صُراخٌ من قلب الهزّة الأرضيّة
ترجمة ب. حسيب شحادة جامعة هلسنكي
تاريخ النشر: 19/06/25 | 8:26
بقلم الكاهن الأكبر، سلّوم بن عِمران 1921–2004
A Cry from the Heart of the Earthquake
A Story by the High Priest, Sallūm Son of ˓Imrān 1921-2004
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 579-576.
تجربة طفولتي الأولى
إنّ المشاهَدَ الأولى التي تراها في سنوات حياتك الأولى، تُحفَر جيّدًا في مخّك، وتعود إليك بين الحين والآخر في أحلام الليل طَوالَ كلّ حياتك. هذه حقيقة لا نِزاعَ فيها. مَن لا يتذكّر بالتفصيل الحدثَ الأوّل في حياته، الذي شاهده وترك انطباعًا عليه لا ينمحي. يولد الإنسان كلوح أملسَ، وأحداث الحياة وتجاربُها ترسم عليه أخاديدَ، الواحد تلوَ الآخر. وكلّما كثرت الأخاديد، تكبر وتتراكم التجربة الشخصيّة، دليل كلّ إنسان يحاول أن يتعلّم من تجارب الماضي بخصوص أحداث الحاضر، ويحاول تفادي أخطاء الماضي.
حاولْ أنت أن تحكي لي بأيّ عمرٍ كنتَ، عندما مررتَ بالتجربة الأولى، إيجابيّةًَ كانت أم سلبيّة، وأنت تذكرها بحذافيرها، ولن تنمحي من وعيك. ربّما حدث ذلك بعمر أربع أو خمس أو ستّ سنوات، وها أنا أراك تهزّ برأسك من الأعلى إلى الأسفل، علامة الموافقة. وأنا مررتُ بتجربة كهذه في الطفولة، وهي تعود إليّ إلى اليوم في حُلم الليلة أو في حلم اليقظة في وَضَح النهار. هذا حدث، يحدُث وسيحدُث.
الهزّة الأرضيّة في نابلس -لا تُنسى
تجاربُ طفولتي غير المنسيّة، مرّت عليّ في سنتي السادسة في العام 1927. وأحيانًا، عند الحديث مع مجايليّ أو الأكبر منّي سنًّا بقليل، الذين عايشوا التجربة ذاتها، يتبيّن لي أنّ كلَّ ما حلّ بي في أعقابها يحلّ عليهم من حين لآخرَ أيضا. وهم أيضًا، بعضهم في دار الحقّ، لن ينسوا أبدًا ما رأت أعينهم، وبعد ذلك فقط فهموا.
قصّة العام 1927، هي إحدى القصص التي أدّت إلى ثورة لصالح طائفتنا بالذات، بالرغم من أنّ الحديث يدور حول هزّة أرضيّة ضربت فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل) في السنة نفسها، وبالأساس نابلس. رُويت قصصٌ كثيرة عن تلك الهزّة. ولكن كلّ من رأى بأُمّ عينه الهزّة أوِ الانقلاب ونتائجها، يُدرك بشكل أفضلَ معنى انقلاب سدوم وعَمُوره وأدَمة وصَبُوييم ֻ [سفر التثنية 29: 23] مدن دائرة الأردنّ.
وفي العَقد الأوّل بعد الهزّة، لم يتوقّف فِتيان الطائفة، وبخاصّة أولئك الذين أُطلق عليهم اسم الشِّلَّة، عنِ الحديث عمّا حصل لهم في ذلك الحادث، وأخيرًا قد حان موعد نشر ذلك.
كان ذلك في ساعات ظهر يوم حارّ بامتياز. كان كلّ الأولاد في حديقة ألعاب صغيرة، بجِوار الحيّ السامريّ القديم المدعو حتّى اليوم باسم حارة الياسمينة، بينما كنّا في الأُرجوحة، أنا في جهة والمرحوم راضي الأمين صدقة من الجهة الأُخرى، وإذا بالأرض من تحتنا بدأت تتحرّك.
لم أتمكّن من النزول من الأرجوحة، لأنّ الهزّة الأرضيّة زادت من قوّة الدفع، اِصعد وانزل، انزل واصعد بلا انقطاع بسبب قوّة الدفع. كان ذلك كقوIة غامضة سحبتنا من الأُرجوحة وطيّرتْنا فطرحتنا أرضا. كنّا خائفين جدًّا، وكذلك الأطفال الآخرون.
انتاب الكثيرين منهم بكاءُ شديد. لقد خِفنا كلّنا من التحرّك من مكاننا. تمايلت الأرض وتحركّت من تحتنا لبضع ثوانٍ فقط، ولكنّها بالنسبة لنا كانت بمثابة بضع سنين. رغبنا بكلّ ما أوتينا من قوّة، أن تنتهي الهزّة وهكذا كان. فورًا، وقفنا على أرجلنا المرتجفة، متوسّلين الرجوع على جناح السرعة إلى بيوت الحيّ.
مدخل الحديقة، كان مغلقًا بكومة كبيرة من التراب والحجارة، لم تكن قبل ذلك. وقد سُمعت أصوات استغاثة لكثيرين طلبًا للنجاة. صعِدنا على الكومة وما شاهدناه لن ينمحي من ذاكرتي. بدت بيوت الحيّ، وكأنّ يدًا أُسطوريّة عِملاقة مرّت بها وطرحتها أرضًا، كما في لُعبة الورق. صيحات الذين دُفنوا تحت الأنقاض مزّقت قلوب الذين أرادوا إنقاذهم.
اِختفى الفِتيان
بالرغم من أنّنا عرفنا الطريق المؤدّي إلى بيوتنا، إلّا أنّنا لم نستطع الوصولَ إليها، لأنّ الطريق قدِ اختفت فجأةً وكأنّها لم تكن، ومكانها فُغرت حفرة كبيرة، ولم تتمكّن أرجلنا الصغيرة من اجتيازها، القفز فوقها. موقع قطعة الأرض كان شماليّ الحيّ. قرّرنا محاولةَ الوصول إلى الحيّ، من الجهة الثانية عبرَ ملعب آخر. انطلقنا والخوف يملأ قلوبَنا من القادم، وبخاصّة منَ احتمال حدوث شيء فظيع لأحبّائنا.
ومن هم أحباؤنا، إن لم يكن آباؤنا؟ وعندما توقفّتِ الهزّة، استعاد الأهل قوّتهم، وخرجوا بلا تأخّر للبحث عنّا، وما أعظم خوفهم حينما وصلوا الحديقة ولم يجدونا، إذ أنّنا خرجنا منها من الجهة الأُخرى.
ولمّا رأوْا الحفرة الضخمة التي انبثقت ممّا كان ملعبنا، انتاب الجميعَ هلعٌ شديد. اِنبطحوا بجانب فوّهة الحفرة/البئر متأكّدين تمامًا بأنّنا كلّنا في جوفها. شدّ الكثيرُ منهم بشعرهم وأجهشوا بالبكاء المدوّي، نادبين فُقدان أطفالهم. وآخرون بدؤوا يصرخون لداخل البئر، آملين بسماع ردّ أحد الأطفال بصيحة خافتة.
في تلك الأثناء، نحن تابعنا سيرنا إلى الحيّ. إنّ شقّ البحر الأحمر وعبورَه من قِبل بني إسرائيل، كانا لا شيء، مقارنةً بصعوبات قطع الطريق إلى الحيّ. سلسلة من الأنقاض والحُفر التي سبّبتها الهزّة الأرضيّة، قد سدّت طريقنا. خُيّل لنا أنّنا نصعَد إلى تلال من الأنقاض، وننزل إلى آبار مظلمة.
المسافة من المكان إلى الحيّ السامريّ قصيرة جدًّا، ولكن بسبب تغيّرات سطح الأرض، استمرّ سيرنا بضعَ ساعات إلى أن شارفت الشمس على الغروب. وعند وصولنا لرُجمة الحجارة التي ظنناها قُبيل الحيّ، استولى علينا اليأس وخِلنا أنّ لا أحدَ سوانا قد بقي على قيد الحياة. أطلقنا كلّنا صَيْحة شديدة نحو أولئك الذين قد يكونون وراءَ الرجمة. وظهر لنا أنّ صيحتَنا قدِ استجيبت؛ سُمِعت أصواتُ رجال، نداءات متسرّعة وصيحات أشخاص يحاولون تهدئتنا.
تسلّق أحد جيراننا ومرّ من جانب الرجمة الثاني. أأنتم بخير؟ سأل، إنّ آباءكم قد فقدوا أملَ رؤيتكم أحياء. مسك الواحد بيد الثاني كما أمرنا، وهو مسك بيد الأوّل في الشلّة، راضي صدقة وأنا خلفه. وقد سحب الرجل كلّ الشلّة خطوة تلو الأخرى إلى خارج كومة الأنقاض العالية جدّا. ثمّة كان آباؤنا، هرولوا إلينا وكلّ واحد يُنادي باسم ابنه. والدي الكاهن عمران، كان من ضمنهم أيضا. أحنى قامته الفارعة أمامي، ضمّني بقوّة وهمس بأذني بكلمات مهدّئة، كما فعل الآباء الآخرون من حولنا.
لقد أجهشنا كلّنا بالبكاء الشديد مرّة أخرى، وسُرعان ما انضمّ إلينا آباؤنا، وعلى الرغم من الدمار الهائل من حولنا، كان ذلك بكاء الفرحة لبقاء الجميع معافين أصحّاء.
موت سلّوم بن عبد الله الدنفيّ
الجميع باستثناء واحد، وقف جانبًا صديقنا العبد بن سليم، يُجهش ببكاء شديد لا يقوى على إيقافه. علمنا في ما بعد فقط، بأنّ أباه كان الوحيد الذي لم يأتِ إلى المكان. لقد حاصرت الهزّة الأرضيّة أباه سليم عبد الله لطيف الدنفيّ عند مدخل حانوته، حجارة السقف سقطت عليه فسحقت جسده. الحزن على وفاته، امتزج بالفرح العظيم للعثور علينا. بانقضاء يوم واحد فقط على الحادث المخيف، وجد كلّ المفقودين، وعادت الحياة إلى مجاريها.
ها نحن، عايشنا الكوارث على جلودنا!