المنامة الثانية: يا عُمَرُ أيّها الرُّوَيْبِضَة

تاريخ النشر: 11/12/13 | 5:08

كان في أيام صباي في الطيبة رجلٌ كفيف البصر، يدعى "الصّادق". أَعتبرُه محطة عزيزة على قلبي تقف ذاكرتي عندها أنا ومجموعة من أتراب الصبا. وأريد أن أُشرك قارئي العزيز بهذا البريق الذي يتبعني ويدخل في وجداني. خاصة وأن الكثيرين يعتبرونه من الصعاليك المهمشين، لولا هذه المنامة التي ستخرجة بحدة من عتمة النسيان في زقاق في الحي الشرقي حيث كان يسكن، الى نورانية الذاكرة في مدينة العشق والأدب.

كان الصادق طويل القامة يمشي مع عكازه نفس الطريق اليومي الى أن يصل مقهى "حَنّون" فيأخذ الكرسي الخشبي ويجلس على قارعة الطريق، بوقار. ثم يصيح بصديقه عمر صاحب المقهى: " حُط على أُغنية الجندول " ويأخذ في الاستماع اليها وهي تنبعث صداحة من هذا المقهى التاريخي، وكانت هي الأغنية المفضلة عند الصادق تداعب روحه قبيل مغيب الشمس، وهو يرتشف ذلك المشروب الذي (يشبه) الشاي في لونه فقط، ويعيد مع أغنية الجندول:

أنا من ضيّعَ في الأوهامِ عمرَه

نسي التاريخ أو أنسي ذكره

ويبدو أنه لن يشبع من سماعها لو أعيدت على مسامعه كل مغرب شمس، وقد ينتقل به الطرب الى أُغنية الكرنك فيتخيل نفسه بين الأطلال، فيأخذه الغناء صدّاحاً:

أنا هيمانُ ويا طولَ هيامي

صورُ الماضي ورائي وأمامي

وكان الصادق كثيراً ما يداعب عمر القهوجي، ريثما يأتي صديقه عثمان حسنين المبصر، فيقول له: كلكم مبصرون وترونني وأنا لا أراكم، هل في ذلك أي قسط من العدالة، إنكم تستمتعون برؤية السيدة وهي تتأوّد حُرقةً وتشدو، وكان أحمد شوقي قد رغب أن تشاركه كأس الشراب فرفعت الكأس إلى فمها ملاطفةً وتودداً، ولكنها لم تشرب شيئاً فقال:

سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها

واستخبروا الراح هل مست ثناياها

حمامة الأيك من بالـشــجـو طـارحـها

ومن وراء الدجي بالشوق نـــاجـاهــا

حتى إذا وصلت الى المقطع التالي، أحسَّ الصادق بالنشوة تغمر روحه وردد معها:

القت إلي اللـيـل جـيـدا نــافـرا ورمــت

إليه اذنا وحــــــــارت فـيـــه عـيـنـاهـا

وعادها الشوق للأحباب فـــانـبـعثـت

تبكي وتـهـتــف أحــيـانـا بـشـكـواهــا

وقد تمر بالمقهى فتسمع صوت السيّدة ينبعث حاراً وئيداً:

أغارُ من نسمة الجنوبِ

على محيّاكَ يا حبيبي

دهاءُ الصادق (السّادك): الشاي والسراج

وكان الناسُ ينادونه (السادك) بالسين والكاف، وذلك تمييزاً له، وهو الشخص المهمّش المسحوق في نظر الناس، عن الصادق بالصاد المفخمة، ذلك الرجل الأرستقراطي المعروف صاحب المقام الرفيع. وهذا ما تعلمته من آداب الحديث من ستي عديلة، فهناك فرق في المقام بين الصادق والسادك.

والمهم أنه كان يضع أمامه كأساً فيها شراب (يشبه) الشاي في لونه ولكنه لم يكن شاياً البته، لكن الصادق ليموّه الأمر على المارّة كان يضع ملعقة يأخذ في تحريكه كأنه الشاي. فإذا سمع أحداً من المارة قادماً نحوه، يرتشف قليلاً منه محركاً شفتيه كأنما يشرب شيئاً ساخناً، ولكن الويسكي ليس ساخناً ولا يحتاج الى ملعقة لتحريك سُكّرهِ!!

لقد استمرت لعبة الصادق الذكية هذه على مدى ثلاثين عاماً، دون أن يكتشف أحدٌ من المارّة أنه كان يشرب المنكر، يشرب فيقهقه قهقهة ما تلبث أن تنقطع فجأةً كأنما يتذكر شيئاً محزناً لم أستطع فهمه. وكان يسخر من أشباه المثقفين خاصة أصحاب المناصب، وكانوا يتجنبون سلاطة لسانه، وكان يقول: الحمد لله الذي أراحني من رؤيتكم، ولم يحرمني سماع الطرب الأصيل.

وكان الصادق لذكائه يحمل سراجاً إذا عاد في الليل بعد سهرة مفعمة بماء السماء، ومرة سأله أحدهم مستغرباً: ما معنى حملك السراج ياسادك وأنت يعني بلا إحراج كفيف البصر فماذا يفيدك السراج، فأجابه السادك: يا لشدة غبائك بلا إحراج، السراج من أجل أن يراني أصحاب البصر( المفتحين يعني) فلا يصدموني بسياراتهم، وهم غارقون في مشاكلهم سارحون في عوالمهم الغريبة.

يا عُمر أيها الرُّوَيْبِضَة!

وكان كثيراً ما ينادي صاحب المقهى بأعلى صوته: يا عُمر أيها الرُّوَيْبِضَة، ولم يكن يعرف عمر معنى للرويبضة أي التافه الذي يتحدث في أمر العامة، ولكنه كان متأكداً أنها مداعبة له، وإلماح الى أن الصادق يريد كأساً أخرى. وكنا نحن الصبيان نعرف هذه الإشارة الصادقية ونتضاحك بمرح أيام زمان. وعندما كبرنا عرفنا أن عمر هذا لم يكن رويبضة البتة، بل كان الناس يهابون جانبه، وكان على سذاجته شديد الاهتمام بشؤون الانتخابات البلدية، لدرجة أنه أوكلني أن أكتب له منشوراً يرشح فيه نفسه للانتخابات المحلية، وقد فعلت ذلك على سبيل المزاح، ولكن المزاح انقلب جداً لضراوة المعركة الانتخابية في ذلك الوقت، حتى أن رئيس أحد الأحزاب المتنافسة تقدّم الى المقهى حيث عمر وطلب منه أن يكفَّ عن ذلك، حيث أنه يقتل أصوات من العائلة ومن الصعاليك الذين يؤمون المقهى، ولكن عمر لما شعر بأهميته، أكبرني أيما إكبار حيث أن المنشور فعل فعله، وهذا يعني أنني قادر على قلب الموازين على عقبيها. فطلب أن نتابع اصدار المناشير، فقال له الصادق: " بدك تخرّب بيت الزلمي… خليك رويبضة أفضلك"

مشاركة الصادق في تكريم ( العميد)

وأذكر عندما قرر أسياد وزارة المعارف تكريم عميد العائلة أن الصادق جلس صامتاً يصغي وتذهب به الذاكرة يوم كان تلميذاً لدى المرحوم كيف حفظ المعلقات السبع وما يزال يحفظ عنه نادرة شعرية تقول:

قد قيل َ إن ّ المستحيل َ ثلاثة ٌ ** والاّن رابعة ٌ أتتْ بمزيد ِ

الغول ُ والعنقاء ُ والخلُّ الوفي ** واللحم ُ في مَحشي الأمير ِ سعيد ِ

ويحفظ عنه كثيراً من طرائف الأصمعي.

وقد ظلَّ يتململ في جلسته لا يقرُّ له قرار، فهو يريد أن يشاركَ الخطباء في أداء واجبه نحو معلّمه الأول ولكن ها هو الأستاذ (ش) يُعلن عن نهاية الحفل فجنَّ جنون الصادق وهبَّ نحو المنصة قائلاً له: أليس من حقنا نحن الصعاليك أن نقول قولة حق نوفي بها هذا المكعلم حقه؟؟ ولم يتوقع عريف الاحتفال هذا الأمر فأمسك الصادق الميكرفون وعلت زغاريد الفرحة الحقيقية من نساء الحي تشجيعاً للصادق ولأن المحتفى به كان يُجلّه ويقدره.. ولا تسل عما قاله الصادق في تلك الواقعة لقد أخرج كل ما في جعبته من أشعار وأحاديث نبوية وآيات دون الاشارة الى مصدر القول ولكن الجمهور كان يصفق لطريقته الحماسية في الأداء..

شمسُ الأصيل

وقد تمرّ بالمقهى ساعات الفجر فتسمع صوت عبد الباسط عبد الصمد كأنه يتنزّل من السماء لساعتهِ يجلجل ويزلزل ويخرج من الروح أثقالها، فتقول ماله ومالها، وتعلمُ أن ربك أوحى لها، ولكنك لن تجد الصادق ساعتئذٍ، فهو يخرج من بيته قبيل المغيب وقت اصفرار الشمس عندما تكون السيدة تشدو" شمس الأصيل" ممتشقاً حسامه(محجانته التركية)، يقطع الشارع بثقة المارد الجبار. ويسأل صديقه القهوجي عمر ماذا ترى منظر الشمس وكيف تكون عند الأصيل، وعندما يشرح له ببساطته السوقية يزداد استمتاع الصادق بها حتى إذا وصلت السيدة في اطرابها ترنح الصادق متأوهاً: انا وحبيبي يا نيل

غايبين عن الوجدان

يطلع علينا القمر

ويغيب كأنه ما كان

بايتين حوالينا نسمع

ضحكة الكروان

على سواقي بتنعي

ع اللي حظه قليل

كان الصادق يحفظ من الأشعار الكثير ولكنه كان كثير الترديد للأبيات:

يا ليتَ ما بيني وبينكَ عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ

إنْ كان منكَ الودُّ فالكلُّ هيّنٌ وكلُّ ما فوق الترابِ ترابُ

وقول بشار:

يَاقومُ أُذْنِي لِبَعْضِ الحَيِّ عَاشِقَةٌ ** والأذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أحْيانا

وقول الشاعر:

يُعيِّرُني الأَعداءُ وَالعَيبُ فِيهمُ *** وَلَيسَ بِعَيبٍ أنْ يُقالَ: ضَرِيرُ

إذا أَبصَرَ المَرءُ المُروءَةَ وَالوَفَا *** فإنَّ عَمَى العَينَينِ لَيسَ يَضِيرُ

وهكذا عاش الصادق ومات في طيبة بني صعب لم يخلد ذكره أحد سوى هذه المنامة من العبد الفقير الصادقيّ:

لم يكن أعمى ولا متعامي

عركتهُ حوادثُ الأيامِ

في حضنه قيثارةٌ عتيقةْ

كانَ في شجوها هديلُ حمامِ

عاشَ صادقٌ صادقاً زماناً

بينَ عينٍ ترى وقلبٍ ظامي

ما رأى في الوجودِ أمراً مهماً

تأسى على فقدهِ العيونُ

ومضى ولم يُخلِّفْ شيئاً

غيرِ قولٍ لهُ وشعرٍ حامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة