لا بد في درب التمكين من فتن وبلاءات

تاريخ النشر: 24/09/15 | 16:44

ثم إن الذي كان من أمر يوسف عليه السلام أن يسر الله له الخروج من الجب على أيدي جماعة من المسافرين الذين أرسلوا أحدهم يستخرج الماء من البئر، وإذا به يستخرج بدل الماء غلاما وضيئًا وجهه كفلقة القمر فيستبشر به ويقول: “يا بشرى هذا الغلام” ويجمع أفراد الجماعة على أخذ يوسف سرًا معهم ليكون بضاعة، يبيعونه في مصر كأي بضاعة أحضروها معهم في تجارتهم ولكنهم لزهادتهم به فهم أهل سفر وترحال للتجارات فقد باعوه بثمن بخس منقوص لا يليق بمثله حيث أنه لا يقدر بثمن لو علموا من حاله شيئًا.

وهكذا يبدأ يوسف عليه السلام حلقات أخرى من البلاء بعد بلائه الذي وقع عليه من أقرب الناس إليه وبلا ذنب ولا خطيئة.

فلقد اشتراه عزيز مصر -قيل هو كبير الوزراء وقيل هو رئيس الشرطة- وكان من فضل الله تعالى على يوسف وتدبيره وحكمته أن أوقعه بيد هذا الرجل. ففي كل محنة منحة لا يعلمها إلا الله، فقد كان هذا الرجل صاحب فراسة حيث توسم في وجه يوسف الخير والصلاح، فدفعه ذلك إلى أن يوصي امرأته بإكرامه وإحسان مثواه فعسى أن ينتفعا به في أمورهما أو يتخذاه ولدا (والظاهر أنهما كانا لم ينجبا أولادًا كما ذكر في بعض الروايات).

ويدخل يوسف عليه السلام بيت العزيز يحوطه الإكرام والرفق ورفعة المكانة وعلو المنزلةفأصبح في منزلة بعد منزلة سيده وسيدته لما لمسا فيه من الخلق الحسن والنشاط والهمة مما غرس في نفوس من حوله الثقة والتقدير.

وهكذا يبدأ يوسف عليه السلام درب التمكين في الأرض كما أخبر رب العزة لما قال: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).
فالله تعالى أراد التمكين ليوسف وهو الذي سيحقق ذلك {والله غالب على أمره} فهو فعّال لما يريد ويشاء ولا أحد يستطيع منعه ولكن هذه الغاية لا يتم بلوغها إلا بعد بلاءات وفتن لا بد من مواجهتها وعقبات لا بد من اجتيازها فهذه سنة الله في التمكين.

ولما كان يوسف عليه السلام قد أوتي شطر الجمال والحسن، ثم هو الآن قد بلغ أشده وقمة الفتوة والرجولة وجمع له مع ذلك الحكمة والعلم فقد جاءته الفتنة الثانية في حياته من هذا الباب. فتنة لم تكن في الحسبان!! امرأة العزيز التي تربى يوسف في بيتها بعد أن دخله غلامًا صغيرًا أصبحت نفسها تنازعها إليه فيتحول هذا النزاع إلى حب جارف يزيل حواجز الحياء في نفسها فتنساق وراء نفسها الأمارة بالسوء وتتهيأ وتعد نفسها وتدخل مخدعها ثم تدعوه إليها وتغلق دونهما الأبواب ظانة أنها بذلك ستتمكن من بلوغ أربها والحصول على شفاء نزوتها دون أن يعلم أحد بها وتدعوه لنفسها وتقول له: {هيت لك}.

إنها تدعوه لأمر لا يمكن تصوره وتخيله تدعوه ليمارس الفاحشة معها!!! كانت تظنه مجرد خادم لها لا يملك إلا أن يطيعها وينفذ كل ما تأمره به. لم تكن تعلم أنها دعت رجلا قد آتاه الله الحكمة والعلم والنبوة والطهارة والنزاهة من الأرجاس والأدناس وغرس في نفسه الإيمان العميق الذي يعصمه من ارتكاب الفاحشة، والتقوى العظيمة التي تردعه عن الانصياع لها فيما يطلب وجعل في نفسه البرهان الذي يحميه من إتيان المنكر وزينّه بالخلق الكريم الذي يمنعه من انتهاك حرمة سيده ويحجزه عن خيانته في أهله وإخفار ذمته فهو الذي قد أحسن مثواه ووثق به ورفع منزلته في بيته فلا يجوز أن يقابله بهذا الفعل القبيح وهذا العمل الشنيع.

شاب يفور حيوية وشبابًا أُعطي من الحسن ما يبهر الأنظار تدعوه سيدته الجميلة وتتزين له وتهيء له كل الوسائل ولا يردعها حياء ولا كرامة نفس ولا مكانة اجتماعية ولا رقابة حاجزة، تدعوه ليشاطرها الفراش فيأبى ويمتنع بكل قوته ويصدها بكل ما أوتي من الإيمان والمعرفة لله والتقوى الرادعة. فأين شبابنا اليوم من هذا الشاب الطاهر النزيه. أين شبابنا؟ أين رجالنا الكثيرون الذين يتركون نساءهم العفيفات ليبحثوا في أوكار الفاحشة عن أولئك الساقطات مستبدلين الخبيث بالطيب غير عابئين بدين ولا بخلق إنما هي شهوات تطفأ بالحرام ونزوات تتبع بلا رعاية زمام وغرائز تشبع بلا زواجر عظام!

ويهرب يوسف عليه السلام من بين يديها ويحاول الخروج والفرار من هذا المكان الذي فيه الفتنة والمعصية مهيأة بكل دوافعها ويصل الباب وهي تشده من قميصه فتقده، وفي ذات اللحظة يصل زوجها الباب وهما على هذا الحال.

وما أعظم كيد المرأة لما تجد نفسها قد خسرت معركتها ولم تحقق مأربها، أو أنها تعرضت لما لم تكن تريده لنفسها من انكشاف أمرها فتعمل على الانتقام ممن أفسد عليها خطتها. فها هي امرأة العزيز تقول لزوجها كما سجل ذلك رب العزة عليها { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم}. (يوسف:25).

فهذا منتهى الكيد وبالغ الحيلة تذكر زوجها أنها أهله ولم تقل: (من أراد بي سوء) وإن الفعل هو فعل سوء ولم يرد بها خيرًا ثم تكذب وتلصق الخيانة بيوسف عليه السلام ظانة أنها تثير في نفس زوجها الحميّة على أهله فينتقم من يوسف، ثم إنها تعرض العقوبة التي يستحقها فإما أن يسجن فيغيب في السجن ويغيب معه سره وإما أن ينال عقابًا أليما شديدًا معتقدة أن يوسف سيسكت أمام اتهامها له لأنه في نظرها مجرد فتى لها وسيخاف عقابها لو دافع عن نفسه ورد كلامها.
ولكن الله تعالى الذي عصمه من الوقوع في الفاحشة هو الله الذي تكفل بنجاته من الشر الذي يمكن أن يقع عليه لو اثبتوا عليه زورًا أنه هو الذي قصد السوء فيوسف من عباد الله المخلصين لطاعته، المطهرين عن الدنس المختارين المصطفين بالنبوة، فأول ما كان من ظهور الحق الذي يبرئ يوسف أنه نطق وقال: { هي راودتني عن نفسي} مبرئًا نفسه فيكون بوقوفه بشجاعة ليدافع عن نفسه قد بدأ يدفعهم لمعرفة الحقيقة التي أظهرها الله تعالى بأن قيض ليوسف شاهدًا من أهلها لتكون الحجة عليها أبلغ، فنطق بما يمكن أن يوصلهم لمعرفة الحقيقة { وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} لأنه لو كان هو الذي أراد بها سوء لكان القميص قد من الأمام وهي تدافعه عن نفسها وإن كان هو الذي حصل أن هرب منها وشدته من قميصه من الخلف فقدته فهو الصادق وهي الكاذبة.

وهنا تظهر الحقيقة التي تثبت براءة يوسف عليه السلام فالقميص مشقوق من الخلف إذا فهي الجانية وهو المجني عليه. ولكن ماذا حصل من زوجها؟ إنه لم يزد على أن يقول لها:{إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} كأنه يريد أن يقول لها ماذا نستطيع أن نفعل أمام كيدكن أيتها النساء فهو عظيم. ثم يتوجه ليوسف بالخطاب ليقول له: {يوسف أعرض عن هذا} أي اضرب عنه صفحا، ولا تذكره لأحد، ويعود إليها {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} يقول سعيد حوى في تعليقه على هذه الآية في تفسيره الأساس: “ويبدو أنه كان لينًا سهلا لدرجة أنه لم تثر غيرته أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه ولم يحدث شيء. ولا نتوقع ممن يعيشون في الترف ولا دين لهم حاجزًا إلا مثل هذه المواقف بل أسوأ منها من الدياثة والقيادة. وما يجري في عصرنا لا يحتاج معه هذا الكلام إلى دليل. وأقول وأن هذه الدياثة هي التي تشجع النساء والبنات على الخروج من حمى الفضيلة إلى نتن الرذيلة. فيحدث ما يحزن القلب ويقض المضاجع من الألم لهذا الحال.

وهكذا تطوى هذه الصفحة بالنسبة للعزيز مع زوجته أول الأمر. إلا أن الأمر لم يبق سرًا بل ما أسرع أن انتشر بين النسوة في المدينة يتناقلنه واحدة عن واحدة يعبن على امرأة العزيز أن تقع في حب فتاها وينكرن عليها ذلك. فلما بلغها قول النسوة أرادت أن تثبت لهن أنهن كما يقول المثل:(في الهوا سوا) يعني إذا عبتن علي ذلك فسأريكن من أنفسكن مثله وأبلغ فدعتهن لضيافتها وحضرت لهن مجلسًا فيه المفارش والمخاد التي يرتحن عليه وفيه الطعام ومنه ما يقطع بالسكاكين (كما يقول ابن كثير) ثم أعطت كل واحدة منهن سكينًا، وكانت قد أخفت يوسف عليه السلام في مكان منه سيخرج عليهن لما تدعوه لذلك. وهكذا لما خرج ورأينه ذهلن عن أنفسهن من شدة حسنه وجماله وأعظمنه وأجللنه إلى درجة أنهن كما قال الله تعالى: {قطعن أيديهن} أي حززنها بدل أن يحززن الفاكهة التي كانت بأيديهن. ثم قلن: {حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف:31). فما كان منها إلا أن قالت لهن: {فذلكن الذي لمتنني فيه} أي إذا كنتن أنتن من نظرة واحدة إليه بلغ بكن الذهول والاندهاش إلى تقطيع أيديكن فكيف بي وأنا أراه كل يوم أمامي؟
ثم تعترف لهن أنها راودته عن نفسه ولكنه استعصم وامتنع وهذه أول شهادة لها في براءته من فعل السوء. ثم تهدده وتتوعده أمامه وأمامهن إن لم يطعها ويفعل ما تأمره به فسيكون مصيره السجن والإذلال.

فيلجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى بالدعاء ليحفظ عليه عفته ونزاهته ويفضل السجن يفر إليه مما يدعونه إليه من الفاحشة ويعتذر إلى الله بدعائه أن لا يدعه أمام شرهن وكيدهن فهو ليس له من أمر نفسه شيء أو قدرة على دفع شرهن إلا بحول الله وقوته وهذا هو الفرار الثاني ليوسف عليه السلام من الفتنة ودوافعها ومثيراتها فيستجيب الله تعالى له ويصرف عنه كيد النسوة فهو السميع للدعاء، العليم بالحال. فأين شبابنا العاكفون على مشاهدة الفتن بأنواعها سواء في الانترنت أو المسلسلات والأفلام الخليعة أو المراسلات والمغامرات مع أولئك التائهات من البنات في عالم المنكر والسوء.

يقول تعالى بعد ذلك: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} أي أنهم رأوا بعدما ظهر من شواهد براءته أن المصلحة تقتضي سجنه إلى حين وذلك لإرخاء الستار على القيل والقال الذي انتشر بين الناس فيفهم الناس أنهم سجنوه لأنه هو الذي راودها عن نفسها فاستحق هذا العقاب. فدخل يوسف عليه السلام السجن ليعايش ظلماته بعد الحرية وتطوى صفحة أخرى ومشهدًا آخر من مشاهد قصته لندخل معه السجن في الحلقة القادمة إن شاء الله.
يتبع.

امنه حسن

P

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة