أسوار وجسور

تاريخ النشر: 18/07/10 | 7:06

بقلم:يوسف جمل

كي تبني سوراً بيني وبينك, لن يحتاج إلى عظيم جهد أو صعوبة في العمل والتنفيذ, فكل ما تحتاجه هو بعض من طوب الكراهية وأعمدة البغض وحديد القسوة وقلب متحجر. أن تبني سوراً بينك وبين أخوتك لن تحتاج إلى وقت كثير خاصة إذا تقاسمتم الأعباء واتفقتم على ذلك وتبادلتم البغض والكراهية والقسوة وتشابهت قلوبكم بقسوتها ومدى تحجرها.

وإذا اتفقتم على استحالة العيش بدونه ورأيتم في الفراق والجفاء سبيلا للمضي في هذه الحياة عندها حتماً سيكون السور صلباً متيناً عالياً شامخاً ولا يخشى عليه لأن كل الأطراف تتفق على ضرورته وتحرص على استمرار بقائه وثباته وفيه المصلحة المشتركة فلا خوف من إحداث أضرار به وفيه ولا خوف على صموده واستقراره ليظل يحمي كل الأطراف من لحظات ضعف أو نظرات حب ونسمات حنين وشوق وربما ندم وعدول عن الألم والحرمان الذي سببه وجود هذا السور والحدود التي رسمها والتي حسم فيها كل أمل بتغيير أو تبديل.

أن تبني سوراً كي يحميك من المفاجآت أو يمنع عنك المخاطر أو يحفظ لك مالك أو يستر عنك العيون أو يمنحك الراحة والاطمئنان والحرية فليس في مثل هذا النوع من الأسوار من ضرر أو انتقاد أو حرج.

أما أن تبني سوراً كي تحاصر أمة, أن تبني جداراً تسجن فيه شعباً, أن تبذل كل ما تستطيع كي تحرم غيرك من النور , كي تمنع عن غيرك الغذاء والدواء والهواء وتتفنن وتبدع في أساليب منعك وطرق محاصرتك وسجنك وحرمانك فهو ما لا يمكن أن يقف عند حدود التعليل ولا يمكن أن يستوعب أو يُفهم أو يقبل !

قضية الأسوار معروفة بفشلها وعدم نجاعتها وقلة حيلتها على المدى البعيد .

لقد سقطت كل القلاع والحصون وتفككت كل الأسوار والحدود على مر العصور وما بقي منها إلا ما سجله التاريخ من ظلم وجور واستبداد .

لقد سقط آخرها سور برلين العظيم وصارت حجارته تباع للذكرى ولتخليد الصمود وزوال المنع ووصولاً إلى الوحدة .

لقد كان سور الصين رمزاً ومعجزة عمرانية يفاخر به !

وسور القدس وسور عكا وقيسارية ودمشق وسور القلعة كلها بنيت من الداخل إلى الخارج حماية لأهلها لكن الجدار العازل وما شابهه من أسوار السجون والمعتقلات فقد بنيت من الخارج لكي تحبس وتسجن وتحصر من في الداخل وشتان ما بين تلك الأسوار وهذه الأسوار,

وشتان ما بين بناء جسور تقرب المسافات والقلوب وما بين بناء أسوار تبعد المسافات وتعمق الخلافات وتجمد العلاقات وتبخر الآمال بوصال جديد .

شتان ما بين جسور تسهم في الوصال وأسوار ترسخ الفرقة والعزل والانفصال .

ففي أوروبا يتم الاتحاد وتزول العقبات وتسهل التنقلات ما بين دولة ودوله وتبنى الجسور وتوحد الأهداف والمصالح والبرامج والنظم والعملة والدفاع المشترك.

في أمريكا ما يربو على خمسين ولاية تحت حكم واحد والحدود بينها شكلية وهي دولة واحدة .

في بلادنا العربية نهوى الوضوح ونعشق الجدران ونغرم بالأسوار فهمُّنا الأول هو الحدود وترسيمها وترسيخها وتدوينها وتسجيلها بالتابو والسهر والحرص على عدم زحزحة العلامات وتوظيف دوريات لعدم التلاعب بها والاطمئنان على سلامتها وعدم اختراقها وتجاوزها .

في بلادنا العربية تسحب الأراضي من تحت مالكيها كما تسحب الحصيرة وترسم الحدود مرات ومرات وتتوسع دائرة الاستيطان ولا يهتز لنا وسط ولا خاصرة ولا يتحرك رمش أو جفن , لكننا نقيم الدنيا ونقعدها إذا ما تبين أن هناك خطأ في حدودنا مع جارنا ولو كان لا يتعدى المليمترات ونبرع في قيمة الأرض كالعرض وضرورة نيل الحقوق كاملة في الإرث والمحاورة في كل مشروع وشق طريق على ما يرضينا ويزيد من أملاكنا ويقلل من مخاسرنا .

ونبدع في نصب الأسوار قوة وصلابة وعلواً وشموخاً ولا نبالي بالتكاليف والجهود فهي غايات وأهداف عليا سامية لا أهمية لكل ما يقدم ويبذل ويصرف من أجلها .

في بلادنا العربية نكره الجسور ونرفض الوحدة والاتحاد لأننا نخاف على أنفسنا منها ونخاف من غيرنا إذا ما صرنا أقوياء ونتحاشى أي شيء يمكن أن يوحي لغيرنا بالتهديد ونخاف أن ندرج على قائمة الإرهاب لمجرد أن كانت تسهيلات بسيطة بل نظل نبذل الجهود لنرسخ الخلافات ونروي الأسوار بالغالي والنفيس حتى نظل في السيادة ولو على حساب الشعب والأمة بما فيها من أطفال ونساء ورجال وشيوخ .

أما في قضية اليسر ولا تعسر فليس هناك أي مشكلة أو صعوبة في فتوى تبرر ذلك وتنسقه بما يتلاءم معها ويضفي عليها الشرعية وتجعله ينسجم مع منظومات الجميع حتى لو كان على حساب مليون ونصف إنسان يحبسون في قفص تفهم عدوك في مصلحته في إقامة جزء منه فهو عدوك أما أن تكون فاقد للحس وللإنسانية والرحمة وفينا حديث رسول الله بالمرأة التي أدخلت النار بسبب هرة حبستها فهذا ما لا يمكن أو يستحيل فهمه .

ما أحوجنا إلى الفولاذ الذي تعرفنا عليه من المسامير الفولاذية وما أحوجكم إلى الفولاذ الذي تعرفونه من خزائنكم الفولاذية لكن مساميرنا للثبات والتمسك والاتحاد والقوة وللبناء والإعمار والنجاح والتحمل والصمود وخزائنكم لكي تحتفظوا بها بعرقنا وجهدنا وحقوقنا وما كسبتم على رقاب البشر وحفاظاً عليها من النهب والسرقة وسهولة الوصول ومن باب اعقل وتوكل !

وقد كان آخر الأسوار للتاريخ أن يبنى بين أخوين ويقسم الأرض والبلد إلى قسمين بل ويمتد إلى البحر ويبنى بعمق عشرة أمتار وبطول خمسة وعشرين متراً في البحر حتى يعزز الحدود وليضاف إلى الحاجز المصنوع من الفولاذ الذي أتى على مساميرنا وملأ خزائنكم الفولاذية بالأموال دعماً وتقديراً على هذا الصرح العظيم الذي لم يسجل التاريخ أسوأ منه.

نبارك لكم جهودكم في جدركم وأسواركم وبارك الله لنا في صمودنا وجسورنا !

‫5 تعليقات

  1. صدقت أخي الكريم فالجسور لا مكان لها بيننا ولا بدولنا ولا حتى بين الأخوة في هذه الأيام للأسف الشديد.أصبحت جسورنا وهمية كالسراب نراها ونعي مدى أهميتها، ولكننا لا نفعل شيئا لإخراجها لحيز التنفيذ. بينما أصبحت الأسوار والجدران ميزة يتباها بها كل جائر وظالم لا يخشى مخافة الله، ولا وجود للإنسانية والتسامح والتآخي. باتت جماعاتنا مشتتة مفرقة لا حول لها ولا قوة. تبكي الماضي وتنعى الحاضر ولا تستطيع مواجهة المستقبل أو بالأحرى لن تستطيع مواجهته لأنها تخاف قول كلمة حق، فهي متعاونة وقد عاهدت الظالمين على نصرتهم.

  2. كل كلمة قلتها ايها المربي الفاضل يوسف حقيقة من واقع الحياة….اسوار كبيرة حقيقية من باطون مسلح مع حديد ثقيل تبنى وتعلو بين الجار وجاره, بين الأخ وأخيه, بين القريب وبين البعيد, ولماذا وما السبب؟! انها نار الكراهية, نار الحقد واللؤم, بسبب امتار من الأرض, بسبب شجار بسيط بين أطفال, بسبب شجرة وسياج, حتى بسبب مياه الأمطار. ما أتفه الأنسان ألذي وهبه الله عقلاً وميزه عن باقي المخلوقات بأحسن خلق يتنكر لنعم الله عليه ويطمع بالمزيد. ألا يعلم ألإنسان بأن كل شيء للزوال حتى هو!! لما لا نتسامح, لما لا نتنازل, لما ولما…؟! ولم يقتصر الأمر على العلاقات الإنسانية بل تعداها بالعلاقات السياسية داخليا وخارجيا…اسوار تبنى كحد فاصل لمنع اي احتكاك وتواصل من اي نوع, والنتيجة جو مشحون بالعداوة المستمرة التي تحصد وتحرق القلوب والنفوس التي تتوق لكسر هذا الحصار وهذا الطوق الخانق بشتى الوسائل. هناك شعوب نجحت وهناك شعوب ما زالت تحتضر وتعاني ولست ادري هل من نهاية, ومتى؟!! لعل وعسى يكون يوما تقام الجسور, جسور السلام والعدل, جسور تآلف القلوب في عالم انساني, حضاري منفتح بلا حدود ولا أي تصاريح….

  3. يا لها من خاطرة رائعة . جميلة جداً . شكراً بقجة على هذه البحور الأدبي !

  4. كتابة جذابة ورائعة ومعبرة وساحرة !! قلمٌ كبير بنقده وقصده وهدفه !
    حماك الله يا استاذنا .. وادام عبرك الحياتية !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة