أنيموس

تاريخ النشر: 27/05/20 | 10:12

في زيارتي الأخيرة لأسير خلف القضبان قال لي: “بالله عليك، إسألّي صديقتك الروائيّة صفاء إذا بتعرفني؟ وإذا أنا المقصود في روايتها؟”؛ وصلتني من الأديبة صفاء عبد الرحيم أبو خضرة عشرات النسخ من روايتها “أنيموس” (186 صفحة، صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع لصاحبها جهاد أبو حشيش، صدرت لها مجموعتان شعريّتان: “ليس بعد” و”كأنه هو”). ضمن مشروع “لكلّ أسير كتاب”، اخترقت الجدران العازلة لتحطّ ترحالها بين يدي أسرانا خلف القضبان.

شاركت بمداخلة حول رواية “كوانتوم” في الدورة السابعة لملتقى فضاءات للإبداع العربي على هامش معرض الكتاب الدولي لعام 2018 في عمان، وتزامن الأمر مع حفل توقيع الرواية، قرأتها في حينه وعُدت إليها ثانية بعد سؤال صديقي الأسير.

تشمل الرواية ثلاثة فصول؛ تفتتح الفصل الأوّل بمقولة جبران خليل جبران “أهذه هي الحياة الَّتي كنتُ أركلُ بطنَ أُمِّي لأجلها” لتتساءل: “واحد منّا عليهِ أن يموت: أنا، أو أَنت”، الثاني بمقولة نيقولاي غوغول (وليس غوغل) “لا يُفيد لوم المرآة، إذا كان وجهُكَ مَعيبًا”، أمّا الثالث بمقولة هوراس “من يعيشَ(وليس يَعِشْ) في خوفٍ لن يكونَ حُرًّا أبدًا”، ووجدتها تلخّص الرواية وفكرتها أجمل وأدقّ تلخيص.

محور الرواية ختان فاشل، صُنع آلة استوردها المشفى مؤخَّرًا من الولايات المتَّحدة الأَمريكيَّة، كان أوّل ضحيَّة لها، وافقت الوالدة على العمليّة حين أخبرها زوجها أنّها عمليّة بسيطة، وأنّ الجهاز حديث، مستورد، فكل شي فرنجي برنجي، لا يمكن أن يؤلم، جرّبوها عليه لتقوم بدور الشَّيخ الذي يختنُ الأولاد على طريقة تقليديّة، فيقلب حياة تيِّم رأسًا على عقب ليصير تيماء، وتصبح معها حديث إربد، وكلِّ قراها.

حين تحوّل تيِّم إلى تيماء تعلّمت كيف تمشي كامرأة، كيف تسرّح شعرها وتصبغ شفتيها ووجهها، ولكنّها لم تكن قادرة أن تتعلّم كيف تفكِّر كامرأة، وترى الحياة بعيني امرأة. تتخبّط بين الذكورة والأنوثة وعوالم كلّ منهما بحثًا عن الحقيقة، فالحقيقة ليست مجرّدة، تسرح وتمرح بينهما وتبادل أبطالها الأدوار بحنكة، مع كلّ التساؤلات والتناقضات، الحساسيّات والجنونيّات…واللخبطات.

تشغّل الكاتبة شخوصها وتحرّكهم بحرفيّة كأنّهم ماريونيتّات في مسرح دمى، يتقنون الأدوار، وكأنّي بهم تمرّنوا عليها آلاف المرّات، تحرّك عقولهم وأفكارهم كما تحرّك أطرافهم وأجسادهم، دون كللٍ أو ملل، مطاوعين “جنونيّاتها” رغم التقلّبات والتغييرات في مسار حيوات كلّ منهم، في طريق البحث عن الحقيقة، وهل هناك حقيقة مطلقة؟

تعتبر الرواية متاهة البحث عن الهويّة الجندريّة والحلم الذكوري في مجتمعنا، تيّم فقد ذكورته في الرابعة من عمره نتيجة ختان فاشل يقلب حياته رأسًا على عقب، يتيه في دوّامة تُلاحقه ليل نهار، تلازمه أينما خطى ليعاني عقب تقلبّه بين ذكورته وأنوثته ممّا يُفقده السيطرة اليوميّة على ما يجري معه وحوله، يتخبّط باحثًا عن هويّته وأناه، بكلّ مركّباتها، تناقضاتها وتعقيداتها في مجتمع محافظ، ليصير عاجزًا، فلا هو هنا ولا هُناك، يلجأ للهروب من المواجهة، في البيت والحارة والمجتمع، الكلّ ينظر إليه/إليها نظرة شكّ وريبة دون اطمئنان وسؤال الهويّة يحلّق في فضاء الرواية.

ذلك الهروب مصيره الشلل والعجز “سمعتُ أنَّ عائلة في عمَّان تقيم مع رجل مثلي، ميت سريريَّاً، يعيش على الأَجهزة، منذ عشرة أَعوام، قضى في مشفى الجامعة ثلاثة أَعوام، ثمَّ نصح الأَطّباء أهله أَن يشتروا له أَجهزة التنفُّس، والقلب، والتَّغذية، لأَنَّ ذلك سيكون أَقلَّ كلفة عليهم من بقاء الرَّجل في المشفى، ففعلوا، ونقلوه إلى البيت، وما زال هناك، منذ زمن بعيد، يقلِّبونه، وينظِّفونه…وينتظرون أَن يصحو، وحدهم ينتظرون ذلك، والنَّاس يعرفون أنَّه لن ينهض لأَنَّه مات”(ص. 184-5).

يُقلقها التعصّب الديني المستشري في البلدان العربيّة؛ داعش أصبحتْ “فزّاعة”، فجأَة الغول الذي تُخيف به الأُمَّهات الأطفال حين يعصون أوامرهنَّ، ويرفضون النوم…صارتْ الكابوس الذي يراود الأطفال في اللّيل أثناء النَّوم، متواجدة في ظهرانينا، شئنا أم شئنا، أمين الأستاذ يتحوّل شيخًا وتاجرًا للدين، حارب في أفغانستان وعاد مبشّرًا، يتلو الآيات القرآنيّة على مسامع الجميع ويستنجد بحسَّان بن ثابت، ابن تيميَّة، المعتزلة وسيِّد قطب، يتزوّج “بصفقة كارثيّة من زوجة أخيه، لرعاية أبنائه الثَّلاثة، بعد مقتل أخيه في بغداد، بعد دخول الأمريكان إليها”(ص.126) وعالماشي تصوّر لنا الكاتبة المغامرة الداعشيّة والسفر إلى العراق بحثًا عن أمينها، عبر اسطنبول، غازي عنتاب، كلِّس ومنبج.

تنتقد الكاتبة بسخرية سوداوية لاذعة تصرّفات داعشيّة؛ “نجوى قطعتْ صحارى وفيافي كي تلتحق بزوجها، فوجدته قد طلَّقها غيابيًّا وتزوّج من أربع نساء…. ونكاية به تزوّجت من أميره… وعدلة قتلت زوجها ليلًا بالسَّاطور، وغادة أصبحتْ عاهرة، ولكن على الطَّريقة الإسلاميَّة كما يدّعون، تزوَّجت وتطلّقت لا أدري كم مرّة… كنتُ راقصة وهداني الله، تبتُ، أدَّيتُ العُمرة…”(ص. 140)، وكذلك الأمر حين تصوّر بكاميرتها “ليلة الدُخلة”: “أمرني أن أغتسل، وأتوضَّأَ، كي أُصلّيَ خلفه، ففعلتُ…. وحين انتهينا، قبل أن أخلع ملابس الصّلاة، أطفأً الضَّوء، وأخذني على حين غرَّة بيديه القويّتين، من الخلف…ورماني فوق السَّرير، ورمى بنفسه فوقي….لم أكن أعلم أَنَّنا في البداية فقط، ماراثون الجنس، ماراثون الموت، ماراثون القتل، ماراثون الضَّياع… والحزن، والدُّموع، والخيبة”.(ص.147-8)

الرواية تصلح لكلّ مكان في العالم العربي، لمدينتها حضور طفيف، تذكرها هنا وهناك، شارع جامعة اليرموك، شارع يضجُّ بالحياة وكأنّه لا ينتمي لمدينة إربد، يعجُّ بالطلّاب، ويعجُّ بروائح الطعام الشهيِّ، ويعجُّ أيضًا بالجميلات، “إربد مجرّد قرية كبيرة منغلقة على نفسها، تُسمّى مجازًا مدينة.. لا تخفى فيها خافية، وهي مرتعٌ جيّدٌ للأقاويل والحكايات والإشاعات”.

تتناول الكاتبة في سؤال الهويّة قضيّة المنفى والشتات والعلاقة بين جناحي الوطن؛ يلتقي في الجامعة بحسام، ابن رام الله، “شابٌّ أَسمر البشرة، نحيل، طويل القامة، عسليُّ العينين، بسيط، مهذَّب، كثير المزاح”؛ جامعيّ عاديّ يستحقّ الحياة، ولكنّه دفع ضريبة فلسطينيّته فأضاع خمسة أعوام في السِّجن…خسر كلّ شيء، كان في السَّادسة عشرة من عمره، حُكم شقيقه بخمسة مؤبَّدات وقام الاحتلال بنسف بيتهم، والجنود يتلذّذون بسقوطه، وتشريدهم… خسر بيتًا، وعائلة، وأَشقَّاء، وطريقة حياة. يحبّ ميساء، أخت تيِّم/تيماء، وعارضت الأم زواجهما “عليكِ أن تفهمي أنّ البشر هناك غير البشر هنا… هم معرّضون للسِّجن، أو حتّى للموت في أيَّة لحظة، إنتِ في مواجهة لا تتوقَّف مع جنود عدوٍّ شرس… عليكِ أن تفهمي أنَّ السَّلام كذبة…لن تستمرَّ طويلًا، فالعداء مستحكم هنا، في القلوب”(ص.105)، سافر لإحضار أمّه ولم يعد…أُعتقل على حاجز قلنديا، أُصيب برصاصة…نقلوه إلى المشفى تحت الحراسة المشدّدة… حين تحرّر من السجن لم يكن بوسعه الخروج من سجن الضفّة الكبير، بسبب ما يُسمّى بالمنع الأمني ..هاي حال الفلسطيني!!

تُثير الكاتبة أسئلة فلسفيّة ووجوديّة، هل يوجد ما هو أكثر بذاءة أصلًا منّا، وما هذه الحياة؟ هل المآسي تصنع الجبناء؟ “حين نعترف للموتى…نكون أكثر صدقًا لأنّنا ندرك أنَّ الموتى لا يعودون إلى الحياة، ولا يفضحون أَسرارنا في لحظة ضعف، ولا يحكمون علينا أن نطأطئ رؤوسنا حين نلتقي بهم كي لا نشعر بالضَّعف والمهانة”(ص. 15)؛ تتناول وضع المرأة الشرقيّة فكلُّ النِّساء تقريبًا في هذا الشرق يتمنّين أن يُصبحن رجالًا. تصل إلى قناعة بأنّ الحياةُ عربةٌ مهترئةٌ، وأنتَ وحظُّكَ، إن صعدتْ بكَ السَّفحَ، تصل، وإن تحطَّمت إحدى عجلاتِها، تعودُ بكَ حيثُ كنتَ، في الأسفل، لكنَّكَ حينذاك لن تكونَ أنتَ أنتَ، لأنّكَ بعد كلِّ سقوط تكون بحاجة للتَّرميم.

لغة الكاتبة سلسة ومتجدّدة بعيدة عن التكلّس، لا تخشى تبنّي المصطلحات الأجنبيّة بعفويّة مُطلقة حين تستعمل الإنترنت، Error، فولتات، “سكايبي”، On Line وغيرها دون أن يرجف لها جفن.

تعتزّ صفا أبو خضرة بثقافتها الموسوعيّة دون تكلّف؛ تستعين برواية العمى لسارماجو، مسخ كفكا، جحيم دانتي، قبو دستويفسكي ومذكّراته، أنطوني كوين في دور عمر المختار، فيروز وكانوا الخيّالة مع André Rieu (وليس ليون)، رواية نارنجة لجوخة الحارثي، لوركا، محمود درويش، غسان كنفاني، ناجي العلي وغيرهم بطبيعيّة مدروسة دون إقحام مبتذل.

وجدتُ الرواية حداثيّة وما بعد، أسلوبًا ولغةُ ومضمونًا؛ تناولت الجنس كرافعة ومحرّك لسلوك الرجل والمرأة في كلّ المجتمعات. توصلنا الكاتبة لقناعة بأنّ كلّ رجل هو رجل وامرأة في الوقت نفسه وكلّ امرأة هي امرأة ورجل في الوقت نفسه، فالأنيموسْ هو الرجل المختبئ في المرأة.

ملاحظة لا بدّ منها؛ لم أتصالح مع الخبّاب الذي حضر عشرات المرّات في صفحات الرواية؟!

حين قرأت “وأنا أرى كيف قبض أبي المال الَّذي حكمت به المحكمة لي، كتعويض عن خسارة عُضوي، دفعه الطَّبيب، وبنى أبي فيما بعد، بذلك المال بيتًا لنا. هكذا إذًا هي حالي وما آلت إليه، ربّما يكون ذلك البيت المصنوع من الحجر بديلًا لا بأس به عن ذكورتي الَّتي اغتيلت مبكِّرًا” وعاد الموتيف على نفسه عبر صفحات الرواية راودتني فكرة “مجنونة”؛ هل أوحت لنا الكاتبة بأنّ الختان بواسطة تلك الآلة الأمريكيّة المستوردة هو هو ما حدث لفلسطين والعالم العربي مع ذلك “الربيع العربي” الوهميّ الذي خصانا وأفقد شرقنا هويّته وما زلنا نتخبّط في البحث عنها!

وأنهي بما جاء في الصفحة ما قبل الأخيرة: “أميرة الصّغيرة كبرتْ، صارت عروسًا جميلة…ضحيّة أُخرى تكبر دون أَن تدري ما الَّذي ينتظرها….أيَّة حياة”.

حسن عبادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة