي الاتفاق معها. ومثلما دعمت إسرائيل، في الخمسينيات، القوى السياسية السودانية المناهضة لعبد الناصر، ها هو التاريخ يعيد نفسه، فإسرائيل ستدعم بالتأكيد القوى المناصرة للمصالحة معها، وسرعان ما سيتحول التطبيع إلى تحالف بين إسرائيل والقوى المتنفذة في النظام السوداني القائم، الأمر الذي سيعرقل إمكانات التحول الديمقراطي، لأن الديمقراطية والتطبيع في الوطن العربي، خطان متوازيان لا يلتقيان مهما تجرِ إطالتهما.

ثالثاً: لا يحمل الاتفاق بين السودان وإسرائيل أهمية اقتصادية مباشرة على صعيد العلاقة الثنائية، بل هو متعلق أساساً بشطب اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، الأمر الذي يقال إنه سيفتح أبواباً أمام الخرطوم لانتشال اقتصادها من الانهيار التام.

رابعاً: ترى إسرائيل في السودان موقعاً استراتيجياً مهماً على البحر الأحمر وتسعى لـ “التعاون” معه بروح ما جاء في صفقة القرن، لمنع تمركز قواعد عسكرية تركية وإيرانية في المنطقة، ولوقف تهريب الأسلحة الإيرانية براً وبحراً إلى سيناء وغزة، والمحافظة على خط الملاحة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، وكذلك بناء تعاون عسكري وثيق يمكّن من القيام بعمليات عسكرية مشتركة إذا اقتضت الضرورة، فضلاً عن تصدير معدات وتكنولوجيا عسكرية واستخباراتية. إن الطموح الإسرائيلي هو أن يؤدي الاتفاق مع السودان وغيره من الاتفاقات مع أطراف عربية، إلى توسيع هامش الحماية الأمنية والعسكرية للدولة العبرية، ليس من خلال تأمين الحدود فحسب، بل أيضاً عبر بناء طوق أمني مترامي الأطراف يمتد من وسط أفريقيا إلى الخليج، عبر الوجود المباشر والحماية بالوكالة.

خامساً: يوجد في إسرائيل اليوم نحو 7000 سوداني لم يحصلوا على إقامة وهم مرشحون للإبعاد. وقد احتفلت أوساط إسرائيلية كثيرة بالاتفاق مع السودان، ليس لأنه “تطبيع” يفتح الباب أمام السودانيين للدخول إلى إسرائيل، بل لأنه يمثل فرصة لإيجاد المخرج القانوني لإعادة السودانيين إلى السودان أيضاً. ولعل هذا الأمر يكشف أن أمامنا “تطبيعاً من طرف واحد”، تفتح فيه دول عربية أبوابها أمام الإسرائيليين، بينما تغلق الدولة العبرية مداخلها أمام العرب.

وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال عن الاتفاق الإسرائيلي – السوداني، فإن هناك عوامل من الممكن أن تؤدي به إلى الفشل المأمول، أولها وأهمها موقف الشعب السوداني الذي عبّر بأغلبية ساحقة عن رفضه للتطبيع، مثلما تدل على ذلك استطلاعات الرأي كافة. لكن المفتاح لوقف “موسم الهجرة إلى تل أبيب”، يبقى في أيدٍ فلسطينية، وفي وقفة فلسطينية موحدة وانتفاضة عارمة ضد الاحتلال تقلب الحسابات القائمة وتخاطب ضمير الشعوب العربية. أمّا بيانات التنديد فلم ولن تردع أحداً.

خاتمة

تطلق موجة التطبيع العربي مع إسرائيل وضعاً جيوسياسياً جديداً يتطلب بناء استراتيجيات عمل جديدة. فبعد أن استعان الفلسطينيون بالعالم العربي لمحاصرة إسرائيل، نجد أن إسرائيل اليوم توظف الأنظمة العربية لمحاصرة فلسطين. ولا يمكن معالجة هذا الوضع الصعب من الآخر، بل يجب العمل من المربع الأول عبر ردّ الاعتبار إلى القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، وقضية غبن تاريخي، ومن خلال بناء مشاريع حشد الشعوب العربية دعماً للحقّ الفلسطيني، بالتعاون مع القوى والحركات الشعبية، وليس مع الحكومات فقط. فما من شيء سيردع المطبّعين الحاليين والمطبّعين الذين ينتظرون الفرصة المواتية للانضمام، سوى خوفهم من شعوبهم؛ هذه الشعوب التي ستتحرك حتماً إذا شاهدت بأم عينها نضالاً فلسطينياً في مواجهة دولة الاحتلال، فهي اليوم، في معظمها، تعارض التطبيع، والفعل الفلسطيني المقاوم كفيل بتحويل هذه المعارضة من خاملة إلى فاعلة.

المصادر:

[1] “إذلال كانوسا” أو “السير إلى كانوسا”، مصطلح يشير إلى رحلة الإمبراطور الروماني هنري الرابع إلى قلعة كانوسا حيث جثا على ركبتيه 3 أيام و3 ليالٍ، متذللاً للبابا لرفع الحرمان الكنسي عنه.

[2] Joseph Zeira, The Israeli Economy: A Story of Success and Costs (New Jersey: Princeton University Press, 2021), p. 117.

[3] “Netanyahu: UAE Deal Based on Strength, will Yield ‘True Peace’ with Palestinians”, Times of Israel, 16 August, 2020.

[4] مور لينك وأوفير وينتر (تحرير)، “مقابلة خاصة مع مئير بن شاباط، بمناسبة الاتفاق الإسرائيلي – المغربي”، مجلة “الطبيعي الجديد: فصلية في شؤون السلام والتطبيع” (إصدار معهد دراسات القومي الإسرائيلي)، (بالعبرية)، العدد 3 (خريف 2021)، في الرابط الإلكتروني.

[5] Zachary Keyser, “UAE Begins Teaching about Normalization with Israel to Grades 1-12”, The Jerusalem Post, September 15, 2020.

[6] Ofir Winter and Jony Essa, “Are Egypt’s Professional Unions an Obstacle to Closer Relations with Israel?”, “The Institute for National Security Studies/INSS Insight”, no. 1530, November 7, 2021.

[7] Yoel Guzansky and Sarah J. Feuer, “The Abraham Accords at One Year: Achievements, Challenges, and Recommendations for Israel”, “The Institute for National Security Studies/INSS”, Special Publication, November 1, 2021.

[8] جوناثان فريدلاند ويونيت ليفي، “يوفال نوح هراري: اليوم يمكن فرض حكم على ملايين الناس ضد رغبتهم”، موقع “القناة 12” الإسرائيلية، 18 / 11 / 2021، (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.

[9] Ronen Bergman and Patrick Kingsley, “Israeli Defense Officials Cast Doubt on Threat to Attack Iran”, The New York Times, 18/12/2021.

[10] “الاتفاق مع الإمارات سيوسع علاقات إسرائيل بالهند وكوريا الجنوبية”، “عرب 48″، 9 / 9 / 2020، في الرابط الإلكتروني.

[11] Israeli Ministry of Foreign Affairs, “PM Netanyahu on the Historic Peace Agreement with the UAE”, 16 August 2020.

[12] مجدي الجزولي، “تطبيع السودان مع إسرائيل، مَن المستفيد؟”، موقع “مبادرة الإصلاح العربي”، في الرابط الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة