متنفَّس عبرَ القضبان (25)

تاريخ النشر: 17/05/21 | 19:36

حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّبت الكاتبة زهرة عبد الجليل الكوسى: “جزاك الله عنهم وعنا كل خير وعافية.. وبارك جهودك النبيلة… ونضالك، وأنت المعتقل معهم، خارج قضبانهم… وخلف قضبان مقاومتك وروحك… الحرية لهم جميعاً والحياة الماجدة… يا رب، صباحكم مقاومة وثبات وبلاد مقدسة…”
وعقّب الشاعر سامي عوض الله البيتجالي: “شكرا لك ودمت حلقة الوصل مع أبطالنا الأسرى وإبداعاتهم داخل السجون”.
“التنميط”:
غادرت حيفا صباح الاثنين 10.05.2021 يرافقني صديقي ظافر، الذي تطوّع أن يقود السيّارة لتخفيف مشقّة ثلاث ساعات من حيفا إلى سجن ريمون الصحراويّ. رتّبت لقاء ثلاثة أسرى يكتبون، وفي طريقي شغلني من يكون أوّلهم (فإدارة السجون هي من تقرّر ترتيب الأمر)، وحين أطلّ مقيّد اليدين والرجلين، أزاح بعفويّة كمّامته الكورونيّة، أمسك السمّاعة مرحّبًا: “هلا بالحيفاوي” لتسقط الحواجز. التقيته للمرّة الأولى، عمار عبد الرحمن عيسى الزبن [1]، صافحته وعانقته عبر الحاجز الزجاجيّ الفاصل، البارد رغم الحرّ الصحراويّ، وبادرت بسؤاله حول حذائه الرياضيّ وأسعار الكانتتينا والاحتكار الدداشيّ اللعين.
حدّثني بلهفة عن لقاء “حروف مضيئة في عتمة الزنازين” يوم الخميس 29/4/2021 الذي نظّمه منتدى المنارة للثقافة والإبداع على شرف المناضلين الأسرى الذين أضاءوا بحروفهم زنازين الاحتلال البغيض، وغبطة العائلة التي شاركت الأمسية، مصوّرًا لي الحدث بتفاصيل التفاصيل شاكرًا من نظّم ومن حضر.
عرفته عبر كتاباته: “عندما يزهر البرتقال”، و”من خلف الخطوط”، و”ثورة عيبال”، و”أنجليكا”، و”الزمرة”، ورواية “الطريق إلى شارع يافا”، وعبّر عن سعادته لوصول روايته إلى حيفا وصورة غلاف “الطريق إلى شارع يافا”، من شرفتنا في أعالي الكرمل قبالة بحرها.
حدّثني عن أولاده بشائر، بيسان، مهند (وُلد نتاج أوّل نطفة تخترق الزنازين وجدران العزل) وصلاح الدين وحفيدته “دلّوله” وعرس بيسان قريبًا.
تحدّثنا عن وضع الحركة الأسيرة والتنميط الذي يعانونه نتيجة آراء مسبقة مغلوطة والتكلّس الفكري وأهميّة التعدّدية والتفاهم الحقيقي، ولمس بذوره في هداريم.
تناولنا موضوع نشر كتابات الأسرى وإصدارها، المصاعب التي تواجههم والاستغلال من قبل الجميع، وحدّثته بدوري عن مشروع بالتعاون مع إحدى كبرى دور النشر في العالم العربي التي ستتبنّى كتاباتهم تحت عنوان “أسرى مبدعون” سيُعلن عنه قريبًا.
القدس وحيفا كانت حاضرة في فضاء اللقاء، كلّمني بعفويّة انفتاحيّة ومعنويّات عالية أنستني عناء السفر ومشقّتة.
لك عزيزي عمار الزبن أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة وكلّ عام وأبناء شعبنا بألف خير.
“لديّ حلم”:
حين أنهيت لقائي بعمار أطلّ عليّ أمجد محمد فوزي عواد [2]، شابًا يافعًا يقبع في سجن ريمون الصحراويّ. أزاح كمّامته ليعانق عمار (أسعدني أنني تسبّبت بلقائهما للمرّة الأولى منذ عام 2011 رغم وجودهما في السجن ذاته)، أمسك السمّاعة مرحّبًا: “أهلين، مين حضرتك؟” وحين أخبرته انفرجت أساريره. التقيته للمرّة الأولى وانطلق يحدّثني عن “أمميّة لم تغادر التل” وانطباعاته وعن زملاء الغرفة، الأصدقاء أحمد وثائر.
حدّثني عن الحياة خلف القضبان، قراءة ورياضة وتثقيفًا… ومحاولات كتابة؛ طقوس الكتابة و”الطاولة” التي بناها من كراتين الخضرة وكيس فوقها، وكلّ كتابة معرّضة للمصادرة في كلّ لحظة فيتوجّب تسريبها بأسرع ما يمكن، فتشكّل مخرجًا، والتواصل الدائم مع الورق، قراءةً وكتابة، يحييه.
تناولنا المسكوت عنه في السجن، “الكابو” هناك وجبروت “الدوبير” الذي يشكّل الآمر الناهي في كلّ صغيرة وكبيرة، محاولات صهر الوعي وفقدان الثقة بكلّ شيء، غزو العام للخاص، ينتظر بفارغ الصبر مولوده الأوّل “دراسات من الأسر”.
حدّثته عن صديقي الدكتور عادل الأسطة المهتم بأدب السجون والذي أخبرني عن محاولات أمجد الكتابيّة، وتناولنا أهميّة الكتابة والنشر والصعوبات التي تواجه الأسير الذي يحلم بإصدار كتاب له.
وجدته يحلم بحريّة قادمة لا محالة ولسان حاله يقول: “عيّشني الأمل بصفقة حريّة!”.
قرأ على مسامعي نصًا له يحفظه غيبًا بعنوان “صرعة في عالم الأثاث”، يصف فيه الزنزانة وأثاثها: أربعة جدران سميكة، بابٌ فولاذيٌ عجوز، شيءٌ يشبه نافذة، فتحةٌ دائرية صغيرة في الأرض تُعرف بأنّها دورة مياه فيتخيّلها جَنةً من الاكتظاظ يؤثّثها كيفما يشاء: بحر، سنابل قمح، مُخيم وعصفوران وقُبّرة، وفي السقف يثبّت شمسًا ينسل منها خيطًا يطرّز بهما حفنة أكواخٍ ورصيفًا وزقاقًا، مسجدًا وكنيسةً وعجوزًا وحفيدتها وعددًا من أضرحة شهداء، يستجلب قمرًا ويزرع شجرة زيتون.. يبني سورًا تعلوه شرفة، ينبتُ عشبًا تأكل منه سبعة خِراف”.
في طريق عودتي إلى حيفا سمعت ما يجري في القدس من أحداث، وجاءني “لديّ حلم”؛ خطاب مارتن لوثر كينغ الذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في 28 آب 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحريّة.
“انتفاضة الابتسامة”:
التقيت ظهر اليوم بصديقي الأسير كميل أبو حنيش[3] في سجن ريمون الصحراوي للمرّة السابعة؛ بعد لقائي بعمار وأمجد، وحين لمحني عبر الممر الطويل رمى الكمامة وانفجر بالضحك ممّا أغاظ السجّانين المرافقين، انقضّ على السمّاعة الصدئة وأمطرني بوابل من الأسئلة عن العائلة فردًا فردًا، أحفادًا وبناتًا… وزوجتي سميرة، مستفسرًا إذا أحضرت له كعك العيد فأجبته أنّني أحضرت قطايف بجبنة وسألني هل وصلت قصيدته “نزق الظباء”؟ وما هي ردّة فعل شادن؟
تناولنا مسألة اعتكافه وعزلته الاختياريّة، عودته لغرفته الأولى في سجن ريمون قبل 15 عامًا، ومشروعه الأدبي وتحديثاته؛ أخبرته عن محادثتي الأخيرة مع الصديق أحمد أبو سليم حول صدور “الجهة السابعة” المرتقب وأعرب عن سعادته لذلك.
حدّثته عن إطلاق آخر إصداراته: “جدليّة الزمان والمكان في الشعر العربي” في أمسية يوم الأسير في الخليل يوم السبت 17.04.2021 حيث تناوله صديقنا فراس حج محمد، وكذلك في لقاء “حروف مضيئة في عتمة الزنازين” يوم الخميس 29.04.2021 الذي نظّمه منتدى المنارة للثقافة والإبداع في نابلس وتناولته خلال مداخلتي وتكريمه.
تحدّثنا عن حلقات “الكتابة والسجن” والتفاعل معها وإمكانيّة إصدارها في كتاب يقدّم له الدكتور عادل الأسطة، وأعرب عن سعادته لاستلامه كتاب “إضاءات على إبداعات كميل أبو حنيش” لصديقنا رائد الحواري.
قال لي مستفِزًا: “فلمتني!”، فلم آته، بعد، بالخبر اليقين حول أروى، وكتاب “العالم إرادة وتمثلًا” لشوبنهاور كي يتمّم دراسته حول صديقنا فرناندو بيسوا!
أوصاني، كعادته، بالاهتمام بأقلام واعدة ومنها يحيى حج محمد وسامح الشوبكي.
في طريق العودة تصفّحت الأخبار حول ما يجري في القدس، فوجئتُ بصور المعتقلات والمعتقلين، محاطين بجنود الاحتلال، كلّ وابتسامته، جاءتني ضحكة كميل وابتسامات كلّ من التقيته من الأسرى، ابتسامة قاتلة للمحتلّ وتبثّ حريّة قادمة لا محالة. بدأ الشعب بانتفاضة الابتسامة حتى النصر!
لك عزيزي كميل أحلى التحيّات، ننتظر اللقاء الموعود في حيفا، فوعد الحرّ دين، شئت أم شئت!
أيار 2021
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير عمار الزبن من قرية رأس العين، مواليد 1975، أُعتقل يوم 11/1/ 1998، حكم بالسجن المؤبد 27 مرة.
[2] الأسير أمجد عواد من قرية عورتا، مواليد 1992، أُعتقل يوم 10/4/2011، حكم بالسجن المؤبد 5 مرات.
[3] الأسير كميل أبو حنيش من قرية بيت دجن، مواليد 1975، اعتقل يوم 15/4/2003، حكم بالسجن المؤبد 9 مرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة