قراءة سيميائيّة في رواية مدينة الريح للكاتبة فاطمة ذياب

تاريخ النشر: 21/03/15 | 15:40

ينبغي الوقوفُ على عنوان الرّواية وغلافِها؛ لأنّ العنوان في المنظور السيميائيّ النقديّ يُشكّلُ عتبةً، يَستشرفُ منها القارئُ آفاقَ الرّواية، ويبدأ منها فهمُ البناء الفنّيّ للعناصرِ الرّوائيّة، فالعنوانُ إطلالةٌ لغويّةٌ تختزلُ عصارةَ الرّسالة، أو الغاية التي تنطوي عليها أحداثُ الرّواية. ولأنّ الغلافَ صورةٌ بصريّة وعلامة سيميائيّة تتعالقُ حتمًا مع دلالةِ العنوان، وأيّ انفصالٍ بينهما يُفضي إلى خصام بينهما وبين مضمون الرّواية، فالعملُ الأدبيّ ثالوثٌ إبداعيّ يتكوّن من عنوانٍ وغلافٍ ومضمون.
واستئناسًا بما نقدّم، فإنّ معنى المدينة في عنوان الرّواية (مدينة الريح) ليس مدينة بعينها، بل هي الوطنُ كلُه؛ الوطن بأطيافه الزمنيّة الثلاث، مجد الماضي ونزيف الحاضر وحلم المستقبل. ولعلّ أبرزَ الدّلالات الكاشفة عن معنى المدينة جاءت في الباب الأخير من الرّواية، في قول الكاتبة في تناصّ مع كلمات الأخويْن رحباني: (منّي منكم ألف سلام لمدينة الريح أهلِها وناسها وربعها، سلامي لكم يا أهلَ الأرض المحتلة، يا منزرعون في منازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم). وقد تجاوزتْ دلالةُ المدينة في حنايا الرّواية الحدودَ الجغرافيّة المألوفة للوطن، لتشملَ المدينة الكونيّة، مدينةَ العدالة والحرّيّة، وربّما تكونُ المدينة الفاضلة. وقد تُجسّدُ هذه الدّلالاتُ الثلاث (المجدَ والنزيفَ والحلمَ) في غيرِ موضعٍ مِن الرّواية، وقد جاءَ الإهداءُ، وهو العتبة الثانية للرّواية مُنسجمًا مع هذه الدّلالاتِ في قول الكاتبة: (في مدينتي التي أُحبّها وأبحث عنها / في مدينتي المنهكة أكثر من جدّا). كما جسّدَ المَدخلُ- وهو العتبة الثالثة للرّواية- التّمازجَ بينَ الدّلالاتِ الثلاث السّابقة، وجاءتْ كلمة “المدينة” مُضافةً إلى كلمة الريح، التي تدلُّ في السّياق الثقافيّ الموروث على حزمةٍ مِن الدّلالاتِ السّلبيّةِ، والشّحنات النفسيّةِ المُتوتّرةِ والمُرتقبة والمُخيفة أيضًا. ولا يخفى أنّ دلالة كلمة الرّيح في القرآن الكريم قد اختصّتْ بسياقِ العذاب والدّمار، فالرّيحُ في عنوان الرّواية ذاتَ دلالةٍ مُكثفةٍ ومبأرة، لأنّها تختزلُ مآسي الوطن (الوطن) ماضيا وحاضرا. إنّها ريحُ الاحتلال والقهر والقمع، وجاءَ الكشفُ عن هذه الدّلالاتِ في الباب الأخير للرّواية في قول الكاتبة: (.. ما زلنا نملكُ الوقت كي نتحدّث عن الذين طاروا مع الرّيح، والذين أخذتهم الرّيح إلى زمن آخر.. ونتحدّث كذلك عن الذين وقفوا في وجه الريح، وظلّوا في مواقعِهم صامدين).
أمّا غلافُ الرّوايةِ (لوحةٌ للشاعر الفنان د. سليم مخّولي)، فيُجسّدُ لوحةً تراثيّة تُعبّرُ عن ذاكرةِ الوطن، ويتحوّلُ المهباج (المهباش) في غلافِ الرّوايةِ مِن دلالتِهِ المألوفة، إلى دلالةٍ رمزيّةٍ تُجسّدُ الأصالة والبقاءَ والصّمودَ في المدينةِ أو الوطن، ويَرمزُ طولُ يدِ المهباج (المهباش) إلى الإرادة والصّمودِ والعنفوان، ودَلالاتُ المهباش تقفُ في مواجهةِ دلالاتِ الرّيح (الدمار/ الاحتلال/ الترقب..) وبهذا الرّبط يُصبحُ الغلافُ والعنوانُ ثنائيّةً دلاليّة تتوزّعُ في حنايا الرّواية؛ لأنّ مضمونَ الرّوايةِ مُؤسَّسٌ على ثنائيّةِ النكبة (الفجيعة) والحلم (اليقين بالخلاص والنصر). وترمزُ صورةُ الرّجلِ الذي يتأمّلُ المهباج (المهباش)، إلى التعالق والتواصل والتعاقب بين الأجيال في فلسطين؛ فالرّجلُ الّذي يرتدي زيًّا تراثيًّا رمزٌ لوصايا الأجداد، والمهباج (المهباش) رمزٌ لإرادة الجيل الحاضر وصمودِهِ، وبهذا يتحقّقُ التوافق بين مُكوّناتِ الغلاف (المهباش/ الرّجل).
وفي الغلافِ تبدو بيوتُ المدينةِ وخلفَها جبالٌ شاهقة جرداء، وكأنّ الجبالَ حارسٌ أسطوريٌّ يَحمي المدينة (الوطن) مِن مخاطر التّهويدِ والتّغريب والتّهميش، وبخاصّة أنّ لونَ الجبال أزرق، ولا يَخفى أنّ اللّونَ الأزرق في الموروثِ الثقافيّ يُمثّلُ تعويذةً للحماية من الأذى والشّرور، وإن صحّ هذا التأويلُ، فإنّ ماهيّةَ الألوانِ الّتي تنتشرُ في فضاءِ الغلافِ تُمثّلُ الحاضرَ الضّبابيَّ والمستقبلَ غيرَ المرئيّ، وبهذا الرّبطِ تُشكّلُ دلالةُ الجبالِ ثُنائيّةً ضِدّيّةً مع دلالةِ الألوان، وما يُعزّزُ هذا التأويلُ، أنّ الجزءَ العلويَّ في خلفيّةِ الغلافِ جاءتْ صورةَ عينٍ، تُراقبُ الصّراعَ بينَ دلالةِ الجبالِ ودلالةِ الألوانِ مِن جهةٍ، وتُراقبُ العلاقةَ بينَ رمزِ المهباج (المهباش) ورمز الرّجل. ويَنسجمُ هذا التّأويلُ مع مقتطفاتٍ مِن الباب الأوّل للرّواية في قول الكاتبة: (مدينة تزرعُني في بؤبؤ العينين.. مدينة تحرسُني برعشة الشفتين).
ولا تحتاجُ الرّوايةُ إلى ناقدٍ كي يُحدّدَ نوعَها مِن أشكال الرّواية؛ لأنّ الكاتبةَ أعفتِ القارئَ استنتاجَ الشّكل الرّوائيّ، بعبارةٍ توضيحيّةٍ تُفيدُ أنّ الرّوايةَ (سيرة روائية)، وقد تجلّى حرصُ الكاتبة في غيرِ موضعٍ من الرّواية على مقتضياتِ روايةِ السّيرةِ الذاتيّة، من حيث الجرأة في طرحِ موضوعاتٍ اجتماعيّةٍ بجرأةٍ يندرُ تحقيقها في رواياتٍ أخرى، وهي جرأةٌ تُسجّلُ للكاتبة، وبخاصّةٍ المشاهدَ التي تسردُها دونَ حذفٍ أو إيحاءٍ أو تجميل، وكأنّ الكاتبة عينُ كاميرا ترصدُ شريطَ الذاكرة كما هو، كما في وصفها لكراهيةِ إنجاب الأنثى، وتصويرِ الفقر المُدقع في قولِها: (لك أن تتخيّلَ صديقي مشهد الطبليّة، وصينيّة فتة الخبز الجافّ مع الشاي أو مرقة العدس، وثماني كنافيش يتصارعن واحدة تقول للأخرى: صغّري اللقمة..).
وعن تَعدُّد الزّوجات وما ينجُمُ عن التعدّد من مشاهدَ اجتماعيّة. وعن حجب الإرث عن البنات، بحجّة حصرِ الأملاك داخلَ العائلة، خوفًا من تسرُّبِ الأرض للاحتلال. وعن عقوق الأبناء الذي يندى له الجبين، كما جاءَ على لسان سناء: (لا تقولي أحفاد ولا أولاد، كلّهم في الهمّ سواء..//.. عُمَر هذا، لا أتذكّرُ آخرَ مرّةٍ كلّمني بها). وعن حاجةِ الأرملةِ الفطريّةِ الغريزيّةِ لزوجٍ في مجتمعٍ لا يرحمُ. وعن اغتصابِ الفتياتِ لأسباب سياسيّةٍ قذرةٍ، كما حصلَ للفتاةِ إيمان العبيدي في ليبيا. وعن غياب العدالةِ الاجتماعيّةِ حتّى في أوساطِ المُثقّفين، وعن أطفال العراق. لهذا، فإنّ تقنيّةَ التّشويقِ والإثارةِ لدى المُتلقّي لا سقفَ لها، لأنّ مُنحنى الأحداثِ يَتصاعدُ دونَ قطع أو توقّفٍ مُتوقّع، فكلّ ما تحويهِ ذاكرةُ الكاتبة، وكلُّ ما يصطادُهُ خيالُها، يجدُهُ القارئُ واضحًا ولافتًا ومُدهشًا. وقد عبّرتِ الكاتبة عن ماهيّةِ الحدَثِ وخروجهِ عن النمطيّةِ في الباب الأخير الّذي يُعَدُّ عصارةَ الرّواية، في قولها: (ومن هنا تمضي الرّواية بنصٍّ وحشيٍّ غجريٍّ، ويقتحمُ الأبوابَ المغلقة من غير استئذان، وببعض نقاطٍ لا مكانَ لها فوقَ الحروف، قد نُلوّنُها بألفِ لون).
كما تطرحُ الرّوايةُ ذروةَ الحدَثِ السّياسيِّ مُمثّلًا بالنّكبة، وتُثيرُ المَشاهدُ السّياسيّةُ جدَلًا حولَ مسؤوليّةِ سقوطِ فلسطين عام 48، وتنبه إلى التكافل والتضامن بين النّاس بعيد النكبة، وإلى الصّامدين الّذين لم ينزحوا عن أرضِهم، بأسلوبٍ حواريٍّ مُفعَمٍ بالجرأة والدّهشةِ والتشويق، وكأنّنا أمامَ مشاهدَ دراميّة. وتصوّرُ هزيمة حزيران تصويرًا دراميًّا من خلال حوارٍ في الدّيوان، يكشفُ عن فجيعةِ الهزيمةِ ووطأةِ الحدَث. وتستلُّ الكاتبة مِن مشهد هزيمةِ حزيران مشهدًا آخرَ لا يقلُّ كثافةً وحزنًا، حينما تَشْرَعُ بتصويرِ النّزوحِ واللّاجئين، وتقتربُ الرّوايةُ في هذه المشاهدِ مِن التّسجيل التاريخيّ، لأحداثٍ ما زالتْ ويلاتُها الإنسانيّةُ نزيفًا إنسانيًّا حتّى اليوم. وترصدُ محنةَ تغريب المكان، وتهويدِ الأرض، وتزوير التاريخ والجغرافيا، وبخاصّة في الباب التاسع عشر في قول الكاتبة: (عن أيّ ناصرة تتحدّث، ناصرة اليوم أم ناصرة الأمس؟ ناصرة توفيق زياد، والأوّل من أيّار والأعلام الحمراء؟ اُنظر حولك.. كلّ ما في الناصرة مُزيّفٌ الآن). وتعرض لمشاهد مِن فجيعة الخريف العربيّ.
وفي مقابل الأحداث المصيريّة والمفصليّة تحفلُ الرّواية بأحداثٍ اجتماعيّة، تبدو مألوفةً كطقوس الزّواج والدّخلة والكنّة والحماة، ولكن ما يُميّزُ هذا المألوف من الأحداث دقة الوصف، وجرأة الطرح، ورصد البُنية النفسيّة للشّخصيّات. وتعمَدُ الكاتبة في سياق الأحداث إلى أنسنة الأشياء، وإضفاء ملاح الحياة، والإثارة على الأشياء المادّيّة، كما في الباب السّادس عشر، الذي استثمر الغلاية ذات اليد المقطوعة استثمارًا اجتماعيًّا مُفعمًا بالمشاعر الأسريّة. ويتّصفُ الفضاءُ الزمنيّ بالقفزاتِ السّريعة، فالكاتبة تُصوّرُ نكبةَ ميلادِها بفقرة واحدة، ثم تقفز زمنيًّا إلى رسم مواكب الفرح لميلاد شقيقها بفقرة واحدة، وتختمُ بفقرة تاليةٍ مأساةَ موتِ أخيها. ثلاثُ فقراتٍ تختزلُ زمنًا طويلًا، لا يَشغلُ مِن الرّوايةِ بضعَ فقراتٍ مُشبعة بالتوتّرِ والانفعال وفتح آفاق التخيّلِ لدى المُتلقّي.
وتختارُ الكاتبةُ تقنيّةَ القطع في مَسارِ مَشاهد الأحداث، وهي تقنيّةٌ تقتربُ مِنَ العرض السّينمائيّ، فحينما ينتهي السّردُ بمغادرتِها مكتب الصّحيفة، ويبدأ مَشهدُ التقائِها بصديقتِها سناء، تعودُ الكاتبة بالأحداثِ إلى مشهدِ عمَلِها في الصّحيفة، لتُخبرَ الزّميلَ الصّديقَ عن سناء، وهذه التقنيّةُ الّتي ترتبطُ بالاسترجاع أو الارتداد الزّمنيّ، تمنحُ المُتلقّي آفاقًا تخيّليّةً وتأويليّة، تعجز عنها المَشاهدُ الرّتيبة في العرض والزمن. وتجمعُ بعضَ الأحداثِ بين ثنائيّةِ المحنةِ والفرحة، والجدل والهزل، نحوَ العروس الّتي حُرمَتْ من الزّواج، بسبب عدَم الانتهاءِ مِن نسج شرشفٍ كان مهرًا لها! وتُصابُ العروسُ ليلة زفافِها بالشّلل، وتنطقُ بعدَ عشرة أيّام. أجواءٌ مثيرةٌ تقتربُ مِن فضاءاتِ ألف ليلة وليلة. بقيَ أن أشيرَ في سياقِ الحدثِ الرّوائيّ، أنّ الكاتبة وظّفتْ تقنيّةَ القطع والاستئنافِ لبعض الأحداث، كما في حكاية سناء (أم عمر).
ولا تتّسعُ المداخلة لرصدِ تجلّياتِ التّراثِ المادّيّ في الرّواية، وهي تجلّياتٌ تُجسّدُ دلالاتِ التّراثِ في صورة الغلاف، فأنواعُ التّراثِ المادّيّ تُشكّلُ مرجعيّةً تراثيّةـ وليس مِن المبالغةِ القولُ، إنّ الرّوايةَ تصلُحُ مَرجعًا بل مُعجمًا لأسماء الأدواتِ التّراثيّةِ المَنزليّةِ والزّراعيّةِ خاصّة، ومِن المُفيدِ إجراءُ دراسةٍ موسومةٍ بتجلّياتِ التّراثِ في رواية “مدينة الرّيح “. كما أنّ حضورَ الأغنيةِ الشّعبيّةِ يُمثّلُ مَفصَلًا رئيسًا للرّواية، واللّافتُ أنّ الأغنيةَ في الرّوايةِ جاءتْ مُتماهيةً مع الأحداث، إذ لا يجدُ المُتلقّي فجوةً بين كلماتِ الأغنية والبناء الفنّيّ للرّواية. أمّا اللّغة التراثيّة فحضورُها أكبرُ من التّمثيل عليها، وربّما تكونُ عبارةُ (ونظلّ نتسحسل عليها حتى غروب الشمس)، دليلًا يُثيرُ دهشة القارئ، على قدرةِ الكاتبة على نفضِ الغبارِ عن الألفاظِ التّراثيّة، الّتي تكادُ تغيبُ عن ألسنةِ النّاس، ويجدُ بعضُ النّاس حرَجًا في نطق بعض الألفاظِ الواردةِ في الرّواية، ولكن الكاتبة تختارُها بعنايةٍ، لأنّها تُمثّلُ جزءًا مِن المعمارِ اللّغويّ والدّلاليّ، فالرّوايةُ تُسهِمُ في إحياءِ جانبٍ مُندثرٍ مِن اللّغة، أو على الأقلّ تُسهمُ في حِفظِهِ وحمايتِهِ مِن الاندثار. ولا يَنبغي أن يُفهم ممّا تقدّمَ، أنّ الرّوايةَ تخلو من اللّغة الفنّيّةِ، الّتي ترتقي إلى مستوى الشّعر أو القصائد المنثورة.
وتبدعُ الكاتبة فاطمة ذياب في توظيف الأمثال الشّعبيّة لتحقيق حزمةٍ من الوظائفِ الدّلاليّة، نحو تعزيز واقعيّةِ الحدَث؛ لأنّ المَثلَ الشّعبيَّ يَحملُ طاقةً تعبيريّةً وتأثيريّةً، على المُتلقّي الّذي لا يَفصلُ بين دلالةِ المثل ودلالةِ الحدث، وإضفاء المتعة والسّخرية والدّعابة، الّتي لا تنفصِمُ عن العاداتِ والتّقاليدِ في المناسبات الاجتماعيّة، نحو المَثل (كلّه سَلف ودين، حتّى هزّ الوِسْط والرّدفين)، فهذا نموذجٌ من الأمثال الّتي تكشفُ عن نسيج العلاقات الاجتماعيّة، ويُضمرُ نقدًا خفيًّا ولاذعًا للموروثِ الشّعبيّ للعاداتِ والتقاليد.
ويميلُ البناءُ النّفسيُّ للأحداثِ بالتّحوُّلِ السّريع والمُفاجئ، مِن حالةِ الفرَح العارم إلى حالةِ الحزن القاتل، نحو الانتقالِ من فرح ميلادِ الأخ إلى حزن جنائزيٍّ لموتِهِ، ومِن الضّحكِ مع سناء، إلى تمنّي الأخيرة للموت. إنّ هذا الانزياح الحادّ في البناء النفسيّ للأحداث، يَجعلُ مِن آليّةِ التلقّي عمليّةً مُركّبةً ومُثيرةً وصادمةً ومُشوّقة. وفي الرّوايةِ مَشاهدُ ومَواقفُ تقتربُ مِن الأدب السّاخر الّذي يُصوّرُ الفجيعة تصويرًا كاريكاتوريا، نحوَ اقتراح الكاتبةِ على الزميل الصّديق، أن يكتبَ روايةً بعنوان (يوميّاتُ قطروز في حقل بطرس)، في سِياقٍ نقديٍّ لاذعٍ للغطرسةِ الأمريكيّة، جاءَ مُغلّفًا ومُقَنّعًا بحكايةٍ شعبيّةٍ اسمُها (ندّاهة الليل).
وتُطلُّ على القارئ شخصيّاتٌ فجأة تثيرُ الدّهشة، حينما تَشْرَعُ الكاتبةُ بسردِ واقعةٍ تتّصلُ بشخصيّةٍ لم تُفصِحْ عن اسمِها. إنّ دخولَ الشّخصيّاتِ إلى فضاءِ الأحداثِ دون تمهيدٍ أو توقُّعٍ مِن القارئ، يُضاعفُ يقظةَ المُتلقّي، وهي تقنيّةٌ لافتة في البناء الفنّيّ، تُسَجَّلُ للكاتبة، نحو اللّقاءِ مع سناء. وهو لقاءٌ يُحوّلُ مَسارَ الحدَثِ من مشهدٍ إلى مشهدٍ مختلفٍ في مكانِهِ وزمانِهِ، ولكنّهُ مُتّصلٌ بأبعادِهِ الوجدانيّةِ والنفسيّة. وحديثُ الكاتبة عن صديقتها (هيام) يُشكّلُ سردًا صادمًا، للمتلقّي الّذي يَشرَعُ في تأمُّلِ انهيارِ منظومة الصّداقة.
وشخصيّةُ الصّديق في مكتب العمل يُجسّدُ صديقًا افتراضيّا يحتاجُهُ الإنسان في مُعترك الحياة، فهو رمزٌ لحاجةِ الإنسان إلى الحوار مع النخبة التي تُقاسِمُنا أحزاننا وأحلامَنا وتحَدّياتِنا. شخصيّةُ الصّديق في الرّواية هو كلّ فلسطينيٍّ قابضٍ على الجمر، مُتشبّث بالعدالة الغائبة، والحالم دائما بوطن تسودُهُ الكرامة والحرّيّة. هو كلّ فلسطينيٍّ يَرفضُ الذوبان في الآخر، وهو كلّ فلسطينيٍّ لا يَستسلمُ للانكسار والخيبة، هو وهجُ الغدِ الآتي الّذي لا يُطفئُهُ رمادُ الهزيمة ودخان الغادرين العابرين.
وشخصيّة “دبدوبة” هي رمزٌ أيضًا لمناجاة النّفس، إذ حلّت دبدوبة محَلّ تقنيّةِ المونولوج الدّاخليّ في مواضعَ كثيرةٍ مِن الرّواية، وتتحوّلُ دبدوبة في الرّواية من دلالتها الرّمزيّة على المناجاة إلى شخصيّةٍ حقيقيّة حينما تتقمّصُها الكاتبة، ففي الفصل الرّابع من الرّواية، تبدو الدّبدوبة هي الطفلة الكاتبة الّتي تحظى بالهدايا، وخاصّة الكتب من جدّها. وتتنوّعُ أشكالُ السّرد، وتتناوبُ بين سردٍ بضمائرِ المتكلّم والمُخاطَب والمُتكلّم، وسردٍ بوساطة المُذكّرات والرّسائل.
بقلم د. عمر عتيق
0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة