من يوميات طبيب في مخيمات اللاجئين في قطاع غزه

تاريخ النشر: 02/11/17 | 8:25

كان يوم خميس من الاسبوع الثالث من شهر اغسطس, الحر شديد والعرق يتصبب من جباه اعضاء البعثه الطبيه وهم يحملون معداتهم, بعد ان اجتازوا معاناه الفحص الدقيق في محطات المراقبه في معبر ايرز من الجهه الاسرائيليه, يسيرون في طريقهم الى قطاع غزه المحاصر.
هناك في مدينه غزه وما تكاد تقترب من شاطئ البحر الممتد على طول القطاع حتى تشتم رائحه كريهه تملا الاجواء, وترى مياه البحر قد اضحى لونها اخضر داكن حيث اصطبغت بمياه الصرف الصحي المتدفق بغزاره من مدينه غزه ومخيماتها بعد انقطاع الكهرباء. لا احد يقترب من الشاطئ سوى بعض الصبيه الدين لا يدرون ما يفعلون ولا يابهون بمخاطر الامراض بينما يحرم باقي المواطنين الدين كانوا يجدون في البحر ملاذا لهم في ايام القيظ الحارق يفرون من بيوت الصفيح الخانقه في المخيمات.
وعندما تمضي في اتجاه المدينه وتسير في الشوارع المهمله حيث الاوساخ والنفايات منتشره على الارصفه واكوام الرمال تتناقلها الرياح من مكان الى اخر لتغطي بقايا الاسفلت الذي تشقق وانتشرت فيه الحفر لترتطم بها عجلات عربات الكارو “العربات الخشبيه التي تجرها الحمير” والتي اصبحت وسيله النقل العام الاكثر استخدام مند بدايه الحصار عوضا عن السيارات لارتفاع اسعار البنزين ولقله تواجده . وترى الناس في الشوارع والازقه يسيرون ببطئ لا يلوون على شئ وفي عيونهم حزن عميق وبؤس شديد فالبطاله التي فرضها هدا الحصار الخانق تفوق الثمانين في المئه من القوى العامله في القطاع. هناك حصار على جميع مواد البناء والصناعه وحتى معظم المواد الغدائيه والادويه , فلا عمران ولا مصانع ولا عمل ولا تطور بل ركود وبطاله وفقر ومرض.
في اللحظات القليله قبل ان نبدأ استقبال المرضى في العياده الميدانيه التي جهزها اهالي المخيم وهي عباره عن غرف لمدرسه ابتدائيه يتعلم بها اطفال المخيم وقد بدى الاهمال على الجدران والارضيه والاثاث بينما زينت الجدران برسومات ملونه ومخطوطات تمجد الشهداء وتشيد بالصمود والنضال والتحدي. كانت الممرات والاروقه الضيقه تمتلئ بالمرضى الكثيرون الدين قدموا بمئاتهم من جميع انحاء المخيم ومخيمات اخرى مجاوره بعد ان انتشر الخبر بقدوم البعثه الطبيه المتخصصه من ابناء الشعب الفلسطيني الباقي في ارض الثمانيه واربعوون. كانت علامات الفرح والسعاده تشع من وجوههم وقد امتلات عيونهم بالحب والامل. فلا زال هناك, في هدا الكون من يذكرهم ويقدم لهم العون والمساعده في هده الظروف القاسيه والحصار البغيض . وقبل ان نباشر عملنا ونبدا باستقبال المرضى اقترب مني رجل في الخمسينيات من عمره كنت قد عالجته في احدى زياراتنا من قبل وحدثني عن الوضع والظروف الصعبه التي يعاني منها اهالي المخيمات الكثيره المنتشره في جميع ارجاء القطاع همس بصوت خافت حزين, ارجوك ان تساعدني اتوسل اليك ان تزور ابني في المستشفى انه يعالج هناك مند اسبوع ووضعه لازال خطير. انه مصاب بعيارات ناريه في صدره وكتفه. وبعد ان سالت عن ما جرى استرسل يسرد الاحداث قائلا في صباح يوم الجمعه الماضي جاء ابني هدا وهو في التاسعه عشره من عمره وقد انهى المدرسه التوجيهيه “الثانويه” في العام الماضي . جاء يطلب مني بعض النقود كي يحلق شعره لدى حلاق المخيم, قلت له بأسف, يا ولدي عليك ان تؤجل الحلاقه الى حين, لأنني والله لا املك النقود حتى لشراء مستلزمات طعام الغداء بعد صلاه اليوم الجمعه. لم يجبني ولم ينبس ببنت شفه وخرج . لم تمض بضع ساعات وبينما كنت اجهز نفسي للذهاب الى الجامع القريب لأداه صلاه ألجمعه, دق جرس الهاتف وعلى الطرف الاخر كان موظف من المستشفى يدعوني للحضور فورا لان ابني مصاب بعيارات ناريه ووضعه خطير. كانت حالتي لا توصف لشده الخوف والهلع وعندما وصلت المستشفى علمت من الاطباء ان ابني اصيب برصاص جنود الاحتلال الاسرائيلي عندما كان يشارك الشباب في المظاهرات على الحدود وهم ينادون بفك الحصار ويرمون الجنود بالحجارة والزجاج, بينما كان الجنود يرمونهم بالرصاص الحي. في اليوم التالي بعد ان استفاق من غيبوبته, سألته ما الذي جرى وما حداه للذهاب الى الحدود ومعاركه الجنود وهو الذي لم يكن ينتمي الى أي تنظيم سياسي في السابق. اجابني بحده وقال مادا تنتظر مني وانا اعيش هده الظروف البائسه, لقد مضت سنه كامله كنت احلم بان اشتغل وادخر بعض النقود كي استطيع دفع رسوم الجامعه واضمن انضمامي للتعليم في السنه القادمه. انني واثق بانك لا تملك المال لتدفع مصاريف تعليمي وايضا اعلم جيدا بانك لا تملك النقود لتوفير الطعام لاخوتي وحتى لم يكن لديك الثمن القليل كي احلق شعري. اتريدني ان اقضي سنه اخرى عاطل اتسكع في الشوارع, انني لا ارى في الافق أي بصيص من امل. لدا اتخذت قراري فاغتسلن وتوضأت ثم ذهبت الى الحلاق. وبعد ان حلق شعري طلبت منه ان يرش العطور على وجهي وملابسي وقلت له انني ذاهب لأقاوم جنود الاحتلال الاسرائيليي الدين يحاصروننا. فهم سبب فقرنا وماسينا, وادا استشهدت ارجوك ان تاخد نقودك من والدي واطلب منه ان يسامحني ويقرا الفاتحه على روحي.
بدأنا استقبال المرضى وهم يدخلون الغرفه, كل يحمل كيس من البلاستيك صغير يحتوي على بعض التقارير الطبيه وصور الاشعه وكثير من الروشيتات التي تحكي قصص الجراح والماسي والامراض. شدني منظر تلك الأم الشابة وهي تدخل الغرفه, تدفع ببطئ كرسي للمقعدين جلس داخله ابنها الذي لم يتجاوز الاثني عشر عام, وقد اصيب من شظية قنبلة اطلقتها طائرات الاباشي بينما كان يلعب في ساحة منزله. لقد اصابت العامود الفقري وادت الى شلل كامل في الاطراف السفلى. قالت بصوت متحشرج وقد خنقتها الدموع, انظر ما فعلوا بابني وحيدي اليتيم, “ما الذنب الذي اقترفه هذا الطفل في حياته” كانت تتوسل كي تسمع اي كلمه تطمئنها, تعطيها أي بارقه امل بان طفلها سيستطيع ان يقف على رجليه وان يمشي ذات يوم.
يدخل مريض اخر يتكئ على عصاه ويسير على رجل واحده, رجل في الخامسة والثلاثون من عمره, بترت ساقه من تحت الركبة بعد ان انهار بيته على من فيه جراء اطلاق صاروخ من طائرة كانت تحوم في الاجواء وتزرع الموت. استشهدت زوجته وابنه اليافع وجرح هو وابنته الطفله. كانت آلامه لا تطاق, تلازمه ليل نهار وبلا انقطاع, وكان يشعر بالجزء المبتور من ساقه كأنه لازال عالق في جسده مما يزيد من معاناته فيطلب بترها من جديد. ان هده المشاعر والآلام معروفه طبيا “الام الفانتوم –الام احساس بقاء العضو ما بعد البتر” والتي تحتاج الى علاج معقد لا يوجد مثله في القطاع.
جلست امامي مريضه اخرى سيده في الستين من عمرها تعاني مند حوالي السنه من صداع في الراس يتركز خلف العين اليمنى قد يواكبه هبوط تدريجي في حده البصر في العين اليمنى. سالت مادا فعلت, واي فحوص قمت بها خلال هده السنه؟ اجابت ببساطه لا شيئ فكل ما اشتد علي الالم اذهب الى الصيدليه واطلب عقاقير مسكنه وهكذا اوفر تكاليف زياره الطبيب التي لا استطيع احتمال تكلفتها. اوضاعنا صعبه جدا كثيرا من الاحيان لا املك حتى ثمن الدواء. سالت هل هناك اناس كثيرون يفعلون مثلك ويتعالجون لدى الصيدلي لتخفيف الامهم . قالت نعم انهم كثار جدا فطبيب الغوث قليل ما ياتي الى عياده المخيم. قلت لنفسي انها ماساه تفوق التصور فالامراض الخبيثه تفتك في الناس دون تشخيص او علاج ملائم , انهم يعالجون بالمسكنات فقط.!!!!
في نهايه اليوم سالت مستغربا احد اعضاء المجلس البلدي في المخيم والذي كان يرافقنا طوال هدا النهار. هل من المعقول ان الناس هنا نادرا ما ياكلون اللحوم, معظمهم يحظى بوجبه تحتوي على اللحمه مره كل شهرين او اقل, لقد وجدت علامات لنقص الفيتمينات وخاصه فيتامين ب 12 الدي يتواجد فقط في اللحوم والحليب ومشتقاته, انهم يعانون من سوء التغديه في المخيم. نظر الي بعيون حانقه يائسه تعبر عن عمق الماساه, وقال بصوت يملاه الغضب المكبوت . هل تعلم ان هناك جوع في المخيم! نعم الجوع مختبئ وراء الابواب المغلقه, الناس هنا تذهب الى فراشها لتنام وهي جائعه .
وفي طريق ألعوده كانت تربض على صدري أثقال وهموم لا تحتمل, وكان لا يزال طيف تلك الأم وابنها المسكين لا يفارق مخيلتي, وصوتها المخنوق لا يزال يخترق مسامعي, “لماذا يحاصروننا, يجوعوننا ويقتلوننا, نحن نريد العيش بسلام, اريد ان يفك الحصار, وتفتح المعابر حتى استطيع ان اعالج ولدي الذي شلت رجلاه ويلات الحروب” , ثم انحنت تقبل ابنها المسكين وقد انهمرت الدموع غزيرة من مقلتيها…
د.رفيق مصالحه اخصائي امراض الاعصاب
وعضو الهيئه الاداريه لجمعيه اطباء من اجل حقوق الانسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة