مسجد قيسارية ضارب بجذور التاريخ ومئذنته تناطح السحاب
تاريخ النشر: 03/12/12 | 4:05
قيسارية تاريخ عريق تقع قيسارية إلى الجنوب من مدينة حيفا، وتبعد عنها نحو 37 كم، مساحة أراضيها بحسب خارطة فلسطين التاريخية 31,786 دونما، قُدّر عدد سكانها عام 1922 بنحو 346 نسمة، وهي تُعدّ مدينة فلسطينية تاريخية عريقة، حيث تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بناها الكنعانيون وسموها "برج ستراتون"، وهي من أقدم المناطق التي سكنها البشر، ذات موقع أثري، وكان "هيرودوس الرومي" قد أطلق عليها اسم "قيصرية" نسبة إلى القيصر الروماني "أغسطس".
تُعدّ البلدة ذات موقع أثري سياحي، إذ تحتوي على بقايا مدينة رومانية وجدران وميناء وحلبة سباق ومعبد وجدران صليبية وقاعدة تحصين مائلة وبناء روماني مستطيل الشكل وأساسات وقطع معمارية وصخور منحوتة وأقنية، ويُعدّ موقعها حافلا بالآثار الرومانية والبيزنطية والإسلامية والصليبية، وهناك بعض المباني القديمة لا تزال تحتفظ بشكلها إلى حد بعيد.
وكان الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه قد حاصر قيسارية خلال الفتوحات الإسلامية في جمادى الأولى لعام 13هـ/ 634م، لكنها لم تفتح، ولمّا توجه إلى مصر عهد بحصارها إلى يزيد بن أبي سفيان، فقاتل يزيد الروم في قيسارية قتالا شديدا، إلا أنه اضطر بسبب مرضه (18هـ/ 639م) إلى أن يستخلف عليها أخاه معاوية رضي الله عنه، بعد أن أخذ موافقة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك، وسار معاوية في جنده حتى نزل في أهل قيسارية، واستمر القتال حتى فتحها في شوال من العام 19هـ/ 640م، بعد أن مضى على حصارها ما يقارب سبع سنين، وعندما وصل نبأ فتحها الخليفة عمر بن الخطاب كبر ونادى أن قيسارية فتحت قسرا، فكبر المسلمون. وكانت قيسارية آخر ما فتح من مدن الشام.. وفي عام 975م احتلها البيزنطيون وأخرجوا الفاطميين منها، ثم ما لبث الفاطميون أن استعادوها. وقد تداولها المسلمون والإفرنج بين عامي 1101-1265 م فاحتلها الظاهر بيبرس بعد حصار وقتال شديدين وأمر بتدميرها وتدمير قلعتها. وبقيت قيسارية خربة حتى عام 1878م عندما نزلها البشانقة (البوشناق)، وهم من مسلمي البوسنة والهرسك، فعمروها وبدأت تنمو من جديد، وقد رمموا مسجدها. وفي العام 1918 سقطت بيد الاحتلال البريطاني. وفي عام النكبة أشرف الضابط "إسحق رابين" على ترحيل سكانها وتفريغ القرية من أهلها، ودمّر معظم منازلها، أما الآثار الإسلامية العريقة فهدمت أو شُوّهت، وحول المسجد إلى مكتب هندسة لشركة تطوير، وحولت المصليات الصغيرة إلى مراحيض عامة.
مسجد قيسارية بني المسجد الجامع في قيسارية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ثم أعيد ترميمه في العهد المملوكي، ومن ثم في القرن التاسع عشر على يد مواطنين بوسنيين هاربين من ملاحقة السلطات النمساوية. وكان الرحالة "ناصري خسرو" قد وصف المسجد قبل عدة قرون فقال: "المسجد الجامع على شاطئ قيسارية في فلسطين المحتلة مسجد جميل، يطل المصلي في محرابه على منظر البحر الجميل".. لكن هذا الجمال الرباني لم يستمر كمسجد تقام فيه الصلوات، فقد نُفذت في المسجد أعمال ترميم واسعة ليحول إلى مطعم شرقي يضم خمارة يعرض فيها نحو تسعين نوعا من الخمور للبيع، وهذا ما اعتبرته سلطة تطوير "قيسارية" إحدى إنجازاتها العمرانية في قيسارية! إذ إن المطعم والخمارة افتتحا بعد توجه منها إلى كل من "أوري برمياس" و"دينيئل زاخ"، صاحبي مطعم آخر في مدينة تل أبيب، وإقناعهما بافتتاح هذا المطعم، وبعد إجراء أعمال بناء وتغيير واسعة داخل غرفتي المسجد -استمرت أكثر من سنة- افتتح المطعم والخمارة، وقد روج للمطعم في الصحف ومواقع الإنترنت على أنه يحتوي على خمارة فاخرة، بالإضافة إلى عرض صور عدة للمطعم "البار"، تظهر منه صورة مئذنة المسجد، مع صور لأصحاب المطعم وهم يمسكون بأيديهم كاسات الخمر على خلفية المسجد، وبرزت المئذنة بوضوح وهي تشكو إلى الله جرائم المفسدين في الأرض. وإمعانا في الانتهاك الصارخ لمسجد قيسارية، أعلن القائمون عليه أكثر من مرة استضافتهم لحفلات غنائية يُحتسى فيها الخمر، كاحتفالات "برجولة العالمية"، وهو احتفال عالمي يعرض خلاله أجود (أوسخ) أنواع الخمور العالمية، وغيرها من الاحتفالات التي تقام داخل المسجد وفي فنائه وتستمر حتى ساعات الليل المتأخرة.
تحولات جذرية أما المسجد الجامع على شاطئ البحر فقد حُوّل قسم منه إلى مخزن والآخر إلى متحف وصالة عرض، وافتتح فيه لبعض الوقت مطعم باسم "مطعم تشارلي"، وبعد 45 سنة لم يسمع صوت المؤذن ولم تقم الصلاة فيه، حتى كان يوم 7/1/1993 حيث نظمت مؤسسة الأقصى أول صلاة جمعة فيه بعد النكبة، وكان خطيبها فضيلة الشيخ رائد صلاح- رئيس الحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني- الذي استشعر الموقف فخاطب جموع المصلين قائلا: هذه السياسة العنصرية التي بدأت المؤسسة الإسرائيلية تنفيذها كجزء لا يتجزأ من نكبة فلسطين، فعلى آثار نكبة فلسطين أزالت المؤسسة الإسرائيلية أكثر من 1200 مسجد عن الوجود، وعلى أثرها أيضا انتهكت المؤسسة الإسرائيلية حرمة ما تبقى من المساجد والمصليات والمقابر، إذ حولت ما تبقى من مساجدنا التي بنيت قبل العام 1948 إلى مطاعم وخمارات ومتاحف وكـُنس وحظائر لتربية المواشي، وجرفت آلاف المقابر التي كانت موجودة قبل 1948 وبنيت على أنقاض عظام موتانا الفنادق والأحياء السكنية وشقت الشوارع وأقيمت المتنزهات العامة، ولم تتردد في تحويل المصليات إلى كنس يهودية.
وتابع الشيخ في خطبته قائلا: إن الأنكى من كل ذلك أن هذه السياسة التي تفوح من نتن الاضطهاد الديني ما زالت تمارس الظلم ضد مقدساتنا عموما حتى هذه اللحظة، وما المراسلات والمكاتبات بين مؤسسة الأقصى وبين السلطات لرفع اليد عن مسجد قيسارية -والتي تراوحت بين التأجيل والمماطلة- إلا تجسيدا لمشهد حي للواقع المؤلم للمسجد، ولكن يظل الأمل يحدونا بأن عذابات مسجد قيسارية يوما ستنتهي ويرفع الأذان مجددا، وما ذلك على الله بعزيز.
مسجد قيساريا في عيون شاعر فلسطيني في أعقاب زيارة الشاعر الفلسطيني فاروق مواسي من مدينة باقة الغربية لمسجد قيسارية كتب قصيدته بعنوان "الشيخ والبحر" جاء فيها: المَسْجِدُ أَضْحى حَانَهْ وَخُشوعُ المُؤمِنِ -كانَ البَحْرُ بَيانَهْ- أَمْسى في اللُّغَةِ الأُخْرى مُزْمورَ مَجانَهْ الصَّوْتُ يُجَلْجِلُ يُزْجي إيمانَهْ لكِنْ مِنْ عِرْبيدٍ يُطْلِقُ أَرْسانَهْ كانَ الشَّيْخُ عَلى عادَتِهِ يَجْلِسُ وَيَبُثُّ البَحْرَ حَكايا بَعْدَ صَلاةِ العَصْرْ والبَحْرُ يُسَرِّي أَحْزانَهْ ـ فَأمانًا يا بَحْرْ قَدْ أَوْدَعْتُ فُؤادي بِجُمانَهْ فَأَعِدْ لي ما أودِعْتُ أَمانَه تسْأَلُ أَمْواجٌ مُتَكَرِّرَةُ الإيقاعْ في صَوْتٍ مُلْتاعْ عَنْ غَيْبَةِ شَيْخْ فَأَمانَتُهُ في القُمْقُمِ في القَاعْ ـ ماذا تَطْلُبُ؟ (في لُغَة لَيْسَتْ لُغَتي) ـ أَطْلُبُ كَأسًا (وَأَنا مُسْلِمْ) كَيْ أَنْسى بَلْ كَيْ أَذْكُرَ دَرْسًا أَذْكُرَ رَأسًا أَنْسى أَذْكُرَ أَذْكُرَ أَنْسى أَذْكُرَ أَذْكُرَ أَجْتَرَّ مَهانَهْ البَحْرُ يُمَزِّقُ أَرْدانَهْ مِئْذَنَةٌ حُبْلى بالنَّقْمَهْ (والنِّعمَةُ للسُّيَّاح) وَصَديقي يَجْتازُ مَكانَهْ تقرير وتصوير: سمير ابو الهيجاء
أشكرك لك اهتمامك بالقرى والمدن الفلسطينية والمقدسات الإسلامية. تقرير جيد ، يمتاز بالدقة والموضوعية. حبذا لو تتصل، أخي سمير، بي لأزودك بمعلومات قيمة عن القرى جت وعين حوض وإجزم.