جولة أدبية: في مذمة الناس
تاريخ النشر: 10/09/16 | 8:39لمن البيتان:
بمن يثق الإنسانُ فيما ينوبُه *** ومِن أين للحرّ الكريم صحابُ
وقد صار هذا الناسُ إلا أقلَّهم *** ذئابًا على أجسادهن ثيابُ
أما الشاعر فهو أبو فِراس الحمْداني- ابن عم سيف الدولة، شاعر السيف والقلم.
وأما المعنى الذي أتى به فهو يدل على التشاؤم، حيث لا يرى أن هناك بين الناس من يوثق به، ويستبعد أن يكون هناك صاحب بحق وحقيق، فالناس إلا القليل منهم هم ذئاب تلبس ثياب البشر.
في هذا السياق تذكرت كتابًا موسومًا بعنوان (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) للمَرزُباني المَحولي، وقد طبع في دار الجمل سنة 2003، فقرأت فيه (ص32) قصة غريبة عجيبة تدل على لؤم بعض الناس الذين يُفترض أن يستعبدهم الإحسان، وأن يكونوا نموذجًا للعرفان، فإليكم القصة التي تقدم لنا بعض النماذج الناكرة للجميل والمعروف:
“وسألتني -أعزك الله تعالى- أن أجمع لك ما جاء في فضل الكلب على شرار الأخوان ومحمود خصاله في السر والإعلان، فقد جمعت ما فيه كفاية وبيان، ولست أشك أنك -أعزك الله- عارف بخبر عبد الله بن هلال الكوفي المجذوم صاحب الخاتم وخبر جاره لما سأله أن يكتب كتابًا إلى إبليس لعنه الله في حاجة له، فإن كان العقل يدفع ذلك الخبر فهو مثل حسن يعرف مثله في الناس. فكتب إليه الكتاب، وأكده غاية التأكيد، ومضى وأوصل الكتاب إلى إبليس.
…
قرأه إبليس وقبّله ووضعه على عينيه، وقال: السمع والطاعة لأبي محمد، فما حاجتك؟
قال: لي جار مكرم شديد الميل إلي، شفوق علي وعلى أولادي، إن كانت لي حاجة قضاها أو احتجت إلى قرض أقرضني وأسعفني، وإن غبت خلفني في أهلي وولدي، يبرّهم بكل ما يجد إليه السبيل؛
وإبليس كلما سمع منه يقول: هذا حسن، وهذا جميل.
فلما فرغ من وصفه، قال: فما تحبّ أن أفعل به؟
قال: أريد أن تزيل نعمته وتفقره، فقد غاظني أمره، وكثرة ماله، وبقاؤه وطول سلامته!
صرخ إبليس صرخة لم يسمع مثلها منه قَط، فاجتمع إليه عفاريته وجنده، وقالوا: ما الخبر ياسيدهم ومولاهم؟
قال لهم: هل تعلمون أن الله -عز و جل- خلق خلقًا هو شر مني”؟
يمضي المؤلف ويقول: “ولو فتشت في دهرنا هذا لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيرًا ممن تعاشره إذ لقيك رحّب بك، وإذ رغبت عنه أسرف في الغيبة وتلقاك بوجه المحبّة، ويضمر لك الغش والمسبّة”.
ذكرني أبو فراس بما كان صديق لي يكرر على مسامعي، ويقول:
“هناك من لا يحبون أن تتعشى، أو أن يكون بالك هادئًا، فظُنَّ شرًا في الناس، وكن منهم على وجل”!
أسأله: “لماذا وأنا لم أوذِ أحدًا حتى ولا نملة”؟
قال: “هو الطبع في البشر”.
مرة أخرى أظهر صديقي تشاءمه، ولم أوافقه، فالناس أجناس، منهم الصالح ومنهم الطالح.
قلت: ما أكثر هذا الشعر الذي يحذّر الناس ممن الناس، والذي يريدنا أن نسيء الظن، وسأجمع مختارات منه مما يدل على هذه الأجواء التي يقتنع بها الكثيرون مثلك، أدوّنها لكم مع تحفّظي من التعميم، فبعض الناس – في رأيي- فيهم الخير، وفيهم البركة، ولن نعدم الفضل بينهم.
مع ذلك فأرجو أن تقرءوا معه هذه الأصوات المتشائمة، واسألوا أنفسكم إن كنتم توافقون أم تختلفون مع القول!
ذَهَبَ الْوَفَاءُ ذَهَابَ أَمْسِ الذَّاهِبِ … فَالنَّاسُ بَيْنَ مُخَاتِلٍ وَمُوَارِبِ.
ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى … وَتَقَرَّضَا إلَّا مِنْ الأشْعَارِ
وَفَشَتْ خِيَانَاتُ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ … حَتَّى اتَّهَمْنَا رُؤْيَةَ الْأَبْصَارِ.
قَالَ شاعر:
مَضَى الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَاجْتُثَّ أَصْلُهُ … وَأُخْمِدَ نِيرَانُ النَّدَى وَالْمَكَارِمِ
وَصِرْت إلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّاسِ آخَرَا … يَرَوْنَ الْعُلَا وَالْمَجْدَ جَمْعَ الدَّرَاهِمِ
كَأَنَّهُمُو كَانُوا جَمِيعًا تَعَاقَدُوا … عَلَى اللُّؤْمِ وَالْإِمْسَاكِ فِي صُلْبِ آدَمَ
وفي (بهجة المجالس وأنس المجالس) لابن عبد الَبَـرّ، ص168 :
قال ابن عباس: “لقد أصبت باليمن سهمًا في خزائن عاد، كأطول ما يكون من رماحكم هذه، مريّشٌ مفوّق مكتوب عليه:
بلاد بها كنّا ونحن نحبها … إذ الناس ناسٌ والبلاد بلاد”
وقال آخر:
مضى الذين إذا ما جئت أسألهم … قالوا برُحبٍ: على العينين والرّاس
وقد بقيت بأوغادٍ أكابرهم … ليسوا بناسٍ بلى أشباه نسناس.
ولأبي حفص عمرو بن علىّ بن بحر الفلاس، وكان أحد أئمة أهل الحديث الحفّاظ:
ألا ذهب التّكرم والوفاء … وباد رجاله وطغى الغُثاء
وأسلمني الزمان إلى رجالٍ … كأمثال الذئاب لهم عواء
صديق كلما استغنيت عنهم … وأعداء إذا نزل البلاء.
وقال آخر:
كنا نعيّر من يأتي بفاحشةٍ … والناس يرعَون حقّ الدين والحسب
فالناس قد تركوا التعيير كلهم … لما استوى النّاس في الفحشاء والكذب
وللمتنبي في هذا المعنى:
إنّا لفي زمنٍ تركُ القبيحِ به *** من أكثرِ الناسِ إحسانٌ وإجمالُ
ولعبد الله بن عبد العزيز بن ثعلبة اليعقوبي الشّذني:
مضى دهر السّماح فلا سماحُ … ولا يرجى لدى أحدٍ فلاحُ
رأيت الناس قد مُسخوا كلابا … فليس لديهم إلاّ النّباح
وأضحى الظّرف عندهم قبيحا … ولا والله إنّهم القباح
نروح فنستريح اليوم منكم … ومن أمثالكم قد يستراح
إذا ما الحرّ هان بأرض قومٍ … فليس عليه في هرب جُناح.
وقال آخر:
مضى الجود والإحسان واجتُثّ أصله … وأخمِد نيران النّدى والمكارم
وصرت إلى ضرب من الناس آخر … يرَون العلا والمجدَ جمعَ الدّراهم
وقال آخر:
خمسون عاماً تولت من تصرّفها … عسرٌ ويسرٌ على الحالين أشهده
لم أبكِ من زمن صعب لشدته … إلا بكيت عليه حين أفقده
وما جزعت على ميْتٍ فُجعت به … إلاّ ظللت لستر القبر أحسده
والبيت الثاني يذكّرني بقول الشاعر:
دعوت على عمرو فمات فسرني *** فعاشرت أقوامًا بكيت على عمرو
ولأبي عبد الرحمن العطوي:
أين الوفاء الذي قد كان يعرفه … قومٌ لقومٍ وأين الحفّاظ للحرم
أين الجميل الذي قد كان ملتبسا … أهل الوفاء وأهل الفضل والكرم
فإن وجدت صديقا عند نائبةٍ … فلست من طرقات الخير في أمم
لما أناخ عليَّ الدهرُ كلكله … وخانني كلّ ذي ودٍّ وذي رحِم
ناديت ما فعل الأحرار كلهم … أهل الندى والهدى والبعد في الهمم
وبما بدأنا به من حكاية الذئاب والكلاب نختم:
أورد الخطابي في آداب العزلة عن ابن أبي ليلى قال:
“سيأتي على الناس زمان يقال له”زمان الذئاب”، فمن لم يكن في ذلك الزمان كلبًا؛ أكلوه”!
قال أبو سليمان ، قال قتيبة:”هذا الزمان”.
…
وأخيرًا:
أسألكم:
ما رأيكم ؟ دام فضلكم!
ب. فاروق مواسي