جولة لغوية مع كلمة”سياسة”

تاريخ النشر: 31/12/16 | 1:22

ما أكثر ما نردد هذه الكلمة “سياسة” وعلى أكثر من صعيد، وفي أكثر من معنى، فكلُّ شيء (مُسيَّس)، وأيُّ نشاط يقوم به فرد، أو جماعة، أو جهة، أو دولة- فيه (سياسة)، حتى أصبحت (السياسة) مُضافًا، أو خبرًا أو منعوتًا لكلِّ سلوك اجتماعي أو تخطيط في أي موضوع.
وردت كلمة “سياسة” في معاجم اللغة مصدرًا للفعل “ساس”، بمعنى قام على الدواب وروّضها، ثم اكتسبت معنى مجازيًا.
ذكر الصاحب بن عبَّاد: “والسياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم- (المحيط في اللغة، ج8، ص 416)، وبعده ذكر الفيروز آبادي في قاموسه: “سست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها”.
ثم وردت اللفظة في (أساس البلاغة) للزمخشري، وفي غيرها من المعاجم، مع التأكيد على التعبير الدالّ- “ومن المجاز”- الأمر الذي يشير أن اللفظة من أصل عربي:
“هو يسوس الرعية ويسوس أمرهم، وسُوّس أمرهم= إذا صُيِّر ملكًا أو ملك أمرهم”.
من أمثلة اللفظة بالمعنى الحقيقي الأول ما ورد في مسند الأمام أحمد أن أسماء بنت أبي بكر تحدثت عن زوجها الزبير بن العوّام:
“وكان له فرس، وكنت أسوسه، ولم يكن من الخدمة شيء أشد علي من سياسة الفرس”.
أما في المعنى المجازي فورد في قول الشاعرة المخضرمة حُرَقة بنت النُّعمان بن المنذر:
بتنا نسوس الناس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصّف
(المعنى- بينما نحن نستخدم الناس وندبّر أمورهم وطاعتنا واجبة عليهم تقلبت بنا الأمور، وصرنا سوقةً نخدم الناس).
الزوزني (ديوان الحماسة)، ج2، ص 48.
وفي صحيح البخاري (باب ما ذُكر عن بني إسرائيل)- رقم 3455.
“كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء…”
“روى الحاكم في مستدركه، عن المستظل بن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب!
فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟
قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول”.
وكذلك رُوي عن علي –كرّم الله وجهه-:
“روى ابن الجعد في مسنده: قال علي:
يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم”.
يقول الجاحظ في كتاب (الحيوان ج2، ص 94):
“وليس في الأرض عمل أكدّ لأهله من سياسة العوام، وقد قال الهُذَلي يصف صعوبة السياسة :
وإن سياسة الأقوام فاعلمْ *** لها صَعْداء مطلبها طويل
أما المعري فيشير في لزومياته إلى خيبة أمله من رجال السياسة في عصره:
يسوسون الأمور بغير عقل *** وينفُذُ أمرهم، ويقال: ساسه
فأفَّ من الحياة وأفَّ مني *** ومن زمن رئاسته خَساسه
في الشعر الحديث وجدنا اللفظة تتكرر بالمعنى المتعارف عليه اليوم= تولي رئاسة القوم وقيادتهم.
لكن المعنى أخذ يدل على معنى سلبي من خلال أمارات التقلب والدهاء، بل رأى بعضهم أن السياسي هو الذي لا تضبط تصرفه أو آراءه، فهو يلبس لكل حال لبوسها، فلنقرأ:
يقول شوقي من قصيدته المشهورة التي مطلعها: “سلام من صَبا برَدى أرقّ”:
بني سوريةَ اطّرحوا الأماني *** وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خِدَع السياسة أن تُغَرّوا *** بألقاب الإمارة وهي رقُّ
تتردد كلمة (سياسة) في كتاب الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، فترتبط عنده بمفهوم الاستبداد الذي يُعرف بأنه تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف من أي تبعة. (ص 18).
تطورت دلالة الكلمة فأخذت تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وفيها دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة.
تبعًا لذلك، فهي تتعلَّق بالحكم والإدارة في المجتمع المدني.
يذكر (معجم العلوم الاجتماعية) أن السياسة:
“أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن استخدام القوة، أو النضال في سبيلها”.
ويذهب (المعجم القانوني) إلى تعريف السياسة أنها: “أصول أو فن إدارة الشؤون العامة”.
عرف الواقعيون السياسة بأنها “فن الممكن”- بمعنى الخضوع للواقع السياسي، وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة.
أخيرًا، فإن السياسة هي علاقة بين حاكم ومحكوم، وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية، ومع أن هذه الكلمة ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات فإن كلمة سياسة يمكن أن تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة بين أفرادها.
للتوسع:
د. محمد حسن عبد العزيز: المعجم التاريخي للغة العربية، ص 300، وما بعدها.
مقالة د. فيصل الحفيان : مفهوم السياسة عند العرب (مقاربات أولى) في موقع ألوكة
(alukah)- مؤرخة في 2 كانون الثاني 2010.

ب.فاروق مواسي
faroqq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة